محاضرة يلقيها.. سَمَاحَةُ المَرجِعِ الدّيني آيةُ اللهِ العُظمى السَيد مُحَمّد تَقِي المُدَرّسي
مدرسة أهل البيت (ع) تستقبل المثقلين بالأنانيات والحزبيات وتخرّج أبطالاً ومضحين
|
*ضياء باقر
أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان اللعين الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
"مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَاداً لِّي مِن دُونِ اللّهِ وَلَـكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ* وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنِّبِيِّيْنَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ* وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ* فَمَن تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ" سورة آل عمران (79-82)
آمنا بالله..
صدق الله العلي العظيم
إن الهدف البعيد والسامي لكل المدارس الدينية والمبادئ الفلسفية هو الوصول الى الخلق الفاضل الذي يكبح جماح النفس البشرية الجامحة نحو الفردية والذاتية والأهواء والمصالح ويوجه الناس الى العمل المشترك والهدف المشترك، هذا هو الهدف أنّى ذهبت. ابتداءً من تلك الديانات المنقرضة أو المبادئ الفلسفية التي لا تجد لها اليوم انصاراً كثيرين، وانتهاءً بالرسالات الإلهية تجد أن جوهر هذه الرسالات يتمثل في الاخلاق، أما نبينا الأكبر وسيدنا وحبيبنا محمد (ص) فإنه قد قال: (إنما بعثت لأتمّم مكارم الأخلاق)، ولكن هل نجحت هذه الرسالات وهذه الديانات وتلك المدارس الفلسفية والمبادئ الاجتماعية بتحقيق هذا الهدف الأسمى؟ أقول: إن النجاحات كانت متفاوتة ولا نشك في أن الدين الوحيد والرسالة الوحيدة التي أسست مبادئ الاخلاق بأفضل ما يكون ونجحت في تربية رجال في قمة الخلق السامي كانت رسالة الإسلام، وبالذات في مدرسة أهل البيت (ع) وذلك لأسباب شتى لا أريد أن اخوض فيها، ولكن من الأسباب الرئيسة لنجاح هذه المدرسة الإلهية هي في بلورة شخصية الإنسان وفي تنمية الخلق الفاضل في هذه الشخصية وفي بناء جيل من الذين وحدتهم هذه المبادئ وصهرتهم في بوتقة واحدة وكان لوجود هؤلاء القدوات والأسوات والشخصيات المثالية الدور الأكبر في نجاح هذه المدرسة، أما النبي الأعظم (ص) فإنه قد صنع وصاغ بخلقه الفاضل وبتزكيته للنفوس أولئك الفتية من أنصاره الذين يصفهم الإمام علي بن أبي طالب (ع) فيقول: (كانوا والله رهبان الليل وفرسان النهار) وكان ربنا يمدحهم حينما يقول: "وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ" وهناك آيات كثيرة تصف هؤلاء بأسمى صفات الخلق الفاضل والانصهار في الوحدة الإسلامية وإنما أصبحت هذه الأمة "خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ" لأن يد الرسالة هي التي صاغتها، المتمثلة بيد النبي (ص) وتزكيته وخلقه وأن النبي كان بذاته قدوة، وقد جاء في الآية الكريمة: "وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ" كل ذلك أسهم في انتاج خير الأمم.
وأما مدرسة الإسلام ومدرسة أهل البيت (ع) فإنها سارت على نفس المنوال وعلى نفس الخط، واستطيع القول أنا نملك في تاريخنا الحافل عشرات القدوات التي هي القمة في الخلق الفاضل، الواحد من هذه القدوات يستطيع أن يخلق لنا إنموذجاً إنسانياً متقدماً، فإليك هذا البطل العظيم أبو الفضل العباس (ع) بما مثله خلال ساعات في يوم عاشوراء، حينما ننظر الى أبي الفضل العباس فقط من زاوية تلك الساعات القليلة التي كان فيها أبو الفضل العباس (ع) نجد أن ذلك الخلق الفاضل الذي تمثل به رسول الله (ص) قد تجلى فيه، فما هذا الإيثار؟ وما هذه التضحية؟ وما هذا العرفان؟ وما هذا السمو الروحي؟ وما هذه البطولة؟ إنها بطولة الإيمان قبل بطولة الشجعان، بطولة العرفان قبل بطولة الفرسان، البطولة ليس في أن تقتل، وإنما في أن تكون في مستوى المهمة التي تُكلف بها، وأن أبا الفضل (سلام الله عليه) كان في نفسه ثارات من بني أمية الذين قتلوا أجداده، فقد قتلوا أمير المؤمنين (ع) وقتلوا الحسن (ع) وقتلوا في كربلاء 16 شخصاً من الأقربين إليه وفيهم ثلاثة من أخوانه، ولكن لم يثأر لهم، ولم يتقدم من أجل الثأر، ولذلك لم يحارب أعداءه في كربلاء، وإنما طلب الماء لأهل بيت الرسالة، فكان هدفه إيصال الماء الى المخيم أعظم من هدفه بتصفية أعدائه وكان له الحق في أن يقتلهم ولكنه لم يفعل وهم غدروا به وهو خارج من المعركة، والعرب كانت لديهم هذه العادة الذي يُقدم يحاربونه، أما إذا انسحب فيتركونه، وليس هناك أحد يقتل أو يقاتل وهو منسحب، والآن هو منسحب لأي سبب ليوصل الماء ثم يعود الى المعركة ولكن هؤلاء غدروا بأبي الفضل العباس (ع) وهو في حالة الإنسحاب، وهو ليس بالإنسحاب المعروف ولكنه في مهمة رسالية، مهمة ايصال الماء.
في هذا العالم كله شرقاً وغرباً وجنوباً وشمالاً وفي البلاد التي تسمى بالبلاد المتحضرة أو البلاد الأخرى أو أي مكان آخر اذا تذهب وتقدم هذا النموذج الثمين ستستهويهم هذه المدرسة الإلهية، وهي مدرسة أهل البيت التي ربّت هذا الرجل، أما علي الأكبر والقاسم بن الحسن (ع) وأما.. وأما... فكل واحد منهم قدوة، وهؤلاء تجدهم فقط في مدرسة كربلاء، على الرغم من وجود مدراس أخرى عبر التاريخ، لماذا؟ لأن النجاح الذي سطّره الإسلام والرسالة الإلهية في إعطاء هذه النماذج الراقية والعالية، هذا النجاح في الواقع سيبقى دليلاً صارماً و حجة وآية إلهية على صدق الرسالة.
نحن اليوم نقول: أن علياً (ع) آية الله، ونقول: بكم عُرِف الله ونخاطب أهل البيت لماذا؟ لأن علياً (ع).. هذه الشخصية الإيمانية المتجردة عن شوائب الدنيا، فنحن نقدم هذه الشخصية كصياغة للرسالة الإلهية، ونقول للعالم: هذا هو القرآن، فهل تريدون رؤية قرآن حي ناطق؟ هذا هو.
فليس هناك شخص ينظر الى علي (ع) والى صفاته وبطولاته وعلمه وحكمته ودرايته وكل ما يملك من أسمى الصفات إلا وتبهره هذه الشخصية ومن ثم تستهويه فيقول: أية مدرسة يجب علي أن أدخل فيها حتى أخرج وأكون مثل هذا الرجل أو في طريق هذا الرجل؟ والجواب هو مدرسة الإسلام ومدرسة الإيمان ولذلك إذا قالوا ماهي حجة النبي الأعظم (ص)؟ يقولون حجة النبي الأعظم هو علي (ع)، نسميه الآية الكبرى والنبأ العظيم، وفعلاً هو النبأ العظيم لأنه عندما تتحدث أنت عن الخلق الفاضل والإيثار والموالاة وغيرها... فهذه مجرد كلمات لكن أين تطبيقها؟ عندما ينام الإمام في فراش النبي وهو لا يدري ظاهراً أيقتل أم لا؟ وحوله ثلاثون سيف من سيوف الغدر وفي أي لحظة قد يدخلون على الإمام ويقطعونه إرباً إرباً كما كانوا قد خططوا له، فقال الإمام علي (ع): أنا أنام في مكانه وأفديه بنفسي.
يُروى إن الله سبحانه وتعالى قال لميكائيل وجبرئيل آخيت بينكما وجعلت عمر أحدكما أكثر من الآخر فمن منكما يقبل أن يكون أقل عمراً من الآخر، فسكت كلاهما وأطرقا برأسيهما! فهذا موقف صعب فقال لهما الباري عزّ وجلّ، أذهبا الآن الى الأرض وأنظرا إلى علي بن أبي طالب (ع) عبدي، كيف واسى بنفسه لأخيه النبي (ص) حيث قال له الرسول (ص): أتنام في مكاني ياعلي؟ فأجابه علي (ع): نعم، أفي سلامة منك؟ فقال له الرسول (ص): نعم، فقال إذن أنام، وكذلك الإمام العباس (سلام الله عليه) في كربلاء.
وسبحان الله... عند العرب والعجم، وعند كل العالم سنة وشيعة وغيرهم عندما تقول من هو باب الحوائج يقولون لك: إنه العباس (ع)، لكن لماذا أصبح العباس (ع) باب الحوائج؟ وكل هؤلاء قمم في العطاء والاحسان، أقول لك بصراحة لأن العباس (ع) كانت له حاجة إلهية ربانية رسالية لم يستطع أن يحققها فالله سبحانه وتعالى أعطاه هذا الفضل من لدنه في مقابل هذه الحاجة حتى يكون باباً لحوائج الناس، وأزيدك علماً بأن أمه أم البنين (ع) أيضاً هي من أبواب الحوائج لماذا؟ لأنها هي الأخرى كانت لها حاجة ولم تتحقق، تسألني أي حاجة كانت لأم البنين ولم تتحقق؟ فأجيبك: أن أم البنين (ع) تزوجت من الإمام علي (ع) من أجل هدف، وهو أن تنجب بطلاً يدافع عن الحسين (ع) وكل فكرها وتوجهها هو أن هذا البطل الذي تنجبه لأن أخواله بني كلاب أولدتهم الفحول وأبيه ذلك الرجل العظيم أبا الحسن علي بن أبي طالب (ع) فارس الميادين فلا بد من خلال هذا التزاوج يكون نتيجته شخصاً بطلاً يدافع عن الحسين (ع) ولكن أم البنين خاب ظنها ولم تقض لها حاجتها وهي تربّي العباس (ع) لمدة 33 سنة حتى يكون فدائي لأبي عبد الله الحسين لذلك عندما سمعت بالحسين أنه قتل انهارت، ولذلك فإن الله أعطاها هي الأخرى هذا الفضل وجعلها باباً للحوائج.
في هذه الآيات التي توجنا الحديث بها ربنا سبحانه وتعالى يبين في سورة آل عمران مقياساً أساسياً لرجل الرسالة الذي يحمل الرسالة الإلهية، فمن هو الرجل الذي يحمل الرسالة الإلهية؟ يحملها عالم الدين، والخطيب والسياسي المؤمن الرسالي وكل انسان نظيف وطيب يحمل هذه الرسالة، أليس كذلك؟ فما هو المقياس لها؟ هل الكلام والحديث المنمق؟ ولكن كيف أعرف أن هذا الانسان صادق أو ليس بصادق؟ وأكثر من ذلك أقول كيف يعرف الأنسان نفسه أ هو صادق أم لا؟ لأن الانسان قد يخدع نفسه ويصاب بخداع الذات، كيف؟ هنا ربنا يبين فيقول: إنه مابعثنا نبي ولا أعطينا شخصاً كتاباً ولا وفقنا شخصاً للحكمة ثم يخرج الى الناس فيقول: تعالوا لي ويدعو الناس الى نفسه، لماذا؟ لأن أساس الرسالات الإلهية تزكية النفس وخروج الانسان من زنزانة الذات الى رحاب الحقيقة، وقلنا بأن مدرسة أهل البيت ورسالة الاسلام وكل الرسالات والأديان هدفها إخراج الانسان من ظلمات الذات والنفس الى نور الحقيقة ورحاب الواقع، فمن غير الممكن أن يبعث الله انساناً ويقول له أنت تكون إلهاً لهم، "مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ" ثم الكتاب يعني القرآن، والحكم، يعني الحكمة والقدرة على الحكم بين الناس، والنبوة: هي الاتصال بالوحي "ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَاداً لِّي مِن دُونِ اللّهِ" أي لا يدعو الناس الى نفسه ويترك الحقيقة ويترك الله ويذهب الى نفسه، فما هي رسالة الله؟ والى ما تدعو رسالات الله؟ ربنا يجيب على ذلك: "وَلَـكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ" أي كونوا متوجهين الى الرب الذي خلقكم ويعطيكم ليلاً نهاراً "بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ" فالذي يعلم الكتاب هل يكون أناني أم رباني؟! وإذا كان هو يعلمك ويقول لك أخرج من ذاتك وهو لا يخرج من ذاته؟ أشبه بـ(طبيب يداوي الناس وهو عليل)، يدعو الى الخير ولا يعمل به، "بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ"، فلا يجوز لطالب علم أن يكون ذاتياً في بداية طلبه للعلم مثل شيء نعكسه يعني طبيب بدلاً من أن يعالج ويشافي المريض يكون هو الذي ينشر المرض أو الفيروس، "وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنِّبِيِّيْنَ أَرْبَاباً"، لا يمكن أن هذا الانسان الذي آتاه الله الكتاب والحكم والنبوة أن يدعو الى الملائكة أو النبيين ويقول تعالوا الى فلان نبي أو ملك واتخذوه رباً من دون الله، كلا "أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ" فهذا كفر في أن يدعو الى شخص ما، أنما يدعو الى الله وأكثر من هذا وأعظم "وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ" فهناك ميثاق - سبحان الله – لكن هذا الميثاق متى حدث؟ حدث في عالم الذر، في ذلك الميثاق قال الله للأنبياء، من هم الأنبياء؟ هم الذين لبّوا قبل غيرهم، وربنا حينما أخرج من صلب بني آدم ذريتهم وأولادهم وأشهدهم على أنفسهم ماذا قال لهم؟ قال: "ألست بربكم"؟ فأنكشفت عنهم الحجب وتجلى الرب بنوره العظيم لهم، "قالوا بلى"، ولكن لم يقولوا كلهم بلى في نفس الوقت، لكن أول من لبّى نبينا الأكرم محمد (ص) لذلك هو أقربهم في الميثاق وآخرهم في البعثة لماذا؟ لأن جميع الأنبياء مهدوا له الطريق لرسالته وهو أكملها وختمهم برسالته فكان (أولهم ميثاقاً وآخرهم مبعثاً)، كما جاء في الحديث، ولبّى من بعده الإمام أمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسين (ع) وهذا التدرج هو في التلبية هناك فأقربهم الى الله أصبح هو الذي لبّى قبل غيره، وهذه التلبية تمت، ثم أخذ الله من (124) ألف نبي أنتم لبيتم قبل الناس فجعلتكم أنبياء ولكن لي ميثاق معكم وحدكم فذاك الميثاق كان ميثاق عام ولكن هذا المختص بالأنبياء ميثاق آخر خاص، ذِكرُ هذا الميثاق جاء في القرآن في أكثر من آية منها هذه الآية التي جاءت في سورة آل عمران، ماذا قال ربنا سبحانه لهم؟ قال: سأبعثكم كلكم أنبياء، سأبعثك أنت يا موسى ويا عيسى ويا إبراهيم لكن بعدك يأتي نبي آخر، وإذا جاء نبي بعدك لا تقل: جاء هذا يزاحمني! أو أنا نبي وليس هو! فيجب عليك أن تنتبه له، وليس هناك نبي كفر بنبي آخر، وليس هناك نبي لم يؤمن بنبي، فالنبي آدم (على نبينا وعليه افضل الصلاة والسلام) وأنت تعلم عندما أخرج النبي آدم من الجنة وأنزل الى الأرض من بعد ما بكى وبكى وبكى.. كيف قبل الله توبته؟ لم يقبل توبته إلا من بعد أن جاءه جبرئيل وقال له يا آدم إذا أردت أن يقبل الله توبتك يجب أن تدعو الله بالأنوار الخمسة، فقال له: ما هي؟ فقال جبرئيل: التي رأيتها على ساق العرش، فقال آدم: الآن تذكرت، فدعا الله وقال: يا إلهي بالنور الأول الذي رأيته والنور الثاني والثالث والرابع والخامس، ولما قال النور الخامس بكى ورجف ودمعت عيونه وحزن وقال يا إلهي أسألك بهذه الأنوار أن فرج عني واقبل توبتي فقبل الله توبته، وقال آدم: يا إلهي لما قلت أنا النور الأول إنشرح قلبي وعندما قلت النور الثاني إنشرح قلبي والثالث والرابع ولكن عندما وصلت الى النور الخامس إنقبض قلبي وإنقبضت نفسي وجرت دمعتي، فما هذا يا إلهي؟ فقال الله سبحانه وتعالى: يا آدم هذا نور الحسين (ع) إنه من ولدك، سوف يقتل في أرض يقال لها كربلاء، ثم بدأ ربنا سبحانه يقص على آدم قصة كربلاء وعاشوراء ومن جملة ما قاله له أنه يا آدم اعلم إنهم سوف يحجبون عن رؤية السماء يشاهدون كالدخان أمامهم من شدة العطش، فيبلغ العطش بهم مبلغاً أنهم لا يرون، فاعترف آدم بهم جميعاً واعترف سائر الأنبياء كنبي الله نوح عليه السلام عندما أتى بالناس وجلسوا في السفينة وصعدت على الأمواج كل موج مثل الجبل أخذ يضرب السفينة، ورغم أن نوح يعلم أن الله ينجّه، لكن الأمواج الهائلة كانت تأخذ السفينة وتهزها هزاً، فقال ياإلهي ماذا أفعل؟! قال أكتب الأسماء الخمسة على السفينة وبدأ نوح يكتب الأسماء الخمسة على السفينة والآن توجد لوحات عليها أسماء بالسريانية وجدوها في الاتحاد السوفيتي السابق وعليها أسماء الأنوار الخمسة عليهم (أفضل الصلاة والسلام)، وهكذا الأنبياء كل آمن بالآخر.
إن الذي يسير في طريق الأنبياء يجب أن لا يتأخر بالاعتراف بالآخر الذي في طريقه، وليس في الطريق الآخر، أما إذا تلكأ وأخذته العزة بالأثم يسقط من ديوان الأنبياء ومن ديوان خط الأنبياء (سلام الله عليهم اجمعين) وهذا مقياسنا، أما مقياس أهل النار "كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا"، لكن مقياس أهل الجنة: "وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ".
أيها الأخوة: نحن في أيام الحزن والكآبة نسمع قضية الامام الحسين (ع) او الحزن في اي مناسبة اخرى، كأن نفقد صديقاً أو نفقد عزيزاً، فعندما يستولي علينا هذا الحزن نكتشف إنا قريبون الى بعضنا ونكتشف أن هذه الحواجز المصطنعة التي كانت تقف بيننا وبين بعضنا البعض قد تساقطت كأوراق الخريف، وهذه هي الحياة الطيبة، وهذا هو الخلق الفاضل، بأنك تذوّب بينك وبين اللآخرين جميع الحواجز، وأن لا تفكر و تقول: انا أو هو، بل قل انا وهو، هذا الخلق الفاضل يجب أن نتعلمه من ابي الفضل العباس عليه السلام، هذا الخلق الفاضل يجب أن نتعلمه من ذلك الشاب الذي قال عنه أبو عبد الله الحسين (ع): أنه اشبه الناس بنبيك خلقاً ومنطقاًَ، وهو علي الاكبر (ع) والقاسم بن الحسن (ع).
والحمد لله إن حياة وتاريخ هذه الصفوة الطيبة وبأدق التفاصيل من مصائبهم، لا تُدرّس فقط في المدارس او في المجالس وانما تُدرس في الشوارع وفي حياتنا ليل ونهار، والحمد لله عندنا مناسبة مهمة ومناسبات اخرى، وهذه المناسبات ينعم بها الله سبحانه وتعالى علينا ويدخلنا في مدرسة الطهر ومدرسة النقاء ومدرسة الايمان ومدرسة العرفان فيدخلنا مثقلين بالذنوب و بالانانيات و بالحزبيات، لكن يخرجنا ان شاء الله ببركته وفضله طاهرين نظيفين اتقياء انقياء، وهذه رحمة الهية، لكن لي ملاحظتين في نهاية حديثي اريد ان ابينهما:
الملاحظة الاولى:
هي خاصة بالعلماء وبالخطباء والكتّاب وبالذين ينطقون باسم قضية ابي عبد الله الحسين (ع) اقول:
وجهوا الناس بصورة اكثر فاكثر مما توجهون، وبارك الله فيكم، لكن اكثر من هذا وجهوهم الى الاقتداء بهم يعني ابرزوا لهم هذه البوتقة التي لا بد ان ننصهر فيها.
أيها الأخوة: دعونا نتبصر ببصائر كربلاء، نتثقف بثقافة عاشوراء دعونا نكون حسينيين روحاً وجسداً قلباً وقالباًَ، دعونا نكون حسينيين عرفاناَ وحكمة وحماساً، نكون حسينيين فعلاً، حتى تتحول الحياة الى حياة طيبة وتتغير نفوسنا ونظراتنا الى الآخرين، في المقابل يزول سوء الظن والاستهزاء والتمسخر بالآخرين، وكل هذه الحواجز تزول، فيقول له من انت؟ يقول له انا من جماعتك، يقول له: هل من جماعة ابي عبد الله الحسين (ع)؟ وهل تحبه؟ يقول: نعم، ولماذا لا أحبه؟! وانا صغير عندما اسقط اقول يا حسين ويا ابا الفضل ويا علي ويا حيدر... إن حياتي امتزجت مع هذه الرموز، فيقول لك: مثلما ان حياتك هكذا، فحب كل من أحب حسيناً أو ليس الحديث الشريف يقول: (أحب الله من أحب حسيناً)، فهل تقبل انت المؤمن المخلص أن هناك شخصاً يحب الحسين و يحبه الله وانت لا تحبه؟! ماذا سيحدث؟ اذن لماذا تقول: إني سلم لمن سالمكم وحرب لمن حاربكم؟!
أيها الأخوة: دعونا نذيب... وانا حديثي مع العلماء والخطباء والناطقين بهذه المأساة اقول لهم: يا جماعة قربوا الناس الى روح ابي عبدالله الحسين (ع) وفي هذا إن شاء الله ثواب عظيم عند الله سبحانه وتعالى.
أما الكلمة الثانية والأخيرة: فأقولها وبصدق وإن شاء الله تسمعها الاذن الواعية والنفوس الطيبة ويسمعها من أراد الله ان يشرح صدورهم للإيمان:
نحن عندما ندعوكم الى مدرسة اهل البيت (ع) لا ندعوكم من أجل انفسنا، إنما ندعوكم ونقول: نحن ذهبنا ورأينا الخير والبركة والعظمة والطموح والشموخ و رأينا أعلا شيء ورأينا الذرى العالي بأعيننا ووجداننا فتعالوا واشتركوا معنا لأنكم محرومون، ولا تذهبوا وراء بني أمية وأفكارهم، والآن هناك أناس عُميت قلوبهم يتحدثون هنا وهناك أو عُميت أبصارهم، فهؤلاء يمنعونكم ويحجبونكم عن هذه الفرصة الطيبة.
نحن نرى كل سنة في أيام عاشوراء مئات بل آلاف وعشرات الآلاف من البشر يهتدون بنور الحسين (ع) فمن يسمع مصيبته ويعرف هذه الحالة يقول: طوبى لمن كان له مثل هذا النور ومثل هذا الأفق الواسع، هذه دعوتنا، وانا في بعض الأحيان اجلس مع نفسي واقول: يا إلهي ماذا نفعل؟ لقد تكلمنا وكتبنا وعملنا المحاضرات وانطلقت الفضائيات والانترنت وغير ذلك، لكن لماذا بعض الناس ما يزالون لم يكتشفوا النور؟ ولماذا هم محجوبون؟ ولماذا يستعبدهم بعض الناس؟
اتذكر قصة في التاريخ عن أولئك الجاهليين الذين كانوا يجلسون على أبواب الكعبة المشرفة وأي شخص من المشركين يريد الذهاب الى هناك ويطوف يعطونه قطنة ويقولون له: ضعها في أذنك ولا تسمع كلام رسول الله، فالأحمق البعيد يضع القطن في أذنه ويسير و يرى رسول الله جالس عند الكعبة ولا يسمعه، أما أبو ذر الغفاري فكان يخرج القطنة ويقول أريد ان اسمع.
لماذا يضع البعض قطنة السلطات الظالمة في أذنه؟ إنها (قطنة العميان)! اخرجوها، أسمعوا وعوا وتعالوا واستفيدوا فهنا خير الدنيا والآخرة، اذا عندك مريض تعال الآن الى عاشوراء او اذهب الى باب ابي الفضل العباس (ع) وجرّب، واذا عندك مشكلة فلا تجلس وتسمع كلام ذلك الوهابي الأحمق الذي يجلس ويحدثك بكلام ابن تيمية ذاك الرجل الذي يعتقد بأن الله عبارة عن جسم! فذاك ذهب في نار جهنم، فلماذا تسمع كلامه وتجري خلفه؟ ولا اقول لك اسمعني بلا هدى و وعي، إنما اسمع الكلام وانظر بنفسك وعقلك ووجدانك وفطرتك التي فطر الله الناس عليها، "لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ" وقد خلق الله الأنسان في احسن تقويم، وهل يريد الانسان أن يدخل نفسه في نار جهنم؟!
إذن توجهوا الى نهر التوبة المتدفق، النهر الحسيني واغتسلوا فيه وأخرجوا منه نظيفين، و سترون ان الدنيا تغيرت وترون الدنيا غير تلك السابقة، وعندما ترون في الفضائيات ملايين الناس في الجوامع والحسينيات والشوارع يبكون ويلطمون ويجرحون انفسهم ويفعلون ما يفعلون، أفلا يكفيك هذا ان تفكر، هل ان هؤلاء البشر عقلاء حكماء؟ إنهم بنوا دولاً واسسوا حضارات؟ فلماذا يفعل هؤلاء هذه الاشياء؟ ولا أقول يجب عليك ان تقول كل هذا صحيح، ولكن فكر في هؤلاء، ألا تفكر بأن هؤلاء الغربان الذين جلبوا لكم اخباراً كاذبة بأنهم كانوا كذابين ودجالين؟ فاذا كنت في زمان موسى هل ستسمع كلام هامان وكلام قارون وكلام فرعون؟!
وأسأل الله تعالى أن يوفقنا ويوفقهم ونحن دعوتنا لهؤلاء من اجلهم وأجل خيرهم وآخرتهم ومن أجل ان يكونوا معنا في الجنة فالجنة ليست بصغيرة حتى لا تسعنا جميعاً ولكن نريدهم ان يأتوا ويشتركوا معنا ونسأل الله ان يوفقهم ويزيد توفيقنا وتوفيقهم حتى نكون كلنا من أهل الجنة مع الإمام الحسين (ع) إن شاء الله تعالى.
وصلى الله على محمد وآل بيته الطيبين الطاهرين.
|
|