قسم: الاول | قبل | بعد | الاخير | عناوين اقسام | عناوين جميع اقسام

التكبّر و خسارة الانسان نفسه و المجتمع
لمشاهدة الصورة لحجم اكبر إضغط علي الصورة *محمود حسين
قال أمير المؤمنين عليه السلام: (عجبت لأبن آدم أوله نطفة وآخره جيفة وهو قائم بينهما وعاء ثم يتكبر...) !!
هذا الالتفاتة الحكيمة من لدن إمامنا علي بن أبي طالب عليه السلام، تبين لنا حقيقة التكبّر والتعالي في النفس البشرية، فهي في الوقت الذي تعد من الصفات المذمومة من قبل السماء، لكن نراها من النزعات عند البشر، والامام علي عليه السلام في هذا الحديث الشريف يبين لنا أكذوبة الكبر والتعالي في الانسان مهما طلب ذلك وسعى لها. لكن السؤال؛ كيف تنمو هذه الصفة الذميمة عند الانسان، ونحن نعرف انه يولد على الفطرة السليمة؟
منشأ التكبّر
من جملة عوامل شخصية واجتماعية، نشير على أهمها هو عامل العقدة النفسية والشعور بالدونية بسبب الفقر المالي، علماً ان هنالك الكثير من الفقراء من ينحون هذا المنحى، وقد وصفهم القرآن الكريم بكل لطف في الآية الكريمة: "لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ..." (البقرة /273). لكن للأسف هنالك أفراد يعانون ضعفاً في الايمان وقصوراً في العقل، فهم لا يفقهون كتاب الله وما وعده للمحسنين، كما لايتمكن من التفكير الصحيح والاعتبار من الآخرين الذين ملكوا العقارات والاموال ثم تركوها لدى لقائهم بملك الموت. لذا نجد الكثير ممن يتحول بفعل ظروف معينة او حتى بجهده وعمله، من حالة الفقر والعوز الى حالة الغنى، يشهد تحولاً ايضاً في السلوك والاخلاق، فنراه يتكبر على الآخرين ويحاول ان يجد لنفسه مرتبة أعلى من الآخرين، متناسياً أن ما لديه هو رزق وهبه الله تعالى إياه، وانه تعالى يرزق من يشاء بغير حساب، وقد يسلب من انسان ما نعمة موفورة من حيث لايحتسب.
ربما يقول البعض: وما المانع من أن اجد لنفسي مكانة مرموقة في المجتمع بعد أن ارهقني الذل والفاقة؟ بل لابأس من أن اكون محط رحال الناس ويكونوا بحاجة لي بعد ان كنت بحاجة الى الجميع...! هذا الشعور هو الذي ينمي في الانسان صفة التكبّر والتعالي على الناس، وربما يؤدي به الامر لأن ينسى ذكر ربه ويشعر أن لاحاجة له بالعبادة والشكر. وطالما حذرنا ربنا من مغبة الانزلاق في هذا الطريق لأنه يؤدي الى النار والخسارة في الدنيا قبل الآخرة. جاء في الحديث القدسي عنه تعالى: (الكبرياء ردائي. من نازعني ردائي أدخلته ناري). والقرآن الكريم يذكر الانسان بحقيقته كما فعل أمير المؤمنين عليه السلام في الحديث الآنف الذكر، يقول تعالى: "وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً" (الإسراء /37).
الوقاية خير من العلاج
كما عندنا في جانب الصحة البدنية، أن الوقاية من المرض خير من السعي لمعالجته، فانه في الجانب المعنوي لابد لنا من توخي الحذر من هذه الصفة فالجميع معرضون لها بشكل او بآخر، وليس بالضرورة ان يمتلك الانسان الملايين او المليارات ليسعى الى التسيّد على الآخرين، بل ربما اذا امتلك سيارة حديثة او شيّد داراً منيفاً فانه ربما يندفع الى التكبر والتعامل بطريقة أخرى مع الجيران والاصدقاء.
إن القرآن الكريم وسيرة أهل بيت رسول الله صلوات الله عليهم أجمعين، تحمل لنا الكثير من النماذج والصور الرائعة للتواضع، بل اذا طالعنا بدقة سيرة أنبياء الله العظام في القرآن الكريم وجدنا في تعاملهم مع أقوامهم صفة التواضع بمنزلة السلوك العام، حتى ان الكفار كانوا يستشكلون على انبيائهم بأن "َقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً" (الفرقان /7)، كما يحدثنا تعالى عن النبي عيسى، والذي حاول المسيحيون إخراجه من كونه بشراً عادياً، لكن الله تعالى يقول: "مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ" (المائدة /75). فهذا عيسى بن مريم وهو روح الله، هكذا يصفه تعالى ويجعله كسائر البشر، فما بالنا نحن الافراد العاديين...؟!
أما عن الرسول الأكرم والصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء والأئمة المعصومين عليهم السلام، فان الحديث عن تواضعهم بحاجة الى مجلدات – في الحقيقة – ويا حبذا ان يهتم الباحثون بهذا الجانب الاجتماعي الحساس وتبيين اهميته الكبيرة في تقدم المجتمع وتكامله ويغنون المكتبة الاسلامية مؤلفات كهذه. فهذا رسول الله كان يجالس الفقراء ويبتسم للصبيان ويؤدي التحية على الجميع، كما عُرف بذلك منذ شبابه بين المجتمع المكّي الجاهلي. وهذا أمير المؤمنين يقبل طلب ميثم التمّار بأن يبيع التمر بدلاً عنه بعد ان استأذنه في سفر له، وللمرأة المسلمة أن تقتدي بالزهراء عليها السلام وكيف أنها تقسم اعمال البيت بينها وبين خادمتها فضة، علماً ان الخادمة بالأساس تستخدم لتستريح صاحبة البيت ولا تقوم بالكثير من الاعمال. وذاك الامام علي بن موسى الرضا وقصته داخل الحمام وكيف تقبّل من شخص ان يدلّك ظهره ظانّاً انه من العمال...! والقصص كثيرة في هذا المجال. ومن نافلة القول في هذا الخصوص أن نستشهد بالامام الحسين عليه السلام وهو شهيد كربلاء، وفي تلك الملحمة العظيمة ووسط المعركة وفي ظروف عصيبة، نجد خصلة التواضع تشرق من الامام الشهيد عندما انحنى ووضع خده على خد (جون) وهو مولى أسود البشرة، بعد ان سقط على الارض جريحاً في طريقه الى قافلة الشهداء، وقد فعل الامام عليه السلام الشيء نفسه مع ولده وشبيه رسول الله، علي الأكبر.
كيف التخلص من التكبر ؟
ان التكبر يحبط اعمال الانسان ويقوده الى معصية الله ثم الى نار جهنم، عن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله انه قال: (لن يدخل الجنة عبد ٌفي قلبه مثقال حبة من خردل من كبر)، إذن لابد لنا ان نُخرج حتى المقدار القليل من التكبر من أنفسنا، وان نبذل كل ما بوسعنا وان نقتل الأنانية الموجودة في انفسنا والتي تعد أساس التكبر والغرور، فان استطعنا وتغلبنا على هذه الصفة ، حينئذ سنكون كما لو امتلكنا الدنيا.
هناك مجموعة الطرق للتخلص من هذه الصفة الذميمة:
اولاً: الدعاء لله تعالى... إن الانسان يشعر بحالة من الذلّ والصغر امام قدرات الله سبحانه وتعالى في الكون، هذا الدعاء بحد ذاته يشعر صاحبه بالحاجة الى شيء ينقصه ولا يقدر على تحقيقه، وما اكثر ذلك في حياتنا الدنيا. يقول الله في كتابه الحكيم: "وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ" (غافر /60)، ونلاحظ ان الله تعالى لا يستجيب لعبده رغم إكثاره بالدعاء ذلك، لكي يظل العبد في حالة الحاجة والتي من شأنها ان تجعله يلح في الدعاء والتضرع و يقضي على كل ذرة من التكبر في نفسه.
ثانياً: الصلاة... ان الانسان في حالة السجود والخشوع التام لله يشعر ان هناك من هو اعظم منه و يشعر بالحاجة لأن يتصل بالسماء وأن يسمو على الماديات الزائلة، وكلما شعر بالسمو أحسّ بالغنى من كل شيء، لذا لا يجد حاجة للتكبر والتعالي على أحد لأنه ليس بحاجة لها بالأساس، ولذا ورد في الاحاديث ضرورة الالتزام بالصلوات المستحبة وعدم الاقتصار على الصلوات الواجبة، لتكون علاقة العبد متواصلة ومتينة بربه وحسب، وليس بالمال والبنين وزينة الحياة الدنيا الزائلة.
ثالثاً: الاحسان... وهذه الصفة تفتح أمام الانسان آفاقاً رحبة في العلاقات الاجتماعية. والمعروف إن أي انسان، مهما كان، يحب ان يقضي حوائج الآخرين، ويشعر بالنشوة والارتياح اذا أعطى شيئاً من المال لفقير أو مساعدة مالية لصديق، او أقام مأدبة طعام لأصدقائه واهل محلته وغير ذلك. هذه الخصلة من شأنها ان تحمل الانسان الميّال الى الكبر والعلو، أن ينحني ويتقرب الى من هم دونه في مستوى المعيشة، وربما يتذكر ماضيه، وانه ربما يكون يلقى المصير نفسه على حين غفلة او بسبب حادث معين، كما يحصل للكثير. ويكون لسان حاله: (ارحم من في الارض يرحمك من في السماء).
وبشكل عام فان صفة التكبر على الآخرين لا تشبه بأي حال من الاحوال أدوات بناء المجتمع والأمة، وان كان صاحبها من ذوي الثروة والجاه والمنصب، فمن غير الممكن ان نعد هكذا انسان مثمراً ومنتجاً وان أمواله ستقدم البلد وتغير الواقع الاجتماعي، حتى وان دخلت تلك الثروة في العجلة الاقتصادية، لأن الغاية والهدف – وهو المهم جداً والأساس- تحقيق الخدمة والمصلحة لصاحب الثروة وتكريس حالة التعالي على الآخرين وليس انقاذ الناس من الفاقة والحرمان.