النجوم في الشعر العربي
جمال الصور وعمق التراث
|
* محمد كاظم الكريطي
يعدّ الشعر العربي وخاصة الجاهلي منه منبعاً ثرّاً للباحثين والدارسين، فإضافة الى إتخاذه أصولاً لدراستهم في جوانب كثيرة فإنه لا يزال مثاراً للتأمل ومحفزاً لدراسة نظرة الشاعر العربي نحو قضايا الحياة وظواهر ا لطبيعة وغيرها من الأمور الأخرى، ولعل من أجمل المواضيع التي تناولها الشعر العربي بشكل عام والجاهلي بشكل خاص هو موضوع النجوم إذ إن من أ جل المناظر التي يمكن أن يستمتع بها الانسان هو قبة السماء في ليلة مظلمة في الصحراء موشاة بالنجوم الصغيرة والكبيرة فكان من الطبيعي أن يحمل الشعر في هذا المنظر الخلاب روعة وجمالاً وإذا عرفنا أن هذا الشعر لم يقتصر على وصف قبة مرصعة بالنجوم بل أخذ أبعاداً أنثروبولوجية دلت على أن العرب القدماء كانوا على علم كامل بثقافة الأمم والحضارات القديمة كالبابلية والكنعانية وغيرها من الحضارات التي سكنت منطقة الشرق الأدنى فاشتركت نظرتهم عن هذه الحضارات في النجوم فإن الموضوع سيكون أكثر إثارة وأهمية.
فقد كانت نظرة العرب في الجاهلية الى النجوم نظرة متفاوتة فقد حظيت بعض النجوم بمكانة أكبر من غيرها فبعضها – عندهم – كانت ذات طالع سعيد وبعضها نحساً كما كانت العرب تستعمل بعض النجوم في قياس قوة الإبصار فالثريا – مثلاً – تجمع نجمين يستطيع الانسان العادي أن يرى منها ستة أنجم أما ذو البصر الحاد فيرى أكثر يقول المبَّرد:
إذا ما الثريا في السماء تعرضت يراها الحديد العين سبعة أنجمِ
على كبد الجرباء وهي كأنها جبيرة درٍّ ركّبت فوق معصمِ
وتعدّ الثريا من أحب النجوم الى العرب وقد وصفت بأوصاف كثيرة نظراً لحبهم لها يقول أبو الأشهب الأسدي:
ولاحت لساريها الثريا كأنها على الأفق الغربي قرط مسلسل
ويصفها يزيد بن الطثرية بالجمان وهي تتلألأ في السماء فيقول:
إذا ما الثريا في السماء كأنها جمان وهي في سلكه فتبددا
أما أبو قيس بن الاسلت فيصفها بالدملج وهو السوار فيقول:
وقد لاح في الصبح الثريا لمن يرى كعنقود دملاجية حين نوِّرا
ويقول ابن المعتز:
زارني والدجى أحم الحواشي والثريا في الغرب كالعنقودِ
كما كان العرب يستعملون الثريا في معرفة الطقس فإذا اقترن القمر وهو ابن خمس ليال مع الثريا دل ذلك عندهم على انتهاء الشتاء يقول علباء ابن أرقم:
إذا ما قارن القمر الثريا لخامسةٍ فقد ذهب الشتاءُ
ويأتي بعد الثريا (الدبران) وهو نجم أحمر لامع يقع بجانب الثريا الى الخلف وكانت العرب لا تحب هذا النجم فهو عندهم نحس يقول الشريف الرضي:
نجوتُ من العمَّاء وهي قريبة نجاء الثريا من يد الدبرانِ
وقد أُختلف في سبب تسميته بـ (الدبران) ولعل أرجح الأقوال في ذلك هو قول ذي الرمة الذي يشير الى أن سبب هذه التسمية هو أن هذا النجم يأتي دبر الثريا اي خلفها يقول:
وردن اعتسافاً والثريا كأنها على قمة الرأس ابن ماءٍ محلقُ
يدف على آثارها دبرانها الى الماء من قرن التنوفة مطلقُ
ومن النجوم المحبوبة عند العرب (سهيل) وقد قالت في أشعار كثيرة وجميلة فهو عندهم محبوب كالثريا وهو من نجوم الشتاء يقول ابن هرمة وقد رأى سهيلاً يتلألأ في السماء فشبهه براعٍ يرعى النجوم:
وبدا سهيلٌ كالشهاب مشبها راعٍ على شرف العرينة سائر
وتقر عين مالك بن الريب برؤية سهيل عندما دنت منيته في مرو وهو قافل من خراسان فيقول من قصيدته اليائية الشهيرة:
اقول لأصحابي ارفعوني لأنني يقرّ لعيني أن سهيل بدا ليا
وروي أن والي الطائف قد زوّج فتاة تدعى ثريا من فتى يدعى سهيل وكان عمر بن أبي ربيعة المخزومي الشاعر يحب هذه الفتاة فأنشأ يقول:
أيها المنكح الثريا سهيلاً عمرك الله كيف يلتقيانِ
هي شامية إذا ما استقلت وسهيل إذا استقل يماني
مشيراً الى الفكرة الفلكية العربية في تقسيم النجوم الى شمالية (شامية) وجنوبية (يمنية) واستحالة إلتقائهما.
أما النجم الرابع فهو النجم القطبي ويسميه العرب أحياناً بالجدي وهو غير الجدي البرج المعروف الذي تحل فيه الشمس في مسارها وتبدو النجوم وكأنها تدور حول هذا النجم وسبب ذلك هو حركة الأرض حول محورها ويصف الكميت دوران النجوم هذا بقوله:
مالت إليه طُلانا واستطيف به كما تطيف نجوم الليل بالقطبِ
ويصف المهلهل بن ربيعة التغلبي ليلة من ليالي حرب البسوس بين قبيلته تغلب وقبيلة بكر بحركات النجوم حيث يفتتح قصيدته بقوله:
أ ليلتنا بذي حسم أنيري إذا أنت انقضيتِ فلا تحوري
ثم يشرع في وصف النجوم في تلك الليلة:
كأ، الفرقدين يدا مفيضٍ ألحَّ على أفاضته قميري
كأن الجدْيَ جَدْيَ بنات نعشٍ يكبّ على يديها كالمُديرِ
كأن النجم إذ ولّى سحيراً فصيل حنّ في يوم مطيرِ
كأن كواكب الجوزاء عوذ معطفة على ربع كسيرِ
تبدّى فاستقلّ لنا سهيلٌ يلوح كقمةِ الجبل الكبيرِ
كأن مجرة الخسرين هيج لكل حديقة تهدي وعيرِ
كأن التابع المسكين شيخ يواخي أحلف الشيخ الوقيرِ
ويبدو من خلال هذا الشعر أن ليلته كانت من ليالي الشتاء فلا يمكن أن يبدو سهيل والجوزاء والثريا مساء إلا في ليالي الشتاء.
وكان الاستسقاء بالنجوم من أهم المعتقدات عند العرب في الجاهلية فقد وقف الشاعر العربي موقف التذلل والتضرع وهو يترقب سقوط الأمطار في عتمة الليل وقد جعل المطر فعلاً للكواكب وحادثاً عنها ونسب الأمطار والرياح الى الساقط والطالع من النجوم وأضافوا الغيث الى الكواكب فقالوا مطرنا بنوء كذا... قال ابن سيده في كتابه (الأنواء) ص82: (وإنما جاء حمدهم بعض الأنواء وذمهم بعضاً من قبل مواقع الأمطار التي تكون في أيامها، فأي كوكب جاء وقت نَوئه فصادف المطر الذي يكون في من الزمان ومن البلد موافقة ونحج فتبين خيره ونفعه حمدوا ذلك النوء واضافوا حمده الى فعل الكواكب، ولما جربوا هذه الأمور في القديم وطال اختبارهم لها فوجدوها ثابتة في مراتبها ألزموا الكواكب ذلك) وهذا التعليل يبين أن عبادة النجوم كانت جزءاً أساسياً من التراث الديني الجاهلي فالنوء يرتبط باعتقادهم بفعل الكواكب المؤثرة فهي التي تصنع السحاب وترسل الرياح وتأتي بالمطر، يقول بشر بن أبي خازم الأسدي:
جادت له الدَّلو والشعرى ونوؤهما بلك أسحمَ داني الودق مرتجف
فالدلو والشعرى من الأنواء المحمودة الخيرة عندهم إضافة الى الشرطان والثريا والسماكان والنعائم والبلدة والسعود الأربعة: الذابح وبلع والأخبية والسعود وقد حمدوها لغزارة أمطارها وطيب هوائها وكثرة خيراتها أما الأنواء المذمومة عندهم فهي البطين والهقعة والهنعة والدبران والزُّباني والأكليل والقلب والشولة وكان في اعتقادهم أن للكواكب الدور الأول في تقرير مصير الناس والتحكم في حياتهم ورزقهم وهذا المعتقد كان سائداً في الحضارة البابلية.
وكان الشاعر الجاهلي يربط بين همومه ومصائبه ومشكلاته وبين يوم مولده وما فيه من أنواء يقول الأسود بن يعفر النهشلي:
ولدت بحادي النجم يتلو قرينه وبالقلب قلب العقرب المتوقّدِ
وكان يصاحب طقوس الاستسقاء بالنجوم طقوس شعبية وممارسات خاصة وقد ذكر الزبيدي في تاج العروس في مادة مطر أن صبيان الأعراب إذا استسقوا ورأوا حالاً للمطر يصيحون (مُطَيرْى).
وإضافة الى هذه الأغراض التي نظر من خلالها العرب الى النجوم فإن هناك جانباً آخر لا يقل عن هذه الجوانب وهو جانب الرثاء ولعل هذا الجانب من أجمل التشبيهات بالنجوم حيث يصور الشاعر مكانة الميت بالنجم ولكنه أفل وهو تصوير رائع ولكن الفرق بينهما أن النجم يعود مرة أخرى ولكن الميت لا يرجع يقول أبو الحسن التهامي في رثاء ابنه:
يا كوكباً ما كان أقصر عمره وكذا تكون كواكب الأسحارِ
وحينما يرثي أوس بن حجر فضالة بن كلدة يطلب الشاعر أن تكسف الشمس والبدر والكواكب لموته فهو عنده بمقامها يقول:
ألم تكسف الشمس والبدر الكواكب للجبل الواجبِ
ويريد المهلهل أن تشاركه النجوم في بكائه على أخيه كليب يقول:
وأبكي والنجوم مطلّعات كأن لم يحوها عني البخارُ
أما الخنساء فإنها كانت ترى في النجم صورة أخيها صخر فباتت ساهرة تراقبه تقول:
فبتّ ساهرةً للنجم أرقبه حتى أتى دون غور النجم أستارُ
ويتأمل لبيدٌ في النجوم فيرى أن الأمم البائدة والملوك الأولين قد أهلكهم الدهر بعد أن عمر بعضهم وطغى الآخر وبقيت النجوم فقال:
بَلينا وما تَبلى النجومُ الطوالعُ وتبقى الجبالُ بعدنا والمصانعُ
فلا جزع أن فرّق الدهر بيننا وكل فتى يوماً به الدهر فاجعُ
وقريب من هذا المعنى جداً هذا القول:
مات من مات.، والسبات السبات والثريا الثريا والنشر نشرُ
ونجوم السماء تضحك منا كيف تبقى بعدنا ونمرُ
وضمّن دعبل بيته باشارة الى قداسة الذين رثاهم في قصيدته التائية الشهيرة وذلك بإضافة كلمة سماوات الى النجوم كونهم أرفع وأجل من النجوم المضيئة ليقول:
أفاطمُ قومي يا بنة الخير وأندبي نجوم سماوات بأرض فلاتِ
وهناك أشعار كثيرة أخرى بأغراض متعددة قيلت في النجوم وأكتفينا بهذا المقدار الذي روعي أن تكون فيه الأمثلة مختزلة ومعبرة.
|
|