قسم: الاول | قبل | بعد | الاخير | عناوين اقسام | عناوين جميع اقسام

تبليغ الرسالات .. زينبياً
لمشاهدة الصورة لحجم اكبر إضغط علي الصورة * نـــــزار حـيـدر
اذا كان الحسين السبط عليه السلام قد بلغ رسالة الدم باستشهاده في كربلاء في عاشوراء عام 61 للهجرة، فان زينب الكبرى بنت امير المؤمنين عليه السلام قد بلغت رسالة الكلمة بمواجهتها للسلطان الجائر، وبذلك تكون الرسالة قد اكتملت.
لقد شاء الله تعالى ان لا تُبلّغ رسالاته الا بالدم والكلمة الشجاعة والصادقة، ولذلك ترادفت التضحية والاستشهاد مع الصدح بالكلمة الحق على مر التاريخ، واليوم ها هي تونس الخضراء ومصر الكنانة واليمن السعيد والاردن والجزيرة العربية وغيرها من دول العالم العربي التي تشهد ثورة ضد الظلم والطغيان والاستبداد السياسي، يلتقي فيها الدم مع الكلمة، والاستشهاد مع صرخة المظلوم التي راحت تدوي في سماء العالم عبر الفضائيات وكل وسائل الاتصال الجمعي. والى هذه الحقيقة اشار القرآن الكريم بقول الله تعالى "الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون احدا الا الله وكفى بالله حسيبا". فالآية تشير الى عدة حقائق:
أولاً: ان رسالات الله لا تعني تعليم الناس الصلاة والصوم او الحج وغيره من العبادات وحسب، فتلك هي جزء من رسالات الله تعالى، انما رسالاته أعم وأشمل حيث تشمل الانسان الحر والكريم والعقل السليم والقلب الطاهر والمعافى، بغض النظر عن لون هذا الانسان او اثنيته او دينه او اي شيء آخر، انها رسالة الانسان اذا ما ظُلم، و رسالة العقل اذا ما ضلله الطاغوت ورسالة القلب اذا ما أصيب بمرض بسبب الحقد والكراهية والبغضاء والانانية والعنصرية والحزبية الضيقة.
ثانياً: ان من يبلغ هذه الرسالات سيتعرض لكل انواع الاضطهاد وقد يقتله ديكتاتور او تطارده اجهزة الامن والاستخبارات لتصفيته، وقد يتعرض للتسقيط المعنوي، كما كان الحال بالنسبة الى الكثير من انبياء الله ورسله وكذلك حال الكثير من المبلّغين والمصلحين على مر التاريخ، فلا يظنن أمرءٍ ان تبليغ رسالات الله تعالى أمر هين، بل هو بحاجة الثمن الغالي.
ثالثاً: ولان لتبليغ الرسالات ثمناً باهضاً، لذلك اشترط الله تعالى على من ينوي التصدي لهذه المسؤولية ان يكون: أ: واعيا لمهمته وللواجب الذي يريد ان يتحمل مسؤوليته. ب: شجاعا فلا يخشى غير الله تعالى وهو يبلغ رسالاته عز وجل. جـ: ثابتا فلا يتردد او يتزعزع او ينهار امام الاغراءات او الضغوط التي سيواجهها. د: واضحا وعلى بصيرة من أمره، لا يشك ولا يظن او يتصور.
هنا يتجلّى دور زينب بنت علي امير المؤمنين عليهما السلام، كابرز مصداق للآية الكريمة الآنفة الذكر، وبعودة سريعة الى خطبتها العظيمة في مجلس ديكتاتور الشام يزيد بن معاوية، وقبل ذلك خطبتها في مجلس ديكتاتور الكوفة، سنلحظ هذه الصفات الاربع باجلى معانيها و أوضح مصاديقها.
انها قالت: (انما يفتضح الفاسق ويكذب الفاجر) ، (ثكلتك أمك ياابن مرجانة)! (أظننت يا يزيد)، (أمن العدل يبن الطلقاء)، (فوالله ما فريت الا جلدك وما حززت الا لحمك)، (ولئن جرت عليّ الدواهي مخاطبتك اني لاستصغر قدرك واستعظم تقريعك واستكثر توبيخك).
ففي هذه الفقرات من خطبتها نقرأ وبشكل واضح كل ما تتطلبه مسؤولية التصدي للتبليغ، ففيها الشجاعة والوضوح والبصيرة وعدم الخشية من احد الا الله تعالى الذي يحول بين المرء المخلص لرسالته والكذب والتزوير والغش والتلاعب بالالفاظ، ولذلك لم نجد في خطبتي عقيلة الهاشميين اي زيادة في عباراتها، كما لم نجد فيها اي تضخيم للامور او تزوير للحقائق او تقليل من اهمية الموقف.
ولان زينب عليها السلام تميزت بكل الصفات المطلوبة فيمن ينوي تبليغ رسالات الله تعالى، لذلك خاطبت الطاغية بخطاب الواثق من نفسه وقبل ذلك من وعد الله تعالى قائلة: (فوالله لا تمحو ذكرنا). فلماذا أقسمت زينب بالله تعالى؟ لماذا لم تتحد الطاغوت بالعبارة فقط من دون القسم؟.
هنالك سببان – كما اعتقد- لهذا القسم:
السبب الاول: لانها على علم بالجهد العظيم الذي سيبذله كل طغاة الارض من اجل محو ذكر الحسين عليه السلام وطمس أثره لتنسى البشرية ما الذي حدث في عاشوراء عام 61 للهجرة.
السبب الثاني: لانها كانت على يقين من ان كل هذه الجهود ستذهب هباءً منثوراً من دون ان تؤثر في حقيقة عاشوراء قيد أنملة، لعلمها المسبق بان الغيب سيقيض لرسالة الحسين عليه السلام من يحملها على عاتقه من دون ان تاخذه في الله لومة لائم، وهذا ما كان.
لنا أن نلاحظ من جانب، الى ما بذله ويبذله اعداء البشرية واعداء الانسان واعداء الحرية والكرامة من جهود عظيمة لمحو ذكر الحسين الشهيد، ثم لننظر، من جانب آخر الى ما يبذله حملة رسالة الحسين عليه السلام من جهد عظيم لتبليغ رسالات الله تعالى من دون ان تاخذهم في الله لومة لائم، ولقد راينا هذا العام بعض افعال اعداء الحياة والانسان من اجل طمس ذكر عاشوراء فقتلوا وفجروا ولغموا وفخخوا حتى أريق الدم الطاهر من نحور محبي الحسين عليه السلام في كربلاء وفي غيرها، فهل وقفت المسيرة؟ وهل نجحوا في طمس ذكر كربلاء؟ كلا بالمرة. فالحسين باق ما بقي الدهر، وعاشوراء مستمرة ما بقي الانسان، والحسين خالد ما بقي مظلوم على وجه هذه الارض، وكل ذلك تفسير قسم زينب عليها السلام وقولها تخاطب يزيد الطاغية (فوالله لا تمحو ذكرنا)، وهو قسم لو تعلمون عظيم!
لقد اعتمدت رسالة عاشوراء على المعرفة والصدق لتبليغ رسالات الله، فيما يعتمد الطغاة والانظمة المستبدة على الكذب والتضليل كأهم وسيلة لغسل ادمغة الرأي العام، ولذلك فان الطاغوت يعتمد قاعدة "قال فرعون ما أريكم إلا ما ارى وما أهديكم الا سبيل الرشاد" من خلال منع الناس من الاطلاع على الحقيقة وحصر مصدر المعلومة باجهزة النظام السياسي فقط والحيلولة دون اطلاع الرأي العام على الحقيقة من مصادرها الطبيعية، فنرى ان المستبد يبادر الى منع الناس من التفكير، بل انه ينصحهم ان لا يشغلوا انفسهم بالتفكير فهو وزبانيته يفكرون بالنيابة عن الشعب، ولذلك تراه يمنع كل وسائل الاتصال الجمعي عن المجتمع، ولقد رأينا بعد سقوط ديكتاتور تونس الخضراء مؤخرا، كيف انه كان قد حول تونس الى صندوق مغلق لا يدخله نور العلم والمعرفة ابدا، من خلال منع الناس من التواصل مع المعلومة باي شكل من الاشكال، كما كان يفعل من قبل طاغية العراق المقبور.
ان الطاغوت يشجع الراي العام على ان يغطّ في نوم عميق ليبعده عن التفكير في الشان العام، فلا يفسد عليه خططه، ولا يحتج على فساده، ولا يسـل عن اشياء ان تبد له تسؤه هو، ولقد وصف الشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري حال الشعب في ظل الاستبداد بقوله:
نامي جياع الشعب ، نامي حرستك آلـهــة الطعام
نامـــــــي فان لم تشبعي من يقضة فمــن المنـــام
نامــي على زبد الوعود يداف في عسل الكـــلام
نامي تزرك عرائس الا الاحلام في جنح الظـــلام
تتنوري قرص الرغيف كدورة البدر التمـــــــــام
وتري زرائبك الفســاح مبلطات بالرخــــــــــــام
نامي تصحي نِعمَ نــوم المرء في الكرب الجسام
ان المستبد يخشى كثيرا من ان تصل المعلومة الصحيحة الى المجتمع، لانها تسهم في زيادة المعرفة، وتاليا في زيادة الوعي الذي يعتبره الطاغوت اول مسمار في نعش سلطته الظالمة، ولهذا السبب نرى الطاغوت يحارب المعرفة ويقاتل من اجل ان لا تصل المعلومة الصحيحة الى الناس، ويبذل كل ما في وسعه من اجل تضليل الراي العام، وذلك بالاعتماد على وعاظ السلاطين واصحاب الاقلام المأجورة والمتملقين من زبانيته، ولقد راينا كيف ان فرعون مصر بادر فور تحرك الشارع لاسقاطه الى قطع كل وسائل الاتصال الجمعي عن البلاد، ظناً منه بان ذلك سيخفف من ثورة الشعب الأبي، او ان ذلك سينقذه من المقصلة.
يقول المفكر السوري عبد الرحمن الكواكبي في كتابه (طبائع الاستبداد ومصارع العباد) عن علاقة المستبد بالعلم: لا يخفى على المستبد ان لا استعباد ولا اعتساف ما لم تكن الرعية حمقاء تخبط في ظلامة جهل وتيه عمياء. ويقول في مكان آخر من كتابه: المستبد، كما يبغض العلم لنتائجه يبغضه لذاته لان للعلم سلطانا اقوى من كل سلطان فلا بد للمستبد من ان يحتقر نفسه كلما وقعت عينه على من هو ارقى علما منه ولذلك لا يحب المستبد ان يرى وجه عالم ذكي فاذا اضطر لذي علم اختار المتصاغر المتملق.
اما منهج اهل البيت عليهم السلام فيحث على العلم والمعرفة والاطلاع على الخبر الصحيح والمعلومة السليمة من دون تضليل او كذب او تزوير او غش، ولذلك فان امير المؤمنين علي بن ابي طالب عليه السلام خطب الناس في أول عهده بالخلافة قائلا: (ايها الناس ان لي عليكم حقا ولكم علي حق، فاما حقكم علي فالنصيحة لكم وتوفير فيئكم عليكم وتعليمكم كيلا تجهلوا وتاديبكم كيما تعلموا، واما حقي عليكم فالوفاء بالبيعة والنصيحة في المشهد والمغيب والاجابة حين ادعوكم والطاعة حين آمركم).
بالمقابل ظل معاوية بن ابي سفيان يمارس التضليل المنظم ضد اهل الشام، من خلال اخفاء الحقيقة عليهم ومنعهم من الاطلاع على الانباء الصحيحة التي كانت تموج بها الامصار آنذاك، وكل ذلك من اجل ان يظلوا معميّ العين والقلب ليسهل عليه حكمهم واستمرار سلطته، ولقد وصف امير المؤمنين عليه السلام حال العلاقة بين معاوية ومن يقودهم بالتضليل بقوله: (الا وان معاوية قاد لمة من الغواة، وعمس عليهم الخبر، حتى جعلوا نحورهم اغراض المنية).
ويستمر هذا المنهم التضليلي على مر التاريخ، فأين ما وجد مستبد وجد الجهل والتخلف، واينما حكم ظالم، انتشر الجهل، ولذلك لا يمكن ان نتخيل شعباً حراً وكريماً من دون علم ومعرفة، ولا يمكن ان نتصور حرية الا وبجانبها معلومة صحيحة، كما لا يمكن ان نتصور شعب يعيش بكرامة اذا لم يمتلك حرية التعبير.
لقد أعرب بعض المحللين عن رفضه لما يجري من تغيير ثوري في عدد من البلاد العربية بحجة ان الشعب العربي أمي وجاهل ولذلك فهو لا يستحق الديمقراطية، فليس بامكان الشعب الجاهل ان يتمتع بالحرية ابدا، فالديمقراطية حق الشعوب المتعلمة وليست من حق الشعوب الامية، على حد تعبيرهم!
اما انا فاقول انه مازالت الديكتاتورية هي التي تحكم في البلاد العربية، لا يمكن ان نتصور يوما ان شعوبنا ستتعلم وستحصل على المعرفة اللائقة، لان الجهل توأم الاستبداد، ولذلك ينبغي ان تزيح شعوبنا كل الانظمة الاستبدادية الحاكمة من اجل ان تتمكن من الحصول على العلم والمعرفة والمعلومة الصحيحة، ففي ظل الديمقراطية ينتشر الوعي وفي ظل الحرية يحصل المواطن على حقه في العلم والمعرفة السليمة، اما في ظل الديكتاتورية فسيظل الحاكم المستبد يمارس التضليل ضد الراي العام والذي يعتمد على الجهل والتخلف والامية، لان الجهل افضل اسلحة المستبد.
قد تكون شعوبنا جاهلة وامية بسبب سياسات التجهيل والتضليل التي يمارسها الحاكم المستبد، وستظل على هذه الحال مازال الحكم استبداديا، اما اذا اردنا ان ننتشل هذه الشعوب من الجهل والامية، فلابد من التحرك لاسقاط النظام السياسي العربي الفاسد لتتمتع شعوبنا بحريتها وكرامتها، في ظل فرصة التعليم والمعرفة.