إصلاح الذات... خطوة أولى في القضاء على منظومة الفساد
|
*إعداد / كريم الموسوي
الفساد كلمة ذات مدلولات واسعة كثيرة ومتعددة أيضاً، فهي قد تعني فساد الذات الفرد، أو الجماعة، وقد تعني فساد النفس، أو الفساد المادي بمدلوله العام والواسع، كالاختلاس والتجاوز على المال العام، أو السرقات الفردية والجماعية التي تشكّل تجاوزاً خطيراً على حقوق الآخرين.
وأصعب أنواع الفساد، هو فساد الذات أو النفس، لأنها لا تتعلق بالجانب المادي بل الروحي، ولهذا ينبغي أن يكون العلاج روحياً أيضاً، وهنا تظهر لنا القدرة الفائقة لتعاليم الدين الاسلامي، وتلاوة القرآن الكريم، والتمعن بمفاهيمه وتعاليمه، وكذلك قراءة الادعية والخشوع لله تعالى، طلباً لتشذيب النفس من الرغائب الكثيرة غير المشروعة، والتي يخضع لها الإنسان إذا كان ضعيفاً ومقاداً لأهواء النفس ونزواتها.
سيطرة أهوائه أخطر من الطاغية نفسه
لذا يعد أخطر الحكّام، هو ذلك الضعيف تجاه نفسه وأهوائها، فهو شديد البأس مع قومه وشعبه وامته، وضعيف أشد الضعف تجاه نزواته التي تستلزم أموالاً وفيرة لتحقيقها، فتدفعه إلى التجاوز على المال العام بشتى الطرق والوسائل والأساليب السيئة، الأمر الذي يتسبب بإلحاق الظلم الفادح بالشعب أو الامة وفقرائها، حيث تبدأ الغلظة وشهوة السلطة تطيح برقاب الضعفاء ممن يرفع صوته، لمقارعة ظلم الحاكم واستهتاره بالقيم وفساده الكبير والواضح للعيان.
هذا ما يؤكده سماحة المرجع الديني آية الله العظمى السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله) في معظم مؤلّفاته ومنها كتابه القيّم الموسوم (حلية الصالحين) على أهمية تشذيب الذات من الفساد، على أن الفساد له اتجاهات ومسارات ونتائج قد تكون متناقضة، لهذا ربما يقع الإنسان في هذا النوع من الفساد أو ذاك.
يقول سماحة المرجع الشيرازي، في هذا الصدد بكتابه المذكور آنفاً: إستنادا إلى ما ورد في الصحيفة السجادية: "واستصلح بقدرتك ما فسد مني": (إن الإنسان معرَّض للفساد، فقد يقع فيه وقد لا يقع، والكلام هنا عن فعلية الفساد ووقوعه، لأنّ الإمام السجاد عليه السلام يقول: "ما فسد منّي" لا ما يقتضي أن يفسد، وليس كلّ فاسد يمكن إصلاحه بسهولة، علماً أنّ كلمة (ما) الموصولة في قوله سلام الله عليه، تفيد العموم والسعة والشمول، فتشمل ما فسد من أمور الدنيا والآخرة، ومن البدن والنفس، وكذا في المسائل المالية والنفسية والاجتماعية وغيرها).
ونظراً للخطر الكبير لمنظومة الفساد، وربما تجذّرها في النفس، فإن اللجوء إلى الله تعالى لمساعدة الإنسان، - لا سيما بالنسبة لذوي المناصب الكبيرة- ينبغي أن يكون وسيلة الإنسان لإصلاح ما قد يفسد في ذاته، ولأن السلطة لها سحرها الخاص كما تشير تجارب البشرية جمعاء، فإن أمر معالجة النفس وطموحاتها ورغباتها ونزواتها، خاصة لأصحاب السلطان كالملوك والرؤساء والزعماء، وأمثالهم، تتطلب لجوءاً حتمياً إلى الله تعالى، لمساعدة الإنسان الحاكم على تجاوز معضلات الفساد الذاتية التي تتجذّر في نفسه.
والتاريخ يعجّ بالحكّام الطغاة الظالمين، بغض النظر عن رمز التسلّط، فإذا كان رئيساً للجمهورية، أو ملكاً، أو زعيماً لجماعة سياسية او قائد عسكري، فقد لا تختلف جذور الفساد بين هذا وذاك، فالحجاج بن يوسف الثقفي، لم يكن ملكاً ولا رئيساً ولا حاكماً للدولة، لكنه كان والياً على جزء صغير من الدولة الإسلامية المترامية الاطراف، ومع ذلك تسببت نفسه الشريرة بأن يصبح مضرب أمثال للحكام الطغاة على مر التاريخ، بسبب قتله لمئات الآلاف من الناس، سواء ضرباً لاعناقهم او تحت التعذيب أو من قضوا في مطامير السجون فترات طويلة.
لهذا السبب يركّز سماحة المرجع الشيرازي، في كتابه (حلية الصالحين) على ما يهدف إليه الإمام السجاد عليه السلام من تنوير للإنسان كي يحارب الفساد في ذاته، إذ يقول سماحته في هذا المجال: (لا يخفى أنّ الإمام هنا بصدد تعليمنا وإرشادنا، فمعنى قوله سلام الله عليه هو: إنّ الإنسان لا يقوى على إصلاح ما فسد منه دون الاعتماد على قدرة الله تعالى وتوفيقه، فكلّ منا يمكنه أن يكون من خيار الناس، كما يمكن أن يكون من شرارهم - والعياذ بالله- فهؤلاء الأشرار الموجودون في المجتمع والذين بقوا كذلك حتى آخر عمرهم كانوا بشراً مثل سائر البشر، لكن مشكلتهم انهم لم يريدوا الصلاح، ولا استعانوا بقدرة الله تعالى لإصلاح ما فسد منهم، فاستمرّوا على ما هم عليه).
هاجس الفساد المالي
من عوامل الاصلاح؛ الدعاء والتوسل الى الله تعالى، وهو ما يدعونا اليه سماحة المرجع الشيرازي بناءً على دعاء الامام السجاد عليه السلام حيث يقول في الصحيفة السجادية (*): "واستصلح بقدرتك ما فسد منّي"، والفساد عنوان عريض يشمل حالات عديدة في الفرد والمجتمع، في مقدمتها الفساد المالي التجاوز على أموال الامة او الشعب، حيث يقوم الحكام والمسؤولون بالاستيلاء على هذه الاموال خلسة وبعيداً عن عيون الناس المغلوبة على امرها والمخدوعة في احيان كثيرة بمن يمثلها في أجهزة الدولة. هذا الفساد هو الذي يترك آثاره العميقة في حياة الناس ويعبث بمصائرهم، وهو ايضاً السبب الرئيس هو انقلاب الاوضاع رأساً على عقب ضدهم، وتكون النتيجة تساقط الحكام مثل اوراق الخريف اليابسة تسحقها اقدام المتظاهرين والثائرين كما حصل وما يزال في عدد من الدول العربية.
لكن هل كل عملية أخذ للمال يمكن ان تأخذ السمة السلبية المطلقة؟
هذا ما يسلط الضوء عليه سماحة المرجع الشيرازي، ليضيف بصيرة جديدة على مسألة النزاهة امام المال، وحتى لا يرتبط اسم المال بالنظرة السلبية العالقة في الاذهان. يقول سماحته متسائلاً: (هل يُعدّ أخذ المال من الغير – مثلاً- عزّة أم ذلّة؟ إنّ الملاك لكليهما يكمن في الموضع الذي يضع الإنسان فيه نفسه؛ فإمّا أن يكون مورد عزّة وقد يكون مورد ذلّة، فليس بوسعنا أن نحكم دوماً على عمل ما بأنّه مصداق للعزّة أو الذلّة ما لم نعرف نيّة المرء فيه. فإن كانت لله تعالى فهي عزّة، وإن كانت لغير الله كانت ذلّة).
هنا تتضح الصورة المعنية من حديث المرجع الشيرازي تماماً، فقد يصبح أخذ المال بقوة القانون والشرع حالة مساندة للحق ضد الباطل، ومؤازرة للمظلوم ضد الظالم، حيث يتم استرجاع ما تم التجاوز عليه. والشواهد الاخيرة تؤكد صحة مثل هذه الاجراءات السليمة تماماً، حيث يتعاون الآن عدد كبير من المنظمات والحكومات عالمياً على استرجاع مليارات الدولارات المسروقة من قبل الحكام العرب ومنهم الطاغية البائد في العراق و ارجاعها إلى اصحابها الشرعيين. في المقابل نشاهد حالة الذلة والهوان في الشعوب التي تعتاش على اموال الآخرين، فتكون حالها مثل حال المستعطي الذي يجوب الشوارع بانتظار من يجود عليه ببعض المال.
وفي جميع الاحوال، يبقى الانسان سواء كان فرداً أو جماعة، حاكماً او غيره، مسؤولاً أمام الارادة الالهية التي ستحكم بين الجميع يوم "لاينفع مال ولا بنون"، هناك حيث يقف كل من تعامل مع المال بغير ما انزل الله تعالى، ففي الحديث الشريف: (... ومالك فيما انفقته)، وهناك مقولة شهيرة على لسان والد المرجع الديني (حفظه الله)، الميرزا مهدي الشيرازي (طاب ثراه)، كان يقول دائماً فيما يتعلق بالتصرف بالاموال: (لابد لي من جواب إزاء السؤال يوم القيامة عن كيفيةالتصرف بالاموال)، وهي نفس المقولة يعيد ذكرها سماحة المرجع الشير ازي في كتابه الذي نستفيد منه في هذا الحيز، يقول سماحته: (لا بدّ أن تحضر جواباً حين يسألك الله سبحانه وتعالى في اليوم الآخر، ومعلوم ما هي تلك المسائل التي يجب أن تعنى بها والتي ستُسأل عنها غداً. فلن تُسأل: لماذا لم تأكل الأطيب أو تلبس الأنعم أو تركب الأسرع أو تختار ما هو أغلى للعيش وأجمل...؟ إنما لماذا أفسدت نفسك ولم تحاول إصلاحها، باللجوء الى الله تعالى بوسائل التقريب المعروفة والسهلة المنال ايضاً، لذا لابد لمن تضعه الاقدار الآن، في صدارة السلطة والحكم والقوة، سواء كان حاكماً لدولة أو مقاطعة او مدينة او مؤسسة او دائرة صغيرة، او سواها، أو فردا بسيطاً، لابد لهم جميعا من الاجابة عن السؤال الالهي الحتمي، عن سبب التجاوز على حقوق الناس، وعن عدم ابداء العمل لاصلاح النفس، مع أن الفرصة قائمة وسهلة وفي متناول الجميع، و أولهم الاقوياء والحكام والوجهاء وغيرهم من أوائل القوم).
ــــــــــــــــــ
*هامش:
*الصحيفة السجّادية، دعاء 13 في التوبة.
|
|