الحداثة المضللة
|
محمد طاهر محمد
لا يجد من يريد أن يدخل المضمار الحالي للشعراء أية صعوبة في أن ينضم إلى هذه القافلة الطويلة العريضة من الاسماء، بل إنه من السهل عليه أن يكون شاعراً معاصراً دفعة واحدة يقف أكبر النقاد عاجزاً أمام ألوان كتاباته ويشعر أن الادوات والقدرات النقدية التي صقلها خلال سني عمره الطويل تتهاوى أمام هذا التطور الأدبي الحداثوي الذي هو فوق طاقته بأضعاف مضاعفة.
ومن الطبيعي أن يكون شاعرنا الحداثوي مستعداً لمواجهة أي نوع من النقد والتجريح. فالحداثة لا تنبثق من القراءة والتأمل والتحليل والخوض في التراث، فتلك أمة قد خلت، بل من خلال موازنتها بمعايير غريبة سيدي الناقد، هكذا سيكون جوابه كما أن حذلقة شاعرنا في اضفاء المصطلحات الفلسفية واسماء التيارات الغريبة الحديثة تصنّعاً وإدعاءً فارغاً تجعل الناقد المسكين يسلم بالواقع المر ويشعر بخيبة الأمل لما آل إليه الأدب من الغربة وعدم الانتماء والضياع إن صح التعبير، ولم يقتصر استعداد شاعرنا الحداثوي على الدفاع عن كل ما يورد ويصدر من انثيالات مموهة ولغة مرتبكة وصور مشوّهة بل تعدى استعداده إلى الهجوم على من يتصدى له بالنقد واطلاق احكام (حداثوية) على كل من يتصل بالتراث بـ(الكلاسيكية القديمة) ومن يتصل بالرموز التاريخية بـ(المنبرية) وتغاضى شاعرنا الذي بهرته الأضواء وأغرته الألوان وشدّته المظاهر والقشور، إنه بمحاكاته لكل ما هو غربي في كتاباته قام بتزييف الشعور والقيم النقدية وتضليل القرّاء فالقارئ عندما يطالب الشاعر بأن يصور الحالات الاجتماعية المعاشة وفق ما يفكر بها الشاعر أو يتعامل في مستوى المعاناة فإنه – أي القارئ – يتفاعل مع هذه المعاناة ويعيشها فيتألم كما يتألم الشاعر، أو بحدود منه وهو لا يكذب مشاعره ولكنه عندما لا يجد أيّة استجابة أو إثارة أو تفاعل مع ما يكتبه الشاعر الآن فإنه يشك في تعطيل حواسه ويتهم قدرته بالقصور عن الفهم لأن القصيدة أو (النص) كما يسميه الشاعر الحداثوي قد أعطي صبغة اعلامية رسمية.
بمثل هذه الذهنية الضحلة والصور المبهمة التي لا تميل الى أية قضية معينة أو موضوع اجتماعي أو فكري، امتلأت جعبة شعرائنا الحداثويين.
حاول بعضهم في أمسية باهتة وطيلة ساعتين كانتا اطول من عمر نسرٍ، أن يضفي على مساحات أوراقه التي كانت لها رائحة كرائحة (ضبنة) عندما حملها فيه لوناًَ أدبياً لكن صوره المهشمة وغموضه المفتعل فضح (نصوصه) التي خلت من الموضوع أصلاً في اجواء خلت من (التقية) ولكنها لم تخلُ من هذه الفوضى، وبقيت العيون والاخيلة تتأمل في هذا الفضاء اللامتناهي من الهذيان.
لا أدري ما الذي ذكرني حينها بمقولة للكاتب العراقي الكبير الدكتور علي الوردي حيث يقول: (إن البعض يتحدث بلغة سارتر وسيمون دي بوفوار) وفي داخله (ملة عليوي) ورغم أن الدكتور لم يعرفنا بملة عليوي هذا إلا أنني وجدته في شاعرنا بعد نقاش قصير معه في نهاية أمسيته (المذهلة) حيث تبين أنه لم يكن جاهلاً بأدوات الشعر كالعروض والتفاعيل وغيرها فحسب بل إنه لم يتقن المبادئ الأولية للغة كالنحو والصرف وغيرها فهذه الاشياء عنده ليست مهمة للشاعر، وكل ما عليه هو ضخ ما تعطيه المخيلة من كلمات غير متناسقة تنطلق متحررة بالكامل من اسوار البناء اللغوي والعروضي للقصيدة ليقدمها ركاماً أمام القارئ.
إن معضلة الأدب الكبيرة هي إمعان هؤلاء في هذا النمط من الكتابة فهم يحاولون أن يتلمّسوا في كتاباتهم ما وجدوه في الأدب الغربي بسطحية بلهاء حيث تخلتط المعايير وتضطرب الموازين، إننا لسنا ضد الاطلاع على الأدب الغربي ولسنا ضد الإلمام به فثقافة الشاعر تتطلب منه الاطلاع على اكبر عدد من التيارات الأدبية الاخرى وطرق التعبير عنها وتذوقها وتقويمها، ولكننا ضد المحاكاة العمياء التي تحاول طمس تراثنا الأدبي وخصائصه الفنية.
|
|