قصة قصيرة
علم العروض
|
عدنان عباس سلطان
صعد المكان العالي بوجه متعب، حفرت تقطيبة الجد البادية على محياه مواقع دفاعية متعرجة تستوقف حباة العرق المتساقط على جبينه مثل نقاط التفتيش، مسحها بخرقة فقدت بياضها منذ زمن وأخذ ينظر الى القوم الذين اكتظ بهم المكان كان الجميع بحركة دائمة كل منهم يبحث عن المكان الذي يظنه ملائماً ويسمع فيه بصورة أفضل حتى الأولاد إعتلى أغلبهم أكتاف أمهاتهم ناظرين بسعادة أو بذهول..
(أخواني)..، ابتلع الصمت ضوضاء المكان واشرأبت الأعناق: (أيها التائهون في مجاهل الأرض وفيافيها..،) تلفّت أغلب الواقفين حولهم بحثاً عن المقصودين بهذا الكلام (في بحثكم عن ضالتكم التي تنشدون، اليوم بزغ نوركم بهياً أضاء لكم الطريق الى الخير..،) في الوقت الذي انفعل فيه وبشكل جاد مع نوبة السعال وظلت الورقة التي يمسك بها تترنّح في الهواء نسي أغلبهم الجمل التي قالها قبل ذلك تحت تأثير حالته الطارئة وهو يجاهد في الخلاص منها فيما اعتبرها البعض مجرد مراسيم لا بد من ذكرها..، (إن بشراي لكم ولأخواني المنتدبين معي أننا وجدنا الأرض الملائمة التي ستعيشون فيها كشعب متطلع الى الحرية وا لديمقراطية برؤية إيمانية لا غبار فيها ولا تراب بدل الأرض الخراب التي نخرت عظام حتى الميتين منكم).
انتابته نوبة السعال مرة أخرى وبتأنيب أكثر شدة استنزلت الدموع من عينيه المتغضنتين لكنه رغم هذا فقد أبدى عناداً متميزاً ليعبر من بين أسلاكها وفراغاتها الضيقة وأخذ يرسل الكلمات المشعثة والمهمشة وأخيراً استطاع أن يهزم النوبة بإصرار وطول نفس وأظهر كفاءة عالية في الاسترسال العاطفي والوجد الغيماني المتميز على صعيد الكلمات الرقيقة المنسابة بسحر فريد. وما أن سار على الطريق الذي عبّده للجماهير المرتابة حتى قاطعه أحدهم بجفاء:
- لسنا أقوياء بما يكفي على ألحانك الحزينة سيدي: نريد زبدة الأمر..؟
تمنى أن يسدد لكمات متوسطة القوى الى أسنان هذا الرجل الجلف الذي قاطعه بتلك الصفاقة والفضاضة ومغازلته ببعض الالفاظ الشعبية البليغة إشفاءً للغليل وإطفاءً للغيظ المستعر لولا أن ذلك يؤثر سلباً على أوزان كلماته المتفاعلة التي شيدها في ورقته وضياع جهد ليلته الفائقة، ورغم تداخل المشاعر والانفعالات مع بعضها البعض فقد استأنف القراءة تاركاً الرسائل الشعبية السمعية والبصرية وملغياً أذنيه الفضوليتين اللتين تؤكدان له التذمر والاستهجان والملل أحسّ بعد فترة وهو مستمر بالقراءة بشدة الهدوء وهيمنة الصورة الصوتية و قوة الأصداء التي ترتد إليه بوضوح لا تشوبها شائبة وكان شبه متأكد بأن كلماته (البليغة) أتت أُكُلها فرفع القرطاس الذي يخفي وجهه لكنه فوجئ بخلو المكان! لم ير أحداً غير الذيول الأخيرة من المتجمهرين وهم يكادون أن يختفوا في الأزقة ومداخل المدينة. فتح عينيه بفزع واستغراب وهو ينظر الى أفراد اللجنة عن يمينه قال أحدهم بعتاب:
- لقد نبهتك أكثر من مرة الى قراءة علم العروض!!!
أجاب بسعال متقطع:
- أي عروض!!؟ جلودنا ستمسي عند الدباغ! إن لم نقنع الناس أو نرد سخاء الرجل بأضعاف مضاعفة!
قال آخر:
- ماذا نفعل لهؤلاء؟؟
نزل مستصحباً سعاله وقد شمّر عن ساعديه وقال:
- سنهيئ لهم لحناً آخر!!
|
|