الفلسفة البشرية أمام اختبار الحرية و التطور الإنساني
|
*أنور عز الدين
يبقى الانسان المسلم يدور في حلقة عقائدية مفرغة ما دام بعيداً عن الحكمة الالهية ومعارف الاسلام المستمَدة من كتاب الله وسنة نبيه وأهل بيته الاطهار صلوات الله عليهم، والتي تمد الانسان بالمنظومة الفكرية المتكاملة التي يتبصّر من خلالها بجميع حقائق الوجود ومتغيرات الحياة، فيكون إزاءها مطئمن البال واثق الخطى في مسيرته الحياتية. بينما الفلسفة التي نجدها في الطرف المقابل، والتي يمكن تسميتها بـ (الفلسفة البشرية)، تسبب وقوع الانسان في الخطأ واللغط في فهم الحقائق، ولا أدلّ على ذلك تواتر الافكار والنظريات طوال العقود والقرون الماضية، فلم ترس هذه الفلسفة الى ساحل واحد ليطمئن اصحابها عليها. وحتى على بينة من هذا النوع من الفلسفة نجد من الحريّ بنا تبيين بعض سماتها وملامحها:
أولاً: الجمود في فهم الحياة
تعتقد الفلسفة البشرية أن الحياة جامدة وليست متحركة. وذلك لأن الفلسفة حين لم تكن تؤمن بقدرة الله سبحانه وتعالى اللامتناهية، فانها تعتقد بأن قلم التقدير قد جف ولايستطيع ان يغيّر شيئاً. وهذه النظرة الواهية مخالفة لوجدان الانسان، ولا تصلح له، بل هي نظرة رجعية متخلفة، لان الانسان إذا اعتقد بأن ترتيب الطبيعة وتقديرها قد انتهى، فذلك يعني عدم استطاعته التأثير فيها بأي شيء والاستسلام لمقاديرها. وهذا يعني القدرية، وبتعبير آخر يعني ان على الانسـان ان يخضع ويستسلم للحوادث التي تترى عليه شاء ام أبى.
ان مصدر التفكير هم اليهود، فهم يقولون إن الله قد فرغ من الأمر، "وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ" (المائدة /64)، وقد لعن رسول الله صلى الله عليه وآله، يهود هذه الامة، وحين سُئل صلى الله عليه وآله عن يهود هذه الامة قال: (القدرية)، اي القائلون بأن كل ما جرى ويجري قد قدره الله ولا تغيير فيه. وقد حاول بعض الفلاسفة التحرر من هذه القدرية ولكنهم لم يستطيعوا، وذلك لان القدرية تشكل عمق الفلسفة وجذرها الرئيس، بل إن جوهر الفلسفة قدري، لانها تدّعي ان الله سبحانه وتعالى على قدرته وعظمته وجلاله وكبريائه اللامتناهي - سبحانه عما يصفون - عاجز عن تغيير الكون، فكيف بالعبد إذن ؟!
وعلى سبيل المقابلة لا المقارنة، ولكي نبين عمق مأساة البشرية حينما تترك تعاليم الله سبحانه وتعالى، وتتجه نحو الافكار المتهرئة؛ لابد لنا ان نشير الى بعض المعالم التقدمية التي جاء بها الاسلام العظيم في مقابل الافكار المتخلفة التي جاءت بها الفلسفة البشرية.
لقد أكد الاسلام على ان الانسان حرّ في تصرّفه، وإن كل ما يجري على الانسان من خير او شر فانما هو بما كسبت يداه؛ بمعنى ان الانسان حيث تكسب يداه خيرا فان حياته سوف تكون خيرا، وإن كسبت شرا فشر، وان الناس سيجزون باعمالهم إن خيرا فخير وان شرا فشر. اذ إن لكل نفس ما كسبت وعليها ما اكتسبت، وربنا سبحانه وتعالى يقول: "إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِاَنفُسِهِمْ" (الرعد /11).
ومن الافكار التي جاء بها الاسلام والتي تبعث روح الاصلاح في الانسان، وتحركه نحو الافضل؛ وتفتح أمامه أبواب الامل للتخلّص من كل الشرور، والتحرر من القيود ؛ وتنمي فيه روح الثورة على الواقع المتهرئ ؛ الفكرة التي تقول: حتى لو كسبت يداك شرا، وحتى لو تراكمت الذنوب على كاهلك او قيدت يديك الاغلال فلا تيأس من رحمة الله وقدرته بالتوجه إليه سبحانه وتعالى، فهو الذي قال في محكم كتابه الكريم: "وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ" (غافر /60(. فالاسلام يعطي الانسان كامل الحرية، بينما نجد الفلسفة الاغريقية تسلب عن الانسان الحرية. والاسلام يقول بأن الشرور والسلبيات والسيئات التي تترى على الانسان بامكانه التحرر والتخلص منها بالتوجه إلى ربه سبحانه وتعالى وبالدعاء إليه جل شأنه، في حين تعمل الافكار الاغريقية الجامدة على تثبيط عزيمة الانسان وسلب همته، فتنتفي قدرة الانسان والملائكة وحتى الله جل وعلا على تغيير الامور لأنه قد فرغ من الأمر.
من هنا نجد ان هذه الافكار التثبيطية الاستسلامية كانت ولا تزال موضع قبول وتشجيع الانظمة الديكتاتورية، التي تجد فيها تبريراً لتسلطها وطغيانها. فالفلسفة الاغريقية؛ وتحديداً أفلاطون وأرسطو حينما يقولون بأن الله خلق بعض الناس كي يكونوا سادة، وخلق البعض الآخر ليكونوا عبيدا، فلا ريب ان هذا الاعتقاد سيجد القبول من لدن ذوي النزعات التسلطية. لكن الذي ينبغي ان يحاكي فطرة الانسان ويخاطب وجدانه بعد ان يستقرئ ما تطرحه هذه الفلسفة التي تنتج مثل هذه الافكار، ويضع المقاييس لمعرفة مدى تقدميّتها وكم هو نصيبها من الصحة والسلامة؛ الذي ينبغي ان يحاكي وجدانه هو الوقوف على ان هذه الفلسفة خاطئة في جوهرها، عليلة من جذورها وإن عزّزت واسندت بملايين الادلة والحجج والبراهين؛ حيث إن وجدان الانسان وفطرته أقوى دليلا واوضح منهجاً.
ثانياً: اللامسؤولية
حسب هذه الفلسفة فان الانسان غير مسؤول عن افعاله وأعماله، وذلك لان الله هو الذي قدّر الامور فهو سبحانه المسؤول عن تصرفات الانسان. بينما الله جل جلاله يقول في كتابه المجيد: "اِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الاِنسَانُ" (الاحزاب /72). وذلك يعني ان الانسان حمل امانة عظيمة؛ وهي أمانة المسؤولية، وامانة الحرية، و امانة الاختيار، لكن الفلسفة تدّعي العكس فترفع عن كاهل الانسان المسؤولية، مادام إن الله قدر الامور وأكملها، وأن اصحاب الجنة في الجنة وأصحاب النار في النار. فهذا ابن ملجم واحد من أصحاب النظرية القدرية؛ حين ضرب الامام علي عليه السلام بالسيف، يسأله الامام فيقول: أبئس الامام كنت لك، حتى جازيتنـي بهـذا الجـزاء...؟! فيجيب ابن ملجم: يا أمير المؤمنين، أفأنت تنقذ من في النار....!
ولعلنا نتساءل عن النتيجة التي يؤدي إليها هذا الاعتقاد. فنحن لا نرى فيه غير انحلال المجتمع الانساني وتفكك روابطه من جهة، ومن جهة أخرى اضمحلال وانهيار روابط الانسان بخالقه باعتبار عدم مسؤوليته عن أعماله وتصرفاته اتجاه ربه واتجاه الآخرين من بني الانسان.
ثالثاً: العالم.. وتيرة ثابتة
ان ما يجري في هذا العالم انما هو على نسق واحد و ثابت لا تغيير فيه. فهي والحال هذه تلجأ الى انكار المعاجز، وتحاول تبريرها بتبريرات مادية محضة، باعتبار ان هناك قوانين طبيعية هي التي تسيّر هذا الكون، وان الله جلّت وعظمت قدرته لا يستطيع ان يخرق هذه القوانين ؛ فكيف يبعث الانبياء ؟ وكيف يقول للنار كوني برداً وسلاماً على ابراهيم ؟ وكيف يحوِّل عصى موسى الى ثعبان عظيم ؟ وكيف يشق البحر لبني اسرائيل ؟ وكيف يحيي الموتى على يد عيسى بن مريم ؟ وكيف ينشق القمر على يد نبينا محمد صلى الله عليه وآله ؟ وكيف وكيف.... الى مالا نهاية له من التساؤلات التي تكشف عن انكار فلسفة الوحي وعدم الايمان به، لانها تعتقد ان الوحي خرق للقوانين المادية الطبيعية التي تعتمدها الفلسفة. فهي بالتالي تلجأ الى حصر إمكانيات الفرد ضمن تلك الاطر المادية، وعليه فالانسان - وفق التصورات المادية - يمكنه مثلا ان يصبح نبياً بتنمية عقله كأن يدرس فيصير عملاقاً في العلم والمعرفة! اما أن ينزل جبرائيل عليه السلام على أحد من البشر وان ترتبط الارض بربها عبر ملَك مقدس فهي فكرة مرفوضة من وجهة النظر الفلسفية. وهذا بحد ذاته هو الجمود الذي يقود الفلسفة إلى انكار المعاد؛ إذ لا رجعة في اعتقاد الفلسفة ولا تغيير، وبالتالي لاجنة ولا نار.
ان القرآن الكريم يضع الاجابة لكل التساؤلات، "وَقَالُوا أَءِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَءِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً" (الاسراء /49(. ويتصدى لكل الانحرافات الفكرية. فالاسلام منذ البدء يقول إن الله على كل شيء قدير، ونحن إذ نعتقد بالقدرة الالهية الابدية؛ القدرة المطلقة المتكاملة ؛ القدرة اللامتناهية اللامحدودة ؛ نكون قد وضعنا لكل سؤال جواباً. فحين تتجلى عظمة القرآن الكريم تتضح تفاهة الافكار الفلسفية الانحرافية؛ إذ الامور انما تعرف بأضدادها، والقرآن المجيد حين ينسب كل شيء الى الله سبحانه وتعالى وبأنه قادر على كل شيء قدير، إنما يبطل ادعاءات من ينكر المعاجز الالهية وينسب كل ذلك الى القوانين الطبيعية، ويدحض التصورات المادية الواهية المحضة التي تخرج كل ذلك عن إرادة الله جلت قدرته.
نعم؛ نحن حين نعتقد ان الله تعالى على كل شيء قدير، إنما نؤمن أيضا بأنه جل وعلا قد جعل إرادته وراء مشيئتنا الحرة. فان "الله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم"، إذ هو سبحانه وتعالى القائل: "ادعوني استجب لكم" فسبحان الله عما يفترون.
رابعاً: لا لكرامة الانسان!!
الانسان وفق الفلسفة البشرية إنما هو (حيوان ناطق) مجرداً عن القدرة ؛ انه موجود يكتنفه الجمود وليس له أية إرادة او اختيار، بل ليس له من صفات الانسانية إلاّ النطق الذي يتميز به عن الحيوان. في حين نجد الاسلام يرفع الانسان الى مصاف الملائكة، بل و أرفع من ذلك حين يأمر الله سبحانه وتعالى الملائكة بالسجود لآدم، وحين يكرّم الله عز وجل الانسان بقوله: "وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي ءَادَمْ" (الاسراء /70)، ومن هنا يتضح لنا مدى تأثير الاسلام في تربية الانسان، وتنمية مواهبه، وتفجير طاقاته. فهو حينما يحترم حرية الانسان ويطلق له الارادة والاختيار، يخرجه عن الجمود، ويجعله قادراً على تغيير حياته، بل ويعطيه ملكوت السماوات والارض، شريطة أن يكون الانسان مؤمناً بالله، صادقاً في إيمانه.
|
|