الدعاء في القرآن الكريم
|
"لا تزغ قلوبنا"
*صادق الحسيني
من السهل احياناً الوصول الى القمة و لكن الصعب دائماً البقاء فترة أطول في هذه القمة... هكذا يقول الحكماء و يصدق ذلك في القمم المادية و المعنوية على حد سواء. فقد يشم الانسان نسيم التقوى و يتعطر بنفحات الايمان ولكن من الصعب أن يبقى على تلك الوتيرة دائماً، فموجات الوساوس و ضغوط الاهواء و الاغراءات المختلفة قد تؤدي به الى الانحراف.
و اذا ما اراد البقاء والاستقامة على الايمان فلا يستطيع ذلك من تلقاء نفسه فقط و انما عليه الالتجاء الى الله تعالى و طلب عدم الانحراف عن الصراط المستقيم منه عزوجل. من هنا يدعو المؤمنون ربهم قائلين على لسان الوحي: "رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَ هَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ" (آل عمران /8).
و الزيغ، بمعنى الميلان، لذا فان المؤمنين يطلبون من ربهم أن يعينهم على الاستقامة و القصد اليه لأن الانسان قد يتصور صلاح مسيره و وصواب تفكيره، ولكنّه ربما يكون عكس ذلك في الواقع، وقد لا يدرك ذلك الّا بعد فوات الاوان - لا سمح الله- من هنا على المؤمن أن يراجع نفسه دائماً ويدعو ربه لكي لا يضلّ عن الطريق، و من هنا يقول الامام موسى الكاظم (ع): (إن الله حكى عن قوم صالحين: أنهم قالوا: "رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَ هَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ" حين علموا أن القلوب تزيغ و تعود إلى عماها و رداها).
وبالاساس انما سُمي القلب بهذا الاسم لكثرة تقلبه ولذلك يجدر بالمؤمن ابداً في حالة إنابة و توبة لكي يضمن بقاءه على الصراط القويم، و قد جاء في الحديث عن ابي عبد الله (عليه السلام): (أكثروا من القول: "رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا" و لا تأمنوا الزيغ).
فان كانت الدنيا دار ابتلاء وكان الانسان مقصوداً بذلك فانه يبقى ولآخر لحظة منها على خوف من السقوط في مهالك الوساوس الشيطانية او الأهواء النفسانية، و ان لم يكن كذلك لا يأمن الانحراف و كم من أناس نموا على الاسلام و لكنهم انحرفوا عن الطريق بعدئذ و استبدلوا الهدى عمىً و ضلالا. و كم هم الذين يرتدون عن دينهم انهم لكثيرون، و لعلّ اسوأهم حالاً عابد بني اسرائيل الذي عكف على عبادة ربه لسنوات مديدة ثم وبعد حادثة تعرضت له نفسه الامارة بالسوء فاطاعها و انكشف امره و عندما أرادو اجراء القصاص العادل بحقه، تمثل له ابليس ليغرر به ثانية ويدعوه للسجود له في مقابل وعد كاذب بانقاذه من الاعدام، وبالرغم من القيود التي كانت عليه، إلا النفس الدنيئة والانحراف البعيد عن الله دفع بالعابد المزيف لأن يومئ برأسه سجوداً للشيطان، وما هي الا لحظات وتضرم فيه النيران ويحرق ويغيب عنه ابليس وهو يقول: "اني اخاف الله رب العالمين"! طبعاً هذه كانت نار الدنيا، أما في الآخرة فان العذاب أخزى وأمرّ.
و في الحقيقة أنّ الشيطان يتمثل لكل انسان حينما يشارف على الرحيل من الدينا و من هنا نقرأ في دعاء (العديلة) : (اللهم اني اعوذ بك من العديلة عند الموت)، لكي لا نغوى بأن نعدل من الحق الى الباطل و من نور الهدى الى ظلمة الضلال، ودعاؤنا بالاستقامة هو دعاء شامل لجميع محطات الحياة و حتى عند الموت.
هذا درسٌ من القرآن الكريم لنا ولجميع المؤمنين، بضرورة التذكّر والدعاء الى الله بان يحفظنا من زيغ القلب، وفي سياق الآية القرآنية المباركة نجد دعاء المؤمنين بأن يرزقهم الله رحمة من عنده، تقول الآية: "وهب لنا من لدنك رحمة"، و ان كانت الرحمة من الرحمن الرحيم فلا يقاس بها شيء لأنها رحمة معنوية قبل أن تكون مادية و اخروية مع أنها دنيوية، و هكذا هي رحمة شاملة يأمل المؤمنون أن ينالوها من الله تعالى لأنه عزوجل وهّاب. ولو تأملنا هذا الاسم العظيم نلحظ أنه بصيغة المبالغة بأنه يهب على وجه الكثرة و المبالغة، و هذا يعني أنه تعالى كما اعطى للسابقين من عباده و ثبت اقدامهم وادخلهم الجنة في أعلى عليين، أن يهب لنا ايضاً، و لو أوجدنا الشروط في انفسنا لنجد انفسنا في بحبوحة الرحمة الالهية و بقلب مفرغ من الامراض و محصن من الزيغ و مفعم بالايمان و مليئ بالتقوى لنفوز في الدارين ان شاء الله تعالى.
|
|