في ذكرى مولده أول رجب الأصبّ
الإمام الباقر (عليه السلام) .. إخلاق محمدية لبناء الإنسان
|
*إعداد / عبد الرحمن اليوسف
لا يختار الله عبداً لمقام الإمامة، ويجعله حجة بالغة على خلقه إلاّ إذا اكتملت فيه الخصال الحميدة، وكان مثلاً لما أقره سبحانه في كتابه من خشية الله وتوقيره، وتعظيمه وتجليله، وإخلاص العبودية له، والتي تتجلى في جملة أقواله وأفعاله، فلا يقول إلاّ صواباً ولا يعمل إلاّ رشداً.
وإذا كنا ننقل بعض خصال الإمام الباقر (عليه السلام) الحميدة، أو خصال أحد المعصومين (عليهم السلام)، فلكي نأتي بالشواهد الواضحة التي تدلنا على أمثالها، وليس لأننا نريد أن نختصر كل حياة الإمام فيها، أو نحصي فضائله وخصاله الحميدة، كلا.. لأننا نعرف سلفاً أن حياتهم كانت صورة واقعية عن القرآن الكريم، بَيْدَ أن ما بلغنا منها لم يكن مستوعباً لكل جوانب حياتهم، لأن جانباً منها إنبهر به المؤرخون فأكثروا فيه الحديث، واكتفوا بقياس سائر الجوانب عليه، فمثلاً ذكروا من حياة الإمام السجاد جانب العبادة، ولم يتحدثوا كثيراً عن جانب العلم، بينما عكسوا الأمر فيما يتصل بحياة الإمام الباقر (عليه السلام).
من هنا نكتفي ببعض الإشراقات التي وصلت إلينا من حياة الإمام ونترك للقارئ أن يقيس سائر أبعاد حياته عليها. قال ابن شهراشوب في المناقب: (كان أصدق الناس لهجة، وأحسنهم بهجة، وأبذلهم مهجة، وكان أقل أهل بيته مالاً، وأعظمهم مؤونة، وكان يتصدق كل جمعة بدينار، وكان يقول: (الصدقة يوم الجمعة تُضاعف لفضل يوم الجمعة على غيره من الأيام) وكان إذا أحزنه أمر جمع النساء والصبيان ثم دعا فأمَّنوا، وكان كثير الذِّكْر، كان يمشي وإنه ليذكر الله، ويأكل الطعام وإنه ليذكر اللـه، ولقد كان يحدِّث القوم وما يشغله عن ذكر اللـه، وكان يجمع ولده فيأمرهم بالذكر حتى تطلع الشمس، ويأمر بالقراءة من كان يقرأ منهم ومن كان لا يقرأ منهم أمره بالذكر ).
يقول الشيخ المفيد (رحمه الله) :(وكان ظاهر الجود في الخاصة والعامة، مشهور الكرم في الكافة، معروفاً بالتفضل والإحسان مع كثرة عياله وتوسّط حاله ). وكان من شدة خشوعه ما يذكره ( أفلح ) مولى أبي جعفر (ع): خرجت مع محمد بن علي حاجّاً، فلما دخل المسجد نظر إلى البيت فبكى حتى علا صوته، فقلت: بأبي أنت وأمي إن الناس ينظرون إليك فلو رفقتَ بصوتك قليلاً، فقال لي: ويحك يا أفلح، ولم لا أبكي، لعل الله تعالى أن ينظر إليّ منه برحمة فأفوز بها عنده غداً.
ويقول نجلُه الإمام الصادق (عليه السلام) وهو يصف تَبَتُّل والده إلى الله: (إني كنت أمهد لأبي فراشه فأنتظره حتى يأتي، فإذا أوى إلى فراشه ونام قمت إلى فراشي، وإنه أبطأ عليّ ذات ليلة فأتيت المسجد في طلبه وذلك بعد ما هدأ الناس، فإذا هو في المسجد ساجد، وليس في المسجد غيره، وسمعت حنينه وهو يقول: سبحانك اللـهم أنت ربي حقاً حقاً، سجدت لك تعبُّداً ورِقاً، اللـهم إن عملي ضعيف فضاعفه لي، اللـهم قني عذابك يوم تبعث عبادك، وتُب عليّ إنك أنت التواب الرحيم.).
وكان(عليه السلام) يستلهم من كتاب ربه معارف الدين حتى أنه كان يدعو الرواة أن يسألوه عن مصدر أقوالهم من القرآن، هكذا يروي أبو الجارود قائلا: قال أبو جعفر (ع): إذا حدثتكم بشيء فاسألوني عن كتاب الله، ثم قال في بعض حديثه: إن رسول الله نهى عن القيل والقال، وفساد المال، وكثرة السؤال. فقالوا: يابن رسول اللـه وأين هذا من كتاب الله؟ فقال: إن اللـه عزّ وجلّ يقول في كتابه: "لاَ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِن نَجْوَاهُمْ" (النساء /114) وقال: "وَلاَ تُؤْتُوا السُّفَهَآءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللـه لَكُمْ قِيَاماً" (النساء/5) وقال: "لاَ تَسْاَلُوا عَنْ أَشْيَآءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ" (المائدة /101). وإذا سأله أحد عن حاله، إستغل السؤال لتذكير نفسه والسائل بالله، فقد روي أنه قيل لمحمد بن علي الباقر (عليه السلام): كيف أصبحت؟ قـال: "أصبحنا غرقى في النعمة، موتورين بالذنوب، يتحبب إلينا إلهنا بالنعم، ونَتَمَقَّت إليه بالمعاصي، ونحن نفتقر إليه وهو غني عنّا. وكان (عليه السلام) شديد التسليم لأمر الله، فقد روى بعض أصحابه: كان قوم أتوا أبا جعفر (ع) فوافَوا صبياً له مريضاً، فرأوا منه إهتماماً وغماً، فقالوا: والله لئن أصابه بشيء إنا نتخوف أن نرى منه ما نكره، فما لبثوا أن سمعوا الصياح عليه، فإذا هو قد خرج عليهم منبسط الوجه في غير الحال التي كان عليها، فقالوا له: جعلنا الله فداك، لقد كنا نخاف مما نرى منك أن لو وقع ان نرى منك ما يغمنا، فقال لهم: "إنا لنحب أن نُعافى في من نحب، فإذا جاء أمر اللـه سلّمنا فيما يُحب.
أما معاشرته لإخوانه فقد كانت غاية في الأدب، فمثلاً يحكي أبو عبيدة عن آداب عشرته في السفر فيقول: كنت زميل أبي جعفر (ع)، وكنت أبدأ بالركوب ثم يركب هو، فإذا استوينا سلّم وسأل عن صحتي مسألة رجل لا عهد له بصاحبه، وصافح، وكان إذا نزل نزل قبلي، فإذا استويت أنا وهو على الأرض سلم وسأل عني مسألة من لا عهد له بصاحبه، فقلت: يابن رسول اللـه إنك تفعل شيئاً ما يفعله مَن قِبَلَنا، وإن فعل مرة لكثير، فقال:أما علمتَ ما في المصافحة؟ إن المؤمنَيْن يلتقيان فيصافح أحدهما صاحبه فما تزال الذنوب تتحات عنهما كما يتحات الورق عن الشجر والله ينظر إليهما حتى يفترقان.
كان في تعامله مع الناس برّاً عفيفاً، وكان يعفو عن السيئة أنّى استطاع إلى ذلك سبيلاً، وكان لذلك أطيب الأثر في نفوس الناس، فقد قال له نصراني يوماً: أنت بقر! قال: لا، أنا باقر. فقال: أنت ابن الطباخة ( يريد تعييره بها ). قال: تلك حرفتها. قال: أنت ابن السوداء الزنجية البذية! قال: إن كنتَ صدقتَ غفر الله لها، وإن كنتَ كذبتَ غفر الله لك، فانبهر النصراني من أخلاق الامام، ودعاه ذلك إلى الإسلام على يديه.
ونختم حديثنا عن عِشرة الإمام بحديث يرويه الإمام الصادق (عليه السلام) يقول: (أعتق أبو جعفر من غلمانه عند موته شرارهم وأمسك خيارهم. فقلت: يا أبته تعتق هؤلاء وتمسك هؤلاء؟ فقال: إنهم قد أصابوا مني حَزَناً فيكون هذا بهذا). هكذا ضرب الإمام أروع الأمثلة في الخصال الحميدة والآداب الرفيعة، ولا ريب أن الرواة لم ينقلوا لنا إلاّ نزراً يسيراً من جوانب حياته التي تفيض بالحكمة والرشاد.. فسلام اللـه عليه أبداً وصلاته عليه دائماً سرمداً.
|
|