ليلة المبيت .. أول تضحية من أجل الاسلام
|
*كريم الموسوي
أدرك النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم بعد مضي ثلاث عشر سنة يصدح بالدعوة الى الله وإنقاذ البشرية، أن مشركي مكة لا يدعونه ماضياً في هذه الدعوة أكثر من ذلك، وقد لاقى منهم الضغوط النفسية والحرب الاقتصادية والتصفيات الجسدية، لذا هم عازمون على تصفيته جسدياً بعد ان فشلت كل المحاولات للوقوف أمام نور الاسلام الساطع والذي تجاوز مكة لينتشر الى المناطق الأخرى ويكسب المزيد من الانصار والاتباع ويفسد عليهم شركهم بالله تعالى ونظامهم الجاهلي الفاسد.
قرر النبي الأكرم مغادرة بيته ومدينته، لكن كيف السبيل وعيون المشركين تلاحقه؟ وقد بلغه من الوحي أنه ثمة مؤامرة حاكها زعماء الكفر للفتك به، فعليه الرحيل فوراً، لكن قبل ذلك توجه الى ابن عمه وعضيده علي بن أبي طالب وفاتحه بالموضوع فبكى الامام عليه السلام خوفاً على حياة النبي ولمّا أمره بالمبيت على فراشه أجابه بالقبول فوراً، وقال: أو تسلم يا رسول الله إن فديتك بنفسي، قال صلى الله عليه وآله: نعم؛ بذلك وعدني ربي، فعلت الفرحة وجه أمير المؤمنين وتبدل حزنه سروراً وتقدم الى فراش النبي مطمئن النفس واتشح ببرده الحضرمي الذي كان يتشح به.
جاء في (سيرة المصطفى) للسيد هاشم معروف الحسني عن تاريخ اليعقوبي (ج2 ص22)، ان الله تعالى في تلك الليلة أوحى الى ملكين من ملائكته المقربين وهما جبرائيل وميكائيل أني قضيت على أحدكما بالموت فأيكما يفدي صاحبه، فاختار كل منهما الحياة، فأوحى اليهما: هلا كنتما كعلي بن أبي طالب لقد آخيت بينه وبين محمد وجعلت عمر أحدهما أطول من الآخر فاختار علي الموت وآثر محمداً بالحياة ونام في مضجعه، اهبطا عليه فاحفظاه من عدوه، فهبطا يحرسانه في تلك الليلة الخالدة وهو لايعلم، وجبرائيل يقول: بخٍ بخٍ لك يا ابن ابي طالب! من مثلك يباهي به الله تعالى ملائكة سبع سموات. وفي هذه المناسبة العظيمة نزلت الآية الكريمة في حق الامام علي عليه السلام: "وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَاللّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ" (البقرة /207).
وهنا التفاتة جميلة في هذه الآية حيث تميز موقف الامام وتجعله محطة مضيئة في تاريخ الاسلام يستنير بها السائرون على طريق الحق والرشاد. ففي آيات عديدة يأتي الخطاب السماوي الجليل في مجال حثّ الانسان على التضحية والعطاء من خلال التشجيع بالأجر والثواب العظيم، مثل الآية الكريمة في (سورة التوبة): "إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ"، أو في (سورة الصف): "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ".
ففي هذه العبارات نفهم أن الله تعالى هو المشتري، وهو الذي يرغّب البائعين لبيع متاعهم وبضاعتهم، ولكننا نقرأ في آية ليلة المبيت "وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ" بمعنى نحن أمام مبادرة وتطوع ذاتي من نوع خاص يصورها القرآن الكريم بتعبير أدبي رائع، وإذن، فان الايمان والاخلاص بلغ درجة عند أمير المؤمنين أن يقدم على عرض حياته للبيع قبل أن توجه له دعوة الشراء! مضافاً إلى ذلك فإنّ الآية محل البحث تبدأ بكلمة (مِنْ) التبعيضية في قوله "وَمِنَ النّاسِ" أي أن هذا العمل العظيم لا يتمكن من أداءه إلاّ بعض الناس في حين أن الآيتين السابقتين تطرح مسألة المعاملة مع الله والمعاوضة بالجنّة والنجاة من النار في إطار عام وشامل "اِشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنينَ".
وإذا أمعنّا النظر وتدبرنا في الآيات الثلاث على آية المبيت أدركنا عظمة ما قام به الإمام علي عليه السلام، كما ادركنا مكانته الرفيعة عند رسول الله صلى الله عليه وآله، ففي الآية (204) من (سورة البقرة) يقول تعالى: "وَمِنَ النّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا". أي أن بعض المنافقين الذين يتمتّعون بظاهر جميل وخادع عندما يرونك يظهرون المحبّة والتملق ويتحدّثون بشكل تشعر فيه بالإعجاب في حين أن باطنهم شيء آخر. "وَيُشْهِدُ اللهَ عَلَى ما فِي قَلْبِهِ وَهُوَ اَلَدُّ الْخِصَامِ". فإن الله تعالى عالم بما يخفي هؤلاء المنافقون المخادعون، هؤلاء الأشخاص ذوو الظاهر الأنيق والكلام الجميل هم ألدّ أعداء الإسلام وهم المنافقون، وتشير هذه الآيات إلى (الاخنس بن شريق) المنافق المعروف الذي يظهر من كلامه غير ما يبطن بحيث إنّ ظاهره وكلامه يجذب كلَّ مخاطب إليه لحسن بيانه وجمال مظهره حيث كان يتظاهر بالقداسة والإيمان والتقوى ولكنه في الواقع شخصية منحطّة وسافلة ولا يعتقد بالله ولا برسوله إطلاقاً – كما جاء في التفسير الأمثل- وفي الآية التي تليها يشير الله تعالى إلى واقع هذا الشخص – الأخنس- ونفاقه في حركة الحياة والواقع الإجتماعي : "وَاِذا تَوَلّى سَعى فِي الاَْرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ". فمن علامات نفاق الأخنس وسائر المنافقين هو أنهم عندما يخرجون من مجلسك يتحركون في حياتهم الفردية والإجتماعية من موقع الإفساد في الأرض وإهلاك الحرث والنسل رغم علمهم بأن الله تعالى لا يحبُّ هذه الأعمال القبيحة، وطبعاً هناك احتمال أن كلمة (تولّى) تعني الولاية والحكومة، أي أن هؤلاء الأشخاص إذا استلموا زمام الاُمور وتولّوا أمر الحكومة والسلطة أفسدوا في الأرض وزرعوا بذور النزاعات والفساد والإنحطاط وعملوا على تخريب المزارع وإهلاك الأنعام.
وقد ورد أنّ (الأخنس) جاء إلى منطقة في بلاد الإسلام وشرع في الإفساد وتخريب مزارع المسلمين في تلك المنطقة وقتل أغنامهم وحيواناتهم، ولكنه عندما جاء إلى النبي الأكرم صلى الله عليه وآله شرع بالتملّق والتحدّث بكلمات معسولة خادعة. "وَاِذا قيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ اَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالاِْثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهادُ". وعندما يسعى المؤمن في نصيحة هؤلاء الأشخاص وتحذيرهم من مغبّة هذه الأعمال ويحثّهم على تقوى الله تعالى واجتناب الأعمال الإجرامية، نجد انهم ليس فقط لا يستمعون إلى النصيحة بل يزدادون عناداً وغروراً وتعصّباً ويصرّون على أعمالهم الدنيئة من موقع العناد والتكبّر.
وأذن؛ يصور القرآن الكريم لنا في هذه الآيات الثلاث عناد أعداء الإسلام وسلوكياتهم المنحرفة، وعندما نضع هذه الآيات إلى جانب آية ليلة المبيت فلابدّ أن يتحول الكلام إلى استعراض أحبّ الأشخاص إلى الله وأكثرهم إيماناً وانشداداً للإسلام والمسلمين، وعليه فإنّ الإمام علي الذي نزلت في حقّه آية ليلة المبيت وقدّم نفسه على كفدائي من أجدل الدين، فهو أحبّ الأشخاص إلى النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) وبلا شكّ إنّ علاقة النبي صلى الله عليه وآله بالأشخاص لا تكون إلاّ على أساس إيمانهم وحبّهم لله تعالى لا على أساس العواطف الساذجة والميول الدنيوية. "وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَاللّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ" (البقرة /207).
|
|