الثامن من شهر ربيع الاول ذكرى استشهاده..
الإمام العسكري (عليه السلام).. الحلقة الاخيرة في مدرسة القيادة الرسالية
|
*حسين محمد علي
لمعرفة أئمتنا الهداة الاثني عشر عليهم السلام لابد من مراجعة التاريخ ومطالعة صفحاته بكثير من التأني والدقّة، أو السؤال من أهل العلم والمتضلعين في التاريخ الإسلامي للوقوف على كل شخصية من شخصيات أئمتنا الكرام لنخرج بصورة مشرقة تؤكد أنهم عليهم السلام في مسيرة واحدة تتوقف عند محطات عدة، وهم كالقمر الذي ينقل الضياء من مصدر واحد ثم تطرأ عليه التحولات والتغيرات خلال ايام السنة وأحياناً يغيب عن الأنظار!
فالإمام الحسين الذي حمل رسالة الإسلام في كربلاء وأمّن على حياتها إلى يوم القيامة بتضحيته الخالدة، إنما كان امتداداً لأخيه الإمام الحسن، وكذلك الحال عند الإمام الصادق عليه السلام في ظروف تطور الحركة العلمية، أو عند الامام الرضا عليه السلام في التجربة السياسية، فقد كان هدف الجميع واحداً وهو حمل الرسالة المحمدية إلى الأجيال ومواكبة حياة الإنسان بالتذكير بحقيقته والهدف من خلقه، كما هي مهمة الأنبياء، إنما الاختلاف أو التباين في الظروف الاجتماعية والسياسية، ويختلف دور الأئمة الأطهار ومهمتهم عن مهمة معاشر العلماء في عالم المادة مثل الأطباء؛ فهؤلاء يحملون علماً واحداً بقوانين وأسس ثابتة ولشريحة معينة من الناس وهم المرضى، في حين يحمل الأئمة كل شيء ولكل الإنسانية، فالتضحية الحسينية كانت عند كل الأئمة وكل الإنسانية، كما هو الحال في العلم والمعرفة الجعفرية، وأيضاً كل ما قام به الأئمة الهداة في أزمانهم، ويبقى الإمام الحجة المنتظر عجل الله فرجه شاهداً ومراقباً عن كثب لكل الانحرافات والأزمات التي تعيشها الأمة الإسلامية حتى يأذن الله تعالى بالفرج ويتحقق على يديه ما كان يصبو إليه آباؤه وأجداده الهداة، بل حتى أهداف الأنبياء والرسل على طول التاريخ..
هنا نتخلص من الصورة النمطية التي حددناها لأئمتنا (ع) فبات الواحد منّا لا يعرف أمير المؤمنين إلا بالساعد المتين والسيف البتار ولا الحسين إلا بالبكاء ولا الحسن إلا بأنه مسموم مظلوم ولا السجاد إلا بالمرض والتهجّد ولا الكاظم إلا بالسجن وهكذا.. في حين هم مدعاة للفخر والاعتزاز بقدر واحد. لأن أحد عشر إماماً معصوماً خاطبوا المجتمع الإسلامي على مدى مائتين وخمسين عاماً في كل ظروفه وتحولاته، بل أجزم بالقول إن ذكر الصديقة فاطمة الزهراء وابنتها العقيلة زينب ـ عليهما أفضل الصلاة والسلام ـ يجب أن يكون مدعاة للفخر والاعتزاز قبل أن تكون وسيلة وتشجيعاً على الاستعبار والبكاء لمظلوميتهما، لإنهما بحق النموذج الأكمل والأمثل للمرأة في العالم.
كان ما مرّ هو مقدمة وإن طالت وجدت نفسي ملزماً بالإشارة إليها قبل الحديث عن الإمام الحادي عشر الحسن ابن علي العسكري عليهما السلام الذي يكون الثامن من شهر ربيع الأول ذكرى استشهاده، بل وجدتها ضرورية في وقت ما نزال نشهد مرقد هذا الإمام المظلوم مهدماً وقد سُوّي ضريحه مع الأرض بفعل فتنة سوداء عصفت بنا وما تزال، وهذا يدعونا من جديد إلى تسليط الضوء على حياته من خلال معرفة الظروف التي كان يعيشها..
فقد تسلّم الإمام أبو محمد الحسن العسكري عليه السلام زمام الإمامة بعد استشهاد والده الامام الهادي عليه السلام مسموماً سنة 254 للهجرة، وكان الظلم والطغيان قد بلغ ذروته في الحكم العباسي، إذ كان ما يسمى بالخليفة هو المعتمد قد ورث الحكم من أبيه المتوكل، لكن بموازاة ذلك كان المدّ الرسالي الهادر يشقّ طريقه بقوة آخذاً بالاتساع في أوساط المجتمع وحتى في داخل بلاط الحكم العباسي، ويذكر لنا التاريخ أن الثلاثة والثلاثين عاماً من إمامة الإمام علي الهادي ـ عليه السلام ـ أسفرت عن حالة نضج وتفاعل في المجتمع لاسيما في أوساط الموالين للأئمة المعصومين، حتى أضحت الحركة الرسالية من القوة أن تقوم بنشاطاتها بشكل مكشوف إلى حدٍ كبير دون الحاجة إلى اتّباع السرية والكتمان أو الاستغاثة بالتقيّة كما كانت في السابق، وفي كتاب (التاريخ الإسلامي) يصف آية الله العظمى السيد محمد تقي المدرسي الامام الهادي عليه السلام بأنه كان بمنزلة دولة داخل دولة في سامراء، يغادر أنى شاء إلى المدينة المنورة ويعود إليها ثانية، علماً أن سامراء كانت المقرّ الجديد للخلافة الإسلامية من بعد بغداد وخراسان، وكان الإمام يراسل الوكلاء والنواب في مختلف المناطق والأمصار الإسلامية، كما كان يفد عليه الموالون من كل حدب وصوب دون خوف أو مهابة من حاكم ذلك العهد؛ المتوكل العباسي.
وفي عهد الامام الهادي عليه السلام عليه السلام انطلقت ثورات عدة منها في طبرستان شمال إيران والري والكوفة، وقد عدّ المرجع المدرسي الثورات المشتعلة في فترة حكم المتوكل بما يزيد على العشرين ثورة كلها كانت وليدة سياسات الأخير الدموية وإيغاله في سفك الدماء والوقوف بوجه الشيعة، ويتضح بأن المتوكل الذي أراد منذ توليه الخلافة تضعيف الشيعة وإبعادهم عن أئمتهم وقادتهم، انقلب عليه الأمر حيث توزّعت أجنحة الحركة الرسالية في مناطق مختلفة من البلاد الإسلامية لتنطلق من هناك على شكل ثورات صاعقة ضد الحكم العباسي، وللعلم هنا بأن الشيعة آنذاك كانوا يحظون بقيادة ربانية متمثلة بالامام الهادي عليه السلام ومن بعده العسكري، كما كانوا يحظون أيضاً بزخم معنوي هائل متمثل في الإمام الحسين عليهم السلام وإشعاعات نهضته الخالدة، ويمكن القول بأن كل الفضل في إرساء دعائم شعيرة زيارة الإمام الحسين، يعود إلى أولئك الشيعة المضحين والمناظلين الذين تحدوا الصعاب وواجهوا المستحيل ولم يأبهوا بهدم قبر الإمام ولا حرث الأرض وإغراقه بالماء، مصرّين على زيارة الإمام في كل المناسبات المروية والمؤكد عليها من قبل الأئمة المعصومين، لذا فقد هلك المتوكل فيما كان المدّ الشيعي في تصاعد ونمو ولم يتمكن من الامام الهادي عليه السلام عليه السلام إلا بعد تسلمّ ابنه المعتمد الخلافة حيث أقدم على دسّ السم إليه واغتياله في سامراء.
من هنا فإن أول عمل قام به الامام الحسن عليه السلامالعسكري عليه السلام هو إنشاء مدرسة للقيادة الرسالية لعلمه بأنه آخر حلقة في سلسلة القيادة الربانية الموجهة للأمة بشكل مباشر، فقد حدد ملامح هذه القيادة وصلاحيتها ومواصفاتها ومسؤولياتها والتفاصيل المتعلقة بها كافة، وكان من أبرز أولئك القادة محمد بن عثمان بن سعيد العمري أحد سفراء الإمام الحجة المنتظر، كما كان أبوه عثمان أحد وكلاء الامام الهادي عليه السلام، إذ لم يشأ الامام العسكري الرحيل عن الحياة الدنيا تاركاً شيعته في الامصار المختلفة ومن قيادة حكيمة تنوب عنه وتكون مستعدة للنيابة عن الامام الثاني عشر، فهو عليه السلام لم تدم إمامته سوى ست سنوات، فيما احيطت حياة ولده الامام المنتظر عجل الله فرجه بظروف عصيبة وقاسية لعلم العباسيين بقرب مولده، فكانوا يراقبون ويتابعون زوجات الامام العسكري وجواريه في بيته، بل طالما تعرض بيته للتفتيش بحثاً عن المرأة الحامل بابن الامام العسكري الذي يخافونه على سلطانهم ومستقبلهم السياسي والاجتماعي، لكن حصل ما كان يخشونه وهو انهيار حكمهم بفعل الانتفاضات والتحركات المعارضة للشيعة، وبات وهج الرفض للنظام الجائر والمنحرف عن الدين يقض المضاجع منذ تلك الفترة والى اليوم.
|
|