قسم: الاول | قبل | بعد | الاخير | عناوين اقسام | عناوين جميع اقسام

حديث المجالس .. التأني والتفكّر أم الثرثرة والتهريج؟
*عبدالهادي البابي
أن أكثر المجالس التي تشهد حالة من الصخب في الحديث الذي يتناول هذا وذاك من الناس بالقدح والتشهير، هي في الواقع مجالس البطالين من الذين أستحوذ عليهم الشيطان و زّين لهم أرذل الكلام وأفحشه، والمشكلة أن هؤلاء يحسبون أنهم يحسنون صنعاً! والقرآن الكريم يحذرنا من ظاهرة كهذه في قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا أتقوا الله وقولوا قولاً سديداً * يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً"، وهناك الكثير من الاحاديث الشريفة التي تنهانا عن الخوض في الكلام الباطل لما له من آثار مدمرة على نفس الانسان وعلى العلاقات الاجتماعية. ففي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله: (إن الرجل ليتحدث بالحديث يريد به سوءاً إلا ليضحك به القوم يهوى به ابعد من السماء). وعن أمير المؤمنين عليه السلام: (إياك وكثرة الكلام، فانه يكثر الزلل ويورث الملل).
ان هناك من الناس من يحبّ تجاذب اطراف الحديث ويطيل فيه، بل ويحشي ويزيد، ويسألك عن آخر الأخبار في المجتمع. قد يصمت لحظات، ثم يتذكر خبراً فينقله بمزيد من الحماسة، ثم يستدرجك ويسألك عن أخبارك ويعود الى مبالغاته وزياداته، وهكذا هو دائماً يتسقط أخبار الناس بكل وسيلة ثم يعلق عليها ويضيف توقعاته واستنتاجاته على تصرفات غيره ويحسبها عليهم...!!
هذه الظاهرة تسمى (الثرثرة) وقد حرمها الإسلام، لما فيها من الكذب والمبالغة و تصوير الباطل حقاً وبالعكس، وتضخيم الأمور في نفوس المستمعين ودفعهم لمواجهة قضايا لاتخدمهم أبداً، بل قد يترتب عليها تدمير العوائل والعلاقات بين الناس، ويحرمها الإسلام لأنها ملتقى لجملة من المعاصي من غيبة وتهمة ونميمة وتثبيط العزيمة لفعل الخير وتكريس الجمود والتخلف، وتبرير المساوئ والبهتان والتنابز باللألقاب ، وقد تكون كلمة واحدة بمثل عود ثقاب يشعل نيراناً من الخلافات بين افراد المجتمع، فكيف إذا كانت سيل الكلمات وهي قنابل من الكلام والثرثرة؟!
روي أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقال:(يارسول الله أوصني قال: ( إحفظ لسانك ) فقال الرجل: يارسول الله أوصني، قال:(إحفظ لسانك)، قال يارسول الله أوصني.. فقال: (إحفظ لسانك).. ثم قال صلى الله عليه وآله: ويحك وهل يُكَبُّ الناس على وجوههم في النار إلاّ حصائد ألسنتهم).
وهكذا نعلم أن من أسباب نشوب الخلافات بين الناس، كثرة الكلام والمبالغة في الأخبار التي يتناقلها الثرثارون ، ومن الناحية العلمية يقول علماء النفس: (إذا زاد الضجيج ، صُمّت الآذان، وغادرت العقول)، وعند مغادرة العقل يضيع الصواب وتهرب الحقيقة، فالأفضل عدم حرق الأوقات والأعصاب في هذه النقاشات في أجواء الثرثرة والجدال العقيم، إذ لا تصل الأطراف إلى نتيجة إلاّ للمزيد من الفجوة والخلاف.
من هنا أمرنا الاسلام بنبذ الجدال والمراء وإعطاء فترة أطول للصمت والتزام الهدوء، أو الكلام بتأني وتفكّر، وأن نتحمل الأستماع للخصم والإصغاء جيداً للنقاش، ثم البدء في نقاشه منطقياً إذا كان مخطئاً، فنضع النقاط على الحروف من دون إنفعال وتعصب، ولنا في أمير المؤمنين عليه السلام خير أسوة وقدوة حيث يقول: (الكلام في وثاقك ما لم تتكلم به، فاذا تكلمت به صرت في وثاقه، فاخزن لسانك كما تخزن ذهبك و ورقك، فربّ كلمة سلبت نعمة).
إذن؛ فالعاقل والحكيم من يحسب للكلمة التي يتفوّه بها ألف حساب ويوزنها بميزان، لأنه يخشى على سمعته ومكانته بين الناس، أما غير الحكيم نراه يتطاول في الكلام ويتهافت ما أمكنه ليجد له مكاناً بين المجموع، وهذا ربما يكون دليلاً عليه ليتقيه الآخرون حتى وان جاء بالحديث الموثق والصحيح، اذ لا فائدة من حديث صحيح واحد وسط كم هائل من الكلمات الجوفاء التي لا يرتجى منها الخير والصلاح.