السيد الميرزا مهدي الحسيني الشيرازي..
من حلقات الدرس الى جهاد الكلمة
|
*سعد الشمري
قال تعالى: "إنما يخشى الله من عباده العلماء".
يُعد السيد ميرزا مهدي الحسيني الشيرازي من العلماء الذين تركوا الأثر الكبير في نفوس أهالي كربلاء المقدسة والعراقيين بشكل خاص، والمسلمين في كل مكان بشكل عام. فقد جمع بين العلم والصفات الأخلاقية وبين الدور الاجتماعي الرؤية الحضارية وما تتطلب من مواقف صعبة وحازمة، فاكسبه ذلك، الحبّ والاحترام والتبجيل من عامة الناس ومن شريحة أهل الثقافة والعلم، وكان يضرب به المثل في الورع والزهد والتقوى الى أبعد الحدود، مما جعله ذلك صاحب كرامات تذكر و يروى أنه كان كثير الحفظ وجيد الخط وهو يكتسب فنون العلم الإلهي ثم يقرنه بالعمل كما هو حقه.
ولادته
ولد المرجع الديني آية الله العظمى الإمام السيد مهدي الشيرازي في كربلاء المقدسة عام 1304 هـ ليس غريب أن ينشأ هكذا فقد تربي وكبر في بيت علم وفضيلة وتبوأ أفراده المكانة المرموقة في علوم الدين والشريعة وكانوا رموزاً حقيقيين للدين وحماة لشرعه المبين فوالده السيد الميرزا حبيب الله الحسيني الشيرازي بن السيد آغا بزرك ابن السيد ميرزا محمود بن السيد اسماعيل، والد الميرزا مهدي هو ابن اخ المجدد الشيرازي أي أن المجدد هو عم للميرزا حبيب الله على ما جاء في كتاب (معارف الرجال في تراجم ا لعلماء والأدباء)، أما أم الميرزا فهي منتسبة لبيته، و زوجته كانت من حفيدات المجدد الشيرازي، وبقي مع والده حتى اكمل السابعة من عمره الشريف وقد أرسله والده الى بعض الكتاتيب في صحن جده الإمام الحسين (ع) فأخذ مبادئ القراءة والكتابة لذا فإنه أخذ مقدمات العلوم الدينية من نحو وصرف وحساب ومنطق وسطوح الفقه والأصول من أساتذة حورزتها الدينية التي كانت آنذاك تحفل بكبار العلماء والأساتذة.
رحلته لطلب العلم
سافر السيد ميرزا مهدي (رحمه الله) بصحبة والده الى سامراء التي كانت آنذاك عامرة بالمدارس العلمية، بفضل الوجود المبارك للمجدد الامام السيد حسن الشيرازي (رحمه الله)، فأخذ يتلقى مبادئ العلوم من نحو وصرف ومنطق وقد عرف بين طلبة العلوم بجده واجتهاده حتى ضرب به المثل، فقد كان يوزع أوقات نومه بين اشتغاله بالدروس والمطالعة، وكانت تصل مدة النوم ساعتين ونصف فقط طوال الأربع والعشرين ساعة. وفي تلك المرحلة طوى السيد الشيرازي مراحل بعيدة في طلب العلم وبات على اعتاب الاجتهاد قبل أن يهاجر الى الكاظمية بعد أن خاف ان يحدث في سامراء مثلما حدث في الكوت آنذاك التي تعرضت للحصار من قبل القوات البريطانية المحتلة ولفترة طويلة من الزمن حتى اصابتها مجاعة شديدة ومات على أثر ذلك الكثير من الناس. وفي الكاظمية بقي حوالي سنتين اشتغل السيد مدة بالبحث والتحقيق وكذا التدريس لفترة طويلة مستفيدا من وجود كبار العلماء والاساتذة في هذه المدينة المقدسة.
انتقل السيد الميرزا مهدي (رحمه الله) الى النجف الأشرف، مدينة العلم والفضل، حيث باب علم رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وأقام بها ما يقارب العشرون عاماً حتى بلغ مدارج العلوم العليا وحاز مرتبة عالية في الفقه والاجتهاد.
تبلور الشخصية في كربلاء المقدسة
عندما عاد الميرزا مهدي (رحمه الله) الى مسقط رأسه كربلاء المقدسة، كان يحلّ فيها المرجع الكبير والفاضل السيد آغا حسين القمي، صاحب المواقف المشهودة للدفاع عن قيم الدين وأحكامه في ايران التي كانت تنحو تدريجياً نحو التحلل الخلقي والانسلاخ عن الدين على يد الأداة البريطانية آنذاك (رضا خان) والذي تحوّل فيما بعد – بقدرة الانجليز- الى (رضا شاه)، فوقف الميرزا الى جانب السيد القمّي مستلهماً من روح الجهاد والصدح بكلمة الحق ضد سلطان جائر. وبعد وفاة المرجع القمّي سنة 1366هـ التفّ الناس حول الميرزا مهدي في التقليد والاتباع في أحكام دينهم وشؤون حياتهم.
وقد برز نجم الميرزا مهدي الشيرازي (رحمه الله) على الساحة السياسية والاجتماعية، عندما تعرّض العراق لأخطر موجة تضليل فكري وثقافي قادته الماركسية، وتحدت فيه القيم الاخلاقية والتعاليم الدينية المترسخة في جذور المجتمع، ولم يتورع أتباع هذا المدّ من الاقتراب الى المدن المقدسة وفي مقدمتها النجف الأشرف وكربلاء المقدسة، وركزوا فيها نشاطهم محاولين نشر بعض الافكار والتصورات التي توهم الشريحة الفقيرة والمضطهدة بسبب سياسات النظام الملكي الجائر، بانها صاحبة حق في كل شيء، وإن سعادة الانسان لا تتحقق بالايمان بالله والتوكل عليه، إنما بالتوكل على نفسه بالكد والعمل، وشعارهم في ذلك هو المساواة أو (الاشتراكية)، فلا عدالة ولا قيادة رشيدة ولا مبادئ ولا عقاب ولا ثواب...!
وعندما أحسّ (رحمه الله) بالخطر الداهم على مصير الالاف من عامة الناس البعيدة عن المطالعة والثقافة والتمييز بين الجيد والرديء، لم يتوان عن النهوض بكل ما يحمله من قدرات علمية وهمّه عالية، للتصدّي لهذه الافكار الدخيلة، علماً إنه (رحمه الله) لم يكن يواجه أشخاص معدودين وغرباء عن الساحة، إنما من أهل البلد تسندهم قوى وامكانات حكومة مقتدرة ومهيمنة. واذا اردنا المقارنة، ما علينا إلا التشبيه – والامثال تضرب ولا تقاس- بين الميرزا وخصومه، وبين علي بن أبي طالب و عمر بن ودّ العامري في واقعة الخندق التاريخية.
الصراع من أجل الحق
المعروف عن الميرزا مهدي (رحمه الله) الحلم والوداعة والخلق الرفيع، وليس الخشونة والصدام، لكنه كان متنمّراً في ذات الله، لا تأخذه في الله لومة لائم، كما لم يكن يحمل ذرة من الطموح الى الرئاسة أو الزعامة أو حتى الوجاهة، إلا الحرص على الدين وتعاليم الاسلام ومدرسة أهل بيت رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ولذا كان يبذل جهده لأن يبني قاعدة عريضة وقوية للحوزة العلمية في كربلاء المقدسة، تكون قاعدة ثقافية للمجتمع، وهذا ما كان يطرحه الى الزعماء السياسيين في بغداد، ويطلب منهم العون والمساعدة على تطوير الحوزات وعدم وضع العراقيل أمامها، فجاء الجواب من مكان آخر، حيث تم استهداف كل ما يمتّ بصلة الى الدين والالتزام بالتعاليم الاسلامية و الاخلاقية.
وأول خطوة على هذا الطريق أن بدأ (رحمه الله) بنقل بعض الجهد المبذول من داخل الحوزة العلمية، الى أوساط المجتمع في محاولة منه لإشراك عامة الناس في فهم الاحكام الاسلامية وإدراك أهمية الدين في الحياة، وبما إنه رزق بفضل من الله تعالى بثلّة من الأولاد يحملون روح التحدي والاصرار والعزيمة، فقد وجه التعليمات بانشاء هيئات التبليغ وتعليم القرآن الكريم، الى جانب تشجيع وتكريس الثقافة الحسينية من خلال الحثّ على المشاركة في الشعائر الحسينية وإحياء المناسبات الدينية في كربلاء المقدسة وباقي مدن العراق. فكان يشجع ويبذل المال لإقامة المجالس الحسينية في المدن والقرى النائية.
وقد توّج هذا النشاط بإقامة أول مهرجان عالمي لإحياء ذكرى مولد أمير المؤمنين (عليه السلام)، في كربلاء المقدسة، وكانت البداية عام 1959م، وقد تضمن برنامج المهرجان خطابات وقصائد تحمل رسالة الدين وأهل البيت (عليهم السلام)، وقد برز في هذا المهرجان في سني الستينات المفكر والمجاهد الشهيد آية الله السيد حسن الشيرازي، حيث ألهب ظهور أصحاب الأفكار الدخيلة بقصائده الرائعة التي كان يحفظها الناس لفترات من الزمن، بل ذهب أكثر من ذلك عندما تحدّى القوى السياسية التي تقف خلف تلكم الافكار وقال قولته المشهورة ما تزال تدوي في أرجاء كربلاء المقدسة:
واعمل لتطبيق الكتاب مجاهداً إن العقيدة مصحفٌ وحسامُ
واسحق جباه الملحدين مردداً لا السجن يُرهبني ولا الاعدامُ
وقد دفع الشهيد لقاء هذه المواقف والكلمات الصاعقة، ثمناً باهضاً عندما تعرّض للسجن والمداهمات وحرق الكتب والمؤلفات ثم التعذيب وحرق البدن و وسائل تعذيب عديدة كانت مبتكرة آنذاك. حتى نال وسام الشهادة في بيروت عام 1980.
كان لهذا الحفل صدى كبير وواسع على الصعيد الجماهيري والرسمي بل حتى الدولي، فقد كان يحضره مسؤولون حكوميون وأدباء ومثقفون من داخل وخارج العراق، وكان يقام في صالة (الحسينية الطهرانية) المجاور لحرم سيد الشهداء الإمام الحسين (عليه السلام) واليوم يُعرف بـ (حسينية الامام علي).
وقد ترافقت هذه الاجواء مع الفتوى الشهيرة التي أطلقها المرجع الأعلى في النجف الأشرف في حينها، الامام السيد محسن الحكيم (رحمه الله) ومفادها: (إن الشيوعية كفرٌ وإلحاد)، لتتضافر الجهود وتتوحد الكلمة على حماية الدين وعقائد الناس. وكانت الزيارة التي قام بها المرجع الحكيم الى كربلاء المقدسة، من المنعطفات التاريخية في النشاط المرجعي في العراق، حيث أعدّ له الميرزا مهدي لجنة خاصة متشكلة من خيرة المدينة المقدسة ومن المؤمنين المخلصين لاستقبال موكب السيد الحكيم ومواكبته الى أعتاب الروضة الحسينية المشرفة، حيث ديوان الميرزا مهدي الشيرازي، وكان ذلك اللقاء الودّي والحميم بين المرجعين الكبيرين. وحسب المصادر التاريخية المتطابقة وأقوال أهالي كربلاء المقدسة، فان المرجع الحكيم أمضى أسبوعين في حماية الميرزا مهدي قبل أن يعود الهدوء والاستقرار الى النجف الأشرف بعد موجة من أعمال الشغب والعنف ضد المرجعية الدينية هناك.
في عام 1380هـ الموافق لعام 1960م لبى الميرزا مهدي نداء ربه في عمر ناهز السادسة والسبعين عاماً ودفن في الحرم الحسيني الشريف، وكان نبأ وفاته كوقع الصاعقة على أهالي كربلاء المقدسة الذين خرجوا عن بكرة أبيهم لتشييع هذا العالم الرمز يحملون نعشه على الأكف، فقد ترك للتاريخ وللأجيال الدروس والعبِر والمواقف التي يحتذى بها ويمكن أن تكون منهاجاً ونبراساً للثائرين والطامحين نحو السمو والتقدم.
|
|