قصة قصيرة..
كائنات في زجاجة
|
* عدنان عباس سلطان
أزاح ظل البوابة توهج النهار عن جسده وهو يدخل تحت قوسها الهائل. يكاد قميصه يتقد من الحرارة. فتح الازرار واجنح ذراعيه للنسمة المتباطأة مظهراً المناطق المنقوعة بالعرق تحت أبطيه كان كمن يحاول ان يطير متذكراً عباس بن فرناس وجناحي الشمع واللتين طار بهما الى الدولة البعيدة بلا جواز ولا رسوم!
رأى انه يصعد بطريقة ما وعلى نحو غير مفهوم الى أعلى القوس الهائل ثم يطير من هناك ترافقه الريح او تدفعه الى زرقاء او الساحة الهاشمية. شعر وهو يرى تلك المدن لأول مرة انه ليس بحاجة الى تفاصيل عنها يشرحها له رجل صادق خاض تجربة السفر فقد استبشر الناس هناك وتنفسوا بارتياح فلم تتوقف اعمالهم بوجود رجل الفضاء وهو يشمّر عن ساعديه وينزع جناحي الشمع. كان وهو يفكر بهذه الطريقة، قد مد يده الى جيبه واخرج أوراق وهوية مميزة بصورة متعبة والقاها في زاوية البوابة، رماها مع نظائر لها من هويات واوراق واعقاب سجائر كون عليها الزمن والغبار غطاءً غامضاً تحسسّ جواز السفر في جيبه الآخر شاعراً بأنه ينزلق امام اصابعه بين الاضلاع ويلامس فؤاده المفعم بشيء لايفهمه لكنه رغم ذلك فان عزمه لم يفقد صلابته وانه ماض باتجاه البئر المجهول ليقع فيه عنوة ولايهمه كيف تكون النتائج لانها بتقديره لن تكون بأسوء ما كانت عليه على الدوام.
قذف اول خطوة الى الامام ولكن ساقه الاخرى أبت ان تتحرك وهو يرى انساناً يؤوب اتجاه البوابة آتياً من الحدود ولدى وصوله استحال الذهول الى عجب! فالرجل الآتي قطعة زرقاء. ملابسه ووجهه وقدماه الحافيتين. فكر بأن الحياة تحفل بكثير من الاشياء العجيبة التي تثير الاستغراب. ليس لزاماً عليه السؤال عنها طالما لاتدخل في دائرة الفائدة. هكذا فنّد الامر وهو يرد السلام باعتيادية :
ـ وعليكم السلام من اين جئت ايها الاخ؟
تبسّمم الازرق وهو يقول: عجالة متفائلة ومسرورة ايضاً وفأل جيد!
ـ أجأت من هناك؟ قال الازرق وهو يمسح جبينه.
ـ نعم؛ أهناك ساقية قريبة على ما اعتقد؟ اجابه باهتمام:
ـ بلى؛ ستجدها على مسافة يسيرة من هنا. ثم اردف:
ـ ألم تسبح فيها بعد؟ قال مصححاً :
ـ لا. اقصد اني ساعبر الحدود. قال الازرق بتهكم:
ـ الا تخشى الغرق يا ولدي؟
وقد نطق (يا ولدي) بصوت غنائي!
وقال الرجل غير مبالٍٍ بتهكمه:
ـ ساكون ممتناً لو اعطيتني نصائحك والمجرب حكيم. قال الازرق وهو يخلع قمصيه الرطب بالعرق:
ـ ليس عندي نصائح وما انا بحكيم.
قال الرجل محتجا:
ـ كيف ذاك وقد جئت من هناك. لم يأبه الازرق لحجته واخذ يبحث في زاوية البوابة ويقلّب الاوراق والهويات لكنه قال دون ان ينظر اليه:
ـ لا تعجب كثيراً فكثرة العجب تجعل من المرء أبلهاً او لنقل غبيا بأدنى الاحتمالات فانا كنت نائماً لم اصح من نومي إلاّيوم امس فقط... أمس فقط صحوت فادركت الطريق، قال الرجل بصبر أيوبي:
ـ اني ارى فيك الحكمة ولست اصدق ماتقول. قال الازرق بحيوية وهو مبتسم:
ـ لقد وجدتها! تساءل الآخر بحيوية ايضا:
ـ ماذا وجدت؟ قال وهو يعرض الاوراق بين اصابعه:
ـ أوراقي والهوية. وبعد ان هدأت ابتسامته الزرقاء قال وهو يتأمل حاجياته:
ـ لكن صورتي مشوّهة ليس كما رميتها في العام الماضي. ثم اردف متسائلاً :
ـ أ يمكن ان تشيخ الاشياء كالانسان؟
ـ لا ادري لكني رأيت حجمي يصغر حتى صرت بحجم يعسوب تملكني الخوف من التلاشي او التحول الى ثقب صغير يلتهم الغبار من دون سديم او مكعب زمني مثل حجر صغير يخترق غلاف الحياة ويغوص في التراب لكن شيئاً من الرحمة كان ينتظر من يحتاج اليه كانت تلك الرحمة على شكل الكترون!
توقف الازرق لبرهة ثم اكمل:
ـ قطع نومي بعد فترة احساس بألم فظيع، شيء يشبه السقف وقع على جسدي دفعة واحدة لكني لم أمت من سطوة ختم الإقامة، صحوت امس من سباتي ورأيت الكتروني الوحيد يدور حولي بحنان لطمت وجهي وانا اسأل نفسي: كيف غاب عن بالي اغلاق الجاذبية طيلة هذه المدة؟
ـ وهل اغلقتها؟
ـ بلى ولكن بلا فائدة، البلاد باردة لقد دست نفسي في ثقب سيارة وعدتُ الى حدودنا وواجهتني شمسنا الغضبة وهي تصهر الحديد وتبلي الجديد هل يستهويك السجع؟
لم يجبه الرجل كان يتأمل الافق الرميض فاكمل الازرق:
وبطبيعة الحال اخذ جسدي يلتهم الالكترونات واخذت اكبر حتى بلغت ما انا فيه لكني لم اتخلص من حبر الختم كما ترى واخيراً لست حكيماً ولا أفيدك بأي نصيحة.
تحرك الرجل الآخر نحو الزاوية والتقط الاشياء التي تخصه ثم قال:
ـ بلى؛ ارى انك حكيم وسأدلك على الساقية ونسبح فيها معاً ثم اكمل وهو يرفع هويته امام ناظري الازرق:
ـ صورتي لم يبصق عيها أحد!
قال الازرق:
ـ جميل ان تكون هويتك هي الناجية الوحيدة!!!
|
|