(حبّ الوطن من الإيمان)..
شعار للتعكّز و رواية موضوعة للتضليل
|
*أنور عزّالدين
تناقلت كتب الحديث عن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: (حبّ الوطن من الإيمان).
هذا الحديث تميّز من بين آلاف الاحاديث النبوية ليحتل واجهات الخطاب السياسي لجماعات وحكومات ونخب مثقفة يعوّل عليها البناء الثقافي والفكري للمجتمع الاسلامي، والسبب واضح، وهو تحقيق أهداف آنية في بسط الاستقرار ولملمة الشمل وهو ما تحتاجه العديد من بلادنا التي عصفت بها وما تزال الأزمات السياسية من حروب وصراعات داخلية وخارجية وفتن سوداء حجبت عن الجميع الرؤية السلمية الى الأوضاع، مما استوجب اللجوء الى مفهوم محبب الى النفوس، سهل الفهم، وهي (الوطنية). فقد تراجعت مفاهيم (الحزب) و(القيادة) و (الدولة)، والأخطر من كل ذلك بعض المفاهيم والقيم الدينية التي يفترض أن تكون لها السيادة في المجتمع لكفائتها وسابقيتها في التطبيق العملي، لكن قساوة الظروف وتتابع الاحداث جعل المعنيين في أمر السياسة لأن يلجأوا الى أقرب خشبة للخلاص قبل أن تفرق أمواج الفتن والصراعات أبناء المجتمع الواحد بعد أن فرّقت أبناء الأمة الواحدة من قبل.
*مناقشة في المفهوم
قبل الدخول في مناقشة مفهوم (الوطن)، لابد من التأكيد وللأمانة، إن رواية ?حب الوطن من الإيمان? مجهولة السند وهوحديث موضوع ولا أصل له، كما أكد ذلك العلامة الشيخ نمر باقر النمر أحد علماء الدين في السعودية ومن أبرز المعارضين للنظام السعودي، وجاء في مقالة له: (لا يوجد كتاب واحد يعنعن رواة هذا الحديث عن رسول الله ؛ فكل مَنْ نقله قال: روي. ولكن من الراوي؟!! ومَنْ روى عنه أو عن الذي روى عنه؟!! وهكذا...)، كما انتقد الشيخ النمر بشكل غير مباشر بعض الشيعة الذين أخذوا بهذا الحديث دون معرفة الراوي، وهل هو مرويٌ عن أحد الأئمة أم لا؟! ويؤكد العلامة النمر (إن هذا الحديث ساقط عن الاعتبار سنداً وعن الحجية شرعاً عند جميع علماء الطوائف الإسلامية من دون استثناء).
إن مفهوم (الوطن) ومع افتراض صحة الحديث المشار اليه، يواجه محاججتين على صعيد الارض وعلى صعيد الانسان؛ فعلى الصعيد الأول يُفترض أن يكون بلد الانسان أو مسقط رأسه مصدر لأمنه واستقراره وسعادته وأيضاً تطوره في الحياة، وهو ما جربه المسلمون إبان وجود الوطن الاسلامي الكبير في فجر الحضارة الاسلامية، حيث لم يسجل التاريخ لنا وجود الفقر أو الامراض أو السرقات أو مشكلة باسم (الجنس)، بينما اليوم ترفع بعض الأبوا ق الاعلامية الحديث المزعوم على رأس رمح طويل، وتقول: إن من لا يكون وطنياً فلا إيمان له!!
هنا لنتساءل؛ هل تنسجم الفطرة السليمة والعقل الرشيد مع حبّ شيءٍ يعود بالذل والمهانة على صاحبه؟ إن هذا ما لاحظناه جليّاً خلال فترة حكم الطاغية المقبور صدام في العراق، فطالما تشدّق الكثير بـ(الوطنية)، بل تجاوزوا وتمادوا في غيّهم عندما رفعوا شعار (الوطن العربي)، وتحت هذا الشعار أزهقت مئات الآلاف من أرواح ابناء هذا البلد في حرب لم يعرفوا السبب الحقيقي من ورائها حتى الان! وهل من الإيمان القبول بالظلم والجور والدموية الذي كان يمارسه ذلك النظام علانيةً ضد الاحرار والمعارضين؟
من نافلة القول: هنا أن نذكر القارئ الكريم، بما كتبه رئيس تحرير إحدى الصحف اللبنانية عندما اندلعت الانتفاضة الشعبانية المجيدة وقد استلّ قلمه ليهاجم هذه الانتفاضة من بيروت مناصراً الطاغية وهو يتساءل: كيف يمكن لشعب أن يتمرد على قيادته في وقت يتعرض الوطن فيما القوات الامريكية بعد في المناطق الجنوبية من العراق؟! وهو في ذلك يشير على حجم المخاوف من مساندة هذه القوات التي أنهت دورها بالحاق الهزيمة المنكرة بالجيش العراقي في الكويت، هنا أعرب الكاتب عن قلقه على مصير صدام الذي طالما وصفوه بـ (حامي البوابة الشرقية)، لكنه أغمض عينيه وسدّ أذنيه عن انباء المجزرة التي راح ضحيتها الالاف من الجنود الفارين من الكويت عندما لاحقتهم طائرات مقاتلة وهي تمشّط الطريق السريع بين الكويت والبصرة، وقد أكد شهود عيان بان تلكم الطائرات كانت تحمل أعلام عربية!!
وبقي أمثال ذلك الكاتب على حالهم "صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ" عندما ذاق العراقيون في فترة الحصار الاقتصادي الأمرين ؛ مرارة انتقام صدام بسبب الانتفاضة، ومرارة قرارات الأمم المتحدة.
أما على صعيد الإنسان، فان مفهوم (حب الوطن) لا يمكن أن يكون حب لأهل الوطن الذين يتحلون بالعدل والإحسان وفعل الخيرات، و(الوطن) في الرواية يُحمل في المعنى اللغوي والعرفي على المحل الذي يقيم فيه الإنسان بحدود جغرافية محدودة؛ وهكذا وطن لا يمكن فطرياً أن يحبه الإنسان المؤمن إلا إذا وجد فيه بقعة مباركة تربطه بالله سبحانه وتعالى، أو وجد فيه الأمن والسلامة و وجد إحسان أهل الوطن إليه، وتمكن فيه غالباً من تحقيق أهدافه ومصالحه. كما يقول الرسول الأكرم (جبلت القلوب على حب من أحسن إليها وبغض من أساء إليها)، فاذا شهد الوطن تراجعاً في القيم الانسانية مثل صلة الرحم كفالة اليتيم والإحسان وقضاء الحاجات وغيرها من القيم الاخلاقية، كيف للانسان أن يكتمل ايمانه مع حبّ هكذا وطن؟!
*وسيلة عند الحاجة
مفهوم (الوطنية) يسود مجتمعاتنا الاسلامية التي تعيش في ظل اضطراب سياسي تخللته حروب وصراعات دموية بين المعارضة والسلطة، فكان أن استبدلت مفاهيم متجذرة مثل العدل والحرية والتكافل الاجتماعي والاخلاق، بهذا المفوم الجديد، والنتيجة؛ إن من يتنكّر لتلكم المفاهيم الأصيلة لا غبار عليه، ولا يخشى المحاسبة أو النظر اليه بريبة وشبهة، بينما العكس تماماً اذا تنكّر لـ(الوطنية)، فهو ليس فقط لا يكون مؤمناً، إنما مداناً بجرائم مثل الارهاب والعمالة والخيانة، وربما يكون حاله حال بطل رواية (البؤساء) للكاتب الفرنسي (فكتور هوغو) الذي يعلم جيداً بقبح السرقة، لكنه سرق رغيف الخبز لينقذ عائلته من الجوع، لكن القاضي أدانه بالجريمة وحكم عليه بالسجن. بمعنى أنه ذهب ضحية غياب المفاهيم الاخلاقية في مجتمعه.
وعندما يكون (الوطن) رداءً للحاكم الطاغي أو بساطاً للسلطة السياسية، لن يكون هنالك مجالاً من الناحية العملية للإصلاح، فهو مصدر خطر ماحق على أهل السلطة وطلاب الحكم الفردي، وعليه تكون مشروعية البطش والتنكيل ضد المصلحين والثائرين في طريق الحرية والعدل، علماً إن أهل الاصلاح لا يملكون المال وأجهزة التجسس و وسائل الاعلام المتطورة، أما الغالبية من الناس فهي مغلوبة عن أمرها، وليس لها إلا أن تنظر إلى ظواهر الأمور، ولا يمكن إلقاء كل المسؤولة عليها.
وفي هذا الطريق يسعى الحاكم لصياغة خطاب (وطني) يتناسب وهندامه وحجمه، ليكسب المزيد من المشروعية الجماهيرية لنظام حكمه، فينضمّ تحت هذا الخطاب من يريد (الوطن) بنوايا حسنة وغيرها، لكن عند الحاكم لن تكون النوايا ذات قيمة، إنما النتيجة المهمة وهي الولاء والطاعة لـ(الوطن – الحاكم)، وليس لشيء آخر، وهذا ما نشهده في الخطاب السياسي السعودي، الذي يسعى منذ فترة الى لملمة الشمل وازالة التصدعات الاجتماعية والسياسية التي شابت النظام السياسي طوال العقود الماضية، وما دعاه الى ذلك هو تداعيات المشكلة الكبيرة في العالم تحت اسم (الارهاب) والتي ثبت للعالم أنها ابن غير شرعي لزواج تمّ بين افكار دينية متطرفة وبين مصالح سياسية غامضة ذات ابعاد اقليمية ودولية، والسعودية هي المسؤولة الأولى عن هذا المولود الجديد الذي عاث في الارض وما يزال فساداً ودماراً وقتلاً، علماً إن النظام السعودي هو الذي مهّد لظهور جماعات ارهابية مثل طالبان في افغانستان ونظائرها في باكستان وفي العراق أيضاً، أما اليوم فانها تدعو الجميع للعودة الى (الوطن) والاستغفار مما ارتكبوه من ذنوب وخطايا! كما لو أن الإرهابيين الذين قادوا سيارات الموت والدمار بين بيوت الأمنين في العراق وخلقوا المآسي والويلات، كانوا في نزهة واستجمام على الشواطئ الاوربية على البحر المتوسط أو في مدن امريكا أو....
أما المعارضة في الداخل فانها لا خيار لها سوى تضمين (الوطن) في خطابها السياسي حفاظاً على (الوحدة الوطنية)، وإلا لن يكون لها محل ومكان في هذا (الوطن) لأنه مفصّل على مقاسات الحاكم وليس للمحكومين، وكما أسلفنا فان (الوطن) هو الحاكم والعكس صحيح، هذا هو المفهوم الذي تحاول الكثير من الأنظمة الشمولية والديكتاتورية تكريسه في الأذهان.
لكن هل قدمت هذه (الوطنية – السلطوية) منجزاً للشعوب الاسلامية؟
لقد شهدت الأيام والاحداث كيف إن الوجود الاجنبي اصبح مألوفاً؟ وكيف اصبح انتشار الظواهر اللااخلاقية أمراً طبيعياً بين الشباب وأفراد المجتمع؟ والغريب حقاً إننا نحتفظ بتجربة ثمينة وعظيمة لدور المخلصين الحقيقيين في الحفاظ على الوطن الاسلامي وليس المحدود بالمصالح الضيقة، عندما تصدوا للمخاطر الاجنبية، كما حصل في العراق عام 1920 وإذلالهم للاستعمار البريطاني الغاشم. والحقيقة إن من أمثال الميرزا محمد تقي الشيرازي (قدس سره) من يستحق لقب البطل للوطن الاسلامي الكبير، وليس من طبّع الناس على الميوعة والتخاذل ونبذ القيم الاخلاقية. وليس من يعتقل العلماء ويقتل المفكرين والمصلحين مادياً ومعنوياً ويلغيهم من الساحة.
---------------
------------------------------------------------------------
---------------
------------------------------------------------------------
|
|