أبو العلاء المعري .. بين التاريخ والمؤرخين
|
*هادي الشمري
اعتاد المؤرخون اقتفاء اثر من سبقوهم وترسّم خطاهم في وصف الشخصيات التاريخية والانضواء تحت ركام التقليد الاعمى غير آبهين بما يصيب وصفهم هذا من ظلم واجحاف بحق تلك الشخصيات او اذا ما كان هذا الوصف مطابقاً للحقائق التاريخية ام لا، فقد تلقّنوا ما سطّر اسلافهم على انها من المسلّمات التي لا تقبل الجدال او الشك دون الرجوع الى التحقيق والتمحيص وكسر هذا الحاجز التقليدي المجحف وكأنهم قد اتفقوا على العمل بقول الشاعر:
إذا قالت حذام فصدّقوها فأن القولَ ما قالت حذام
واذا كان ثمة جديد في وصفهم (الخذامي) فهو ايغالهم في مدح من مدح اسلافهم وغلوهم في هجاء من هجوه ومبالغتهم في ذم وتجريح من اتهموه، ولعل من اوفر الشخصيات حظاً من هذا الحيف هو الشاعر الفيلسوف ابو العلاء المعري الذي أتهم بالكفر بعد ان صام الدهر كله، وكان يحافظ على الصلوات الخمس ولم يتركها بأي حالٍ من الاحوال حتى بعد ان ضعف فكان يصلي من جلوس واتهم بالزندقة وهو القائل:
متى ينزل الامر السماوي لم يفد
سوى شبح رمي الكمي المناجدِ
وان لحق الاسلام خطب يغضه
فما وجدت مثلا له نفس واجد
اذا عظّموا كيوان عظّمتُ واحداً
يكون له كيوان اول ساجد
واتهم بالتشكيك والالحاد وهو القائل:
والله حق وابن آدم جاهلٌ
من شأنه التفريطُ والتكذيبُ
لقد تغاضى المؤرخون عن الكثير من الحقائق عن هذا الشاعر الكبير ونقلوا التهم التي اطلقها عليه اسلافهم جزافاً ومن يتحرّى عن هذه الحقائق اكثر يجد أن التهم التي اطلقت عليه كانت تطلق لاسباب ارتكزت على الحسد والبغض والاختلاف في الرأي فليس من العجيب ان يتُهم بالخروج عن الملّة عند اولئك المؤرخين من يقول:
لقد عجبوا لآل البيت لما
أتاهم عمهم في جلد جفرِ
ومرآة المنجّم وهي صغرى
تريه كل عامرةٍ وقفر
وما ذنب المعري اذا كان المؤرخون لم يعوا مايقول ولم يستوعب عقولهم ما استوعب من العمل والايمان فراحوا يتهمون بالكفر كل حر الضمير صافي الفكر مع ان اعتراف المعري بالخالق وايمانه بالنبوة وعقيدته بالائمة عليهم السلام من اهل البيت ظاهرة في الكثير من شعره، وكل جنايته انه كان يرى الاعتقاد بالتفكير والتحري والبحث عن الحقيقة والاخذ بها لا الاخذ بـ (المسلّمات) واقتفاء اثر من سبقوه.
ومما يعجب له ان الحموي في (معجم الادباء) ترجم له ترجمة وافيه و أورد طائفة كبيرة من اشعاره وذكر جملة من مؤلفاته ثم ذكر منها كتاب في فضائل امير المؤمنين عليه السلام ثم بعد ذلك يتهمه بالكفر وسوء المعتقد كما اتهمه غيره ممن سبقه! ولكن رغم كل هذه الاتهامات فقد كان هناك من ينتصف له من الكتاب والاعلام الذين لم يتقيدوا بتلك السفاسف الباطلة فجاءت الحقيقة على ايديهم ناصعة وقد استوفى حق ابي العلاء وبرأ ساحته من كل تلك التهم الاستاذ الدكتور عمر فروخ في كتابه القيم (حكيم المعرّة) وردّ عن حياضه كل سهام البغض والحسد والتي كالها له معاصروه ودحض كل اتهامات المؤرخين قديماً وحيدثاً ولم يكن الاستاذ فروخ اول المدافعين عن ابي العلاء فقد سبقه الى ذلك الصاحب كمال الدين عمر بن احمد بن العديم الحلبي المتوفي سنة 660هـ الذي الّف كتاباً في رفع الظلم عن ابي العلاء اسماه (الانصاف والتحري في دفع الظلم والتحري عن ابي العلاء المعري) وقد طبع ملخصه في الجزء الرابع من كتاب (اعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء ج 4 ص78ـ 180) ونسق الكتاب على ستة وعشرين باباً تناول فيها حياة ابي العلاء منذ مولده ومدى علمه وذكائه ورحلته الى بغداد وكرمه وجوده على قلة ماله واباء نفسه وعزته وعفته، كما ذكر مؤلفاته ثم تطرق الى من قال بفساد عقيدته ويرد عليهم بأدلة واضحة وبراهين ساطعة، ثم يذكر جملة من الاعلام الذين اثبتوا صحة عقيدته وايمانه بالله وبالرسل.
ومن الاعلام الذين برهنوا على صحة عقيدة وايمان أبي العلاء المعري وتشيّعه المرجع الديني الراحل الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء وقد ذكر له السيد جواد شبر حديثاً حول هذا الموضوع في كتابه (ادب الطف) ج2 ص (299) كما ذكر صاحب كتاب (نسمة السحر) انه كان من شعراء الشعية الكبار واستدل على ذلك بعدة قصائد.
وشعر ابي العلاء طافح بشذى التشّيع والولاء لأهل البيت عليهم السلام وابرز قصائده في ذلك قصيدته النونية الرائعة في رثاء امير المؤمنين عليه السلام وسيد الشهداء عليه السلام يقول فيها:
وعلى الدهر من دماء الشهيدين علي ونجله شاهدانِ
فهما في اواخر الليل فجران وفي أولياته شفقانِ
ثبتا في قميصه ليجيء الحشر مستعدياً الى الرحمنِ
وجمال الوان عقب جدودٍ
كل جدٍ منهم جمال اوانِ
يا ابن مستعرض الصفوف ببدرٍ
ومبيد الجموع من غطفانِ
ثم يشير ابو العلاء في قصيدته الى الحديث الشريف الذي يقول بأن الله عزوجل خلق انوار الخمسة اصحاب الكساء: محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين قبل ان يخلق الخلق فيقول:
أحد الخمسة الذين هم الاعراض
في كل منطقٍ والمعاني
والشخوص التي خلقنّ ضياء
قبل خلق المريخ والميزانِ
قبل ان تخلق السموات او تؤمر افلاكهن بالدورانِ
ويعلن ابو العلاء عقيدته في أهل البيت في نهاية القصيدة بقوله:
وبهم فضّل المليك بني حواء حتى سموا على الحيوانِ
شرفوا بالشراف والسمر عيدان اذا لم يزنّ بالخرصانِ
هذه كانت عقيدة ابي العلاء التي لم ترق للمؤرخين فنسبوه الى الكفر والالحاد وقد كانت عقيدته خالصة فلم يعرف عنه انه تكسب بشعره أو تزلّف به لأحد وتزداد عقيدته ويتجدد يقينه حول ايمانه بالله ويزداد ثبوتاً عليها على مدى عمره دلالة على شدة ايمانه. يقول في بعض قصائده:
أمر الواحد فافعل ما أمر
واشكر الله إن العقل أمر
اضمر الخفية واضمر قلّ ما
ادرك الطرف المدى حتى ضمر
وهي الدنيا أذاها أبداً
زمر واردة إثر زمر
يا أبا السبطين لا تحفل بها
أعتيقٌ ساد فيها أم عمر
ترى ماذا يقول المؤرخون في هذه الابيات؟ وهل هناك اوضح منها في الدلالة على ايمان ابي العلاء فما لهم لا يعقلون كان ابو العلاء يدرك وضاعة الايام ولؤم النفوس التي خذلت اهل البيت عليهم السلام وقتلتهم وازاحتهم عن حقهم:
أرى الايام تفعل كل نكرٍ
فما انا في العجائب مستزيدُ
أليس قريشكم قتلت حسيناً
وكان على خلافتكم يزيدُ
لم يمقت ابو العلاء الناس كما ادعى المؤرخون بل مقت المتزلفين وادعياء العلم الذين يتكسبون على موائد السلاطين وغيرهم من وعاظ السلاطين ولقد اجاد احد الشعراء الذين رثوه بقوله:
ابا العلاء بن سليمانا
ان العمى اولاك احسانا
لو ابصرت عيناك هذا الاورى
لم ير انسانُك انسانا
|
|