قسم: الاول | قبل | بعد | الاخير | عناوين اقسام | عناوين جميع اقسام

رجال الانبعاث الإسلامي الجديد
لمشاهدة الصورة لحجم اكبر إضغط علي الصورة *حسين محمد علي
أن للحضارات البشرية تجلّيات بعد إنطواءات، فهي تسير بين قطبي الكمون والظهور (حسب التعبير الفلسفي) فتكمن وتختفي لفترة، ثم تنبعث من جديد في فترة أخرى. فنرى الحضارة الهيلينية مثلاً، اختفت لفترة ثم ظهرت باسم آخر وبشكل آخر، ولكن جوهرها بقي ذات الجوهر.
وتسمّى الفترة بين ظهور و ظهور آخر بفترة السبات. وفي فترة السبات، تبقى مجموعة من الناس خازنة للحضارة تحتفظ بقيمها وأساليبها وارتباطاتها وعلاقاتها، حتى تأتي مرحلة مؤاتية لانبثاق هذه الحضارة من جديد.
فمثلاً ما يسمى بالحضارة الغربية، هو إمتداد للحضارة الهيلينية، حيث ظلت لفترة من الوقت في سبات عميق، ثم بعد فترة واذا بها تبدأ من جديد وتنطلق. وخلال هذه الفترة التي دامت قرونا (من عام 370م إلى عام 1650م) حافظت الكنيسة على هذه الحضارة وقيمها.
وكما تُكتب التجارب في كتاب، وتُسجل في سِفْر، ويبقى في مكان أمين حتى يأتي من يضع محتوياته موضع التنفيذ، كانت الكنيسة تحافظ على الحضارة المسيحية. علماً بأن الكنيسة في الفترة التي أشرنا اليها والى بداية ظهور الإسلام وانتشاره، كانت تقريباً على حق، باعتبار أن الرسالة الالهية القائمة آنذاك كانت رسالة المسيح عيسى بن مريم عليه السلام.
*روّاد الدفاع عن الإسلام
ونحن في العالم الإسلامي، نعيش اليوم نهاية فترة سبات طويلة بدأت منذ القرن السابع الهجري، حين انطوت الامة على نفسها، وقعد الناس قادة وعلماء في بيوتهم، وانتهت بانبعاث الروح النهضوية الجديدة في العالم الإسلامي في العقدين الأخيرين من القرن العشرين.
لنتساءل: خلال هذه الفترة من الذي حافظ على الإسلام؟
هل الذي حافط على الإسلام الحق هي الديكتاتوريات الحاكمة في أكثر بلاد المسلمين؟ أم الجامعات المتأثرة بأفكار الغرب والشرق والمقلِّدة لها، هي التي تكفّلت بذلك؟!
كلا... إنما الذي حافظ على المكتسبات الحضارية للامة الإسلامية هي الحوزات العلمية وتلك الصفوة من المؤمنين الذين صانوا العلم والهدى، وحافظوا على العلاقات الايمانية بينهم، واحتفظوا بمكاسب الحضارة.
وحين نشهد الإنبعاث الإسلامي اليوم، فان ذلك لم يأت من الجامعات، ولم ينطلق من أروقة السياسة، ولا من المجالس البرلمانية، ولا من غرف القيادات العسكرية، ولا من دور النشر التي تهتمّ بعضها بترجمة الكتب المؤلفة في الشرق والغرب، وإن كان لبعض المجاميع دورٌ في المشروع الحضاري، لكن بالدرجة الأولى جاءت الانبعاثة الجديدة على أيدي العلماء والقادة الرساليين الذين قضوا سنوات حياتهم في الأوساط العلمية الدينية، متأثرين بذات الاساليب والقيم الإسلامية التي طبّقها النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)، وبسيرة أهل البيت (عليهم السلام)، والتي أرست دعائم الحضارة الاسلامية الأولى والنموذجية. وعليه يجب أن ينطلق الإنبعاث من الحوزات الدينية، لأن الثقافات والافكار الغربية والشرقية التي حاكتها وقلدتها جامعاتنا وساستنا وطبقاتنا المرفهّة، لم تكن قادرة على تفجير النهضة الإسلامية، بل كانت بضاعة جاهلية ردت إلى أصحابها.
*علماء الدين ومقاومة الإستعمار
إن الإنبعاث الإسلامي إنطلق من هناك، وهذا هو تفسير ما يقوله كبار المفكرين الغربيين معترفين بأنه لا خلاص للأمة الإسلامية إلا على يد علماء الدين.
يقول المفكر الغربي (هاملتون جب) الذي يسميه الكتّاب الغربيون بـ (العلاّمة): (لا يمكن للامة الإسلامية أن تصل إلى مستوى من الحضارة إلاّ على يد علماء الدين).
إن علماء الدين في النجف الأشرف وكربلاء المقدسة وقم المقدسة، وأيضاً خريجو الأزهر والقيروان وغيرهم، هم الذين طردوا الاستعمار من البلاد الإسلامية. فمن كان السنوسي؟ ومن كان المهدي؟ ومن كان الافغاني؟ ومن كان الشيرازي؟ ومن كان عبد الكريم الخطابي؟ ومن كان عبد القادر الجزائري؟ ومن كان عمر المختار؟ ومن كان عزّ الدين القسام؟
من كان هؤلاء الذين نهضوا في وجه الاستعمار؟ في أي جامعة من جامعات الشرق أو الغرب درسوا، ومن أي منهل من مناهل الفكر شربوا؟
لقد كانت ثقافتهم ثقافة إسلامية خالصة، ولذلك تمكنوا من إنقاذ البلاد الإسلامية من سيطرة الأجانب. لكن ماذا عن أنباء الثقافة الغربية؟
إن أولئك الساسة الذين خضعوا للثقافة الغربية وتأثروا بها، ولم يتمكنوا إلا أن يقدموا البلاد الإسلامية هدية متواضعة إلى أسيادهم، لان ذواتهم كانت تدين بالعبودية للشرق أو الغرب، ولم يكونوا يرون خلاصا لنا إلا باتباع الشرق أو الغرب. كانوا مهزومين نفسيا، بل إنهم كانوا من أبناء الشرق والغرب ولم يكونوا من أبناء الأمة الإسلامية حقاً، وان انتموا مادياً إلى بلاد الإسلام، والمادة لا تستطيع ان تصنع شيئا في عالم السياسة، لان الروح هي التي تعمل كل شيء.
لذا فان العالم اليوم ينتظر الإنبعاث الإسلامي على يد أولئك الذين حافظوا على مكوِّنات الحضارة الإسلامية خلال فترة السُّبات العميق في العالم الإسلامي. أما تلك الفئات والاحزاب التي إنساقت مع الشرق والغرب، واستُعبدت ثقافياً من قبل الأجانب، فإنها لا تزيدنا إلاّ ضلالة وتيها وابتعادا عن ذاتيتنا وعن أصالتنا وحضارتنا.
*المواصفات والمعايير
ماهي مواصفات القيادة الاسلامية الأصيلة التي أشرنا اليها آنفاً؟ بل ما هي المعايير التي نقيس بها القائد الناجح؟
في حديث طويل يرويه الإمام الرضا عن الإمام السجاد (عليهما السلام)، تتبين لنا جليّاً جملة من المعايير التي تعصمنا من الانزلاق مع أدعياء القيادة و(الانقاذ) وغيرها من الشعارات التي تُساق عادةً نحو شرائح مضطهدة نازعة للتغيير والانقلاب على الواقع. يقول الامام السجاد في هذا الحديث الذي أورده العلامة المجلسي (رضوان الله عليه) في (البحار): (إذا رأيتم الرجل قد حسن سمته وهديه، وتماوت في منطقه، وتخاضع في حركاته، فرويداً لا يغرّنكم، فما أكثر من يعجزه تناول الدنيا وركوب المحارم منها لضعف بنيته ومهانته وجبن قلبه، فنصب الدين فخاً لها، فهو لا يزال يختل الناس بظاهره فإن تمكن من حرام اقتحمه).
فهذا النموذج من الناس، وهو الإنسان الذي يتخاضع في حركاته، ولا يتحدث الا بلين وبصوت خافت، ويمشي بوقار، ويتصنَّع صفات الأخيار، يحذرنا الإمام منه ويقول: لا يغرّنكم هذا، فإنه قد يكون ذئباً في إهاب شاة، وقد تكون روحه روحاً فاسدة، الاّ أنّ ضعفه وذله وصغاره في أعين الناس، هو الذي يمنعه من أن يقتحم الحرام، وليست إرادته.
ثم يقول عليه السلام: (وإذا وجدتموه يعفّ عن المال الحرام، فرويدا لا يغرّنكم، فإن شهوات الخلق مختلفة. فما أكثر من ينبو عن المال الحرام وإن كثر، ويحمل نفسه على شوهاء قبيحة فيأتي منها محرماً، فإذا وجدتموه يعف عن ذلك فرويدا لا يغرّنكم حتى تنظروا ما عَقَدَه عقله، فما أكثر من ترك ذلك أجمع، ثم لا يرجع إلى عقل متين فيكون ما يفسده بجهله أكثر مما يصلحه عقله).
قد يكون الرجل يعفّ عن المال الحرام ولكنه لا يعفّ عن الشهوات الاخرى، فلا يغرّكم عفافه عن المال الحرام، وقد يكون مُتقياً، يعفّ عن سائر الشهوات ولكن لا يكفي ذلك لإتباعه وجعله قدوة، فقد يكون إنسانا متقيا و ورعا في الظاهر ولكنه لا يعود إلى عقل سليم في أفكاره وتصرفاته .
ثم يقول الإمام عليه السلام: (فإذا وجدتم عقله متينا فرويداً لا يغرنكم حتى تنظروا أمع هواه يكون على عقله؟ أم يكون مع عقله على هواه).
في حالة وحدة الرايات في مسيرة عريضة واحدة، قد يصعب أن تعرف أن هذا الإنسان يسير مع عقله أم مع هواه، ولكن حينما تتفرق السبل آنئذ يمكن أن نكتشف الرجل في أي إتجاه يسير.
ثم يعطينا الإمام مقياساً آخر فيقول: (فكيف محبته للرئاسات الباطلة، وزهده فيها؟ فإنّ في الناس من خسر الدنيا والآخرة، يترك الدنيا للدنيا، ويرى أن لذة الرياسة الباطلة أفضل من لذّة الأموال والنعم المباحة المحلّلة، فيترك ذلك أجمع طلبا للرئاسة، حتى اذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالاثم فحسبه جهنم وبئس المهاد).
فقد يكون الرجل تاركاً لكل الشهوات وعقله سليم و وعيه كاف، ولكنه يسقط إذا امتُحِن في مضمار الرئاسة فـ (الولايات مضامير الرجال)1 كما قال أمير المؤمنين (عليه السلام)، وحينما تأمره بالمعروف تجده يتكبر وتأخذه العزة بالإثم، لان عقدة الرئاسة تمنعه من تقبل النصح من أي كان. لذلك ترى أن هذا الإنسان الزاهد المتعفف، عندما يتسلط عليه حب الرئاسة، فإنه يقتحم ميادينها، وهو لا يعتني بالأكل والشرب والراحة! وانما يريد الرئاسة فقط: (فهو يخبط خبط عشواء، يقوده أول باطل إلى أبعد غايات الخسارة، ويمده ربه بعد طلبه لما لا يقدر عليه في طغيانه، فهو يحل ما حرم الله ويحرم ما أحل الله، لا يبالي بما فات من دينه اذا سلمت رئاسته التي قد شقي من أجلها، فأولئك الذين غضب الله عليهم ولعنهم وأعد لهم عذابا مهينا).
ونتساءل: ما هي إذن صفات القائد الذي يجب إتباعه؟ يجيب الإمام عليه السلام: (ولكن الرجل كل الرجل هو الذي جعل هواه تبعا لامر الله، وقواه مبذولة في رضا الله، يرى الذل مع الحق أقرب إلى عز الابد مع العز في الباطل، ويعلم أن قليل ما يحتمله من ضرائها يؤديه إلى دوام النعيم في دار لا تبيد ولا تنفذ، وأن كثيرما يلحقه من سرائها إن اتبع هواه يؤديه إلى عذاب لا انقطاع له ولا يزول، فذلكم الرجل نعم الرجل فبه فتمسكوا، وبسنته فاقتدوا، والى ربكم به فتوسلوا فإنه لا ترد له دعوة)2.
هامش:
1-نهج البلاغة، قصار الحكم، رقم 441.
2 - بحار الأنوار، ج71، ص185.