القرآن الكريم و علم الغيب لدى أئمة أهل البيت (ع)
|
*يونس الموسوي
المشكلة ليست في الحقيقة وانما في تصوراتنا عنها. من هنا لابد من وضع أسس ثابتة تكون صالحة لأن تصبح معايير لمعرفة تلك الحقيقة، فقضية هامة وكبرى مثل مسألة معرفة النبي الأعظم وأهل بيته عليهم صلوات الله بالغيب هي قضية كبيرة وقد اختلف بشأنها المسلمون بل حتى علماء الشيعة فمنهم من قال بمعرفة النبي وآل بيته عليهم أفضل الصلاة والسلام بالغيب ومنهم من لم يقل بذلك.
وإذا بحثنا عن الأسس الثابتة لإظهار كنه هذه الحقيقة سنجد أن القرآن الكريم وهو أحد الأسس الثابتة والذي يصلح أن يكون معياراً لمعرفة تلك الحقيقة، نجد أنه يتحدث في الكثير من آياته عن هذا الموضوع الحساس غير أن الطابع العام لتلك الآيات توحي بأنه لايعلم الغيب إلا الله وقد وردت في هذا المعنى آيات مثل: عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا" (الجن /26)، "فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلّهِ فَانْتَظِرُواْ إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ" (يونس /20)، "وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ وَلاَ أَعْلَمُ الْغَيْبَ" (هود /31)، "وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ" (الأعراف/ 188)، "وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ" (الأنعام /59)
هذا بالاضافة إلى آيات أخرى وهي واضحة الدلالة على أن الغيب لله وحده. لكن تبقى ثمة أسئلة حائرة، مثل: كيف كان رسول الله صلى الله عليه وآله يخبر عن الغيب وهو لايعلمه؟ وكيف كان عيسى عليه السلام يخبر الناس بما يأكلون وما يشربون وما يخبأون في بيوتهم بنص القرآن الكريم، إن كان لا يعلم الغيب؟ وكيف كان الأئمة الأطهار صلوات الله عليهم يخبرون بالغيب إن كانوا كذلك ؟
يظهر أن الغيب غيبان: غيبٌ اختص به رب العزة والجلالة فلا يطلع عليه أحد، وغيب آخر أطلعه الله سبحانه وتعالى لأنبيائه وأوصيائه عليهم صلوات الله. فما هو الدليل القرآني على ذلك؟
هناك العشرات من الآيات القرآنية التي تؤكد هذه الحقيقة وتبين أن الله سبحانه وتعالى كان يخبر أنبياءه ببعض المغيبات، وما ذكر في القرآن الكريم منها إلا الشيء اليسير، وأما ما أخبر به الأنبياء عن طريق الملك فهو كثير ولا يُحصى، وأما بالنسبة إلى ما جاء في القرآن الكريم فهناك آيات مثل: "وَإِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَ* يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ* ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ" (آل عمران /42-44).
ففي هذه الآيات يخبر الله نبيه صلوات الله عليه عن ما مضى من قصص الأولين. "قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الْخَاسِرِينَ* قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلاَمٍ مِّنَّا وَبَركَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ* تِلْكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ" (هود /47-49) وهناك آيات أخر في هذا المضمون تؤكد أن الله سبحانه وتعالى كان يخبر نبيه صلوات الله عليه بما غيّب عنه من أخبار الماضين. "عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا" (الجن /26-27) وهذه الآية الأخيرة هي أكثر وضوحاً بشأن إخبار الله عزوجل لبعض رسله عن أمور الغيب.
من هنا نستطيع أن نفهم كيف أن عيسى عليه السلام كان يخبر الناس بالمغيبات وكذلك نبي الإسلام وأهل بيته صلوات الله عليهم أجمعين، وهناك قصص كثيرة من التاريخ تخبرنا عن هذه الحقيقة، وعندما نضع تلك القصص في السياق القرآني نجد أنها لا تخالف الكتاب المقدس بل تؤكد معانيه.
غير أن القضية المهمة التي تثار أمامنا تجاه هذا الموضوع هي: الاعتماد على الروايات والاحاديث الواردة عن الرسول وآل بيته صلوات الله عليهم في تفسير مثل تلك الآيات، لأننا لو اعتمدنا فقط على ظاهر القرآن الكريم وعلى بعض آياته من دون مراجعة الآيات الأخرى أو من دون مراجعة تفسير النبي وأهل بيته عليهم السلام لتلك الآيات لوقعنا في خطأ جسيم، ولكننا عندما نعتمد الأسس الثابتة والمعايير الصحيحة سنتمكن من الوصول إلى الحقيقة التامة.
وللأسف إننا نلاحظ بعض المفسرين وهم يقدمون آراءهم الخاصة واجتهاداتهم في الآية على تفسيرات النبي وأهل بيته صلوات الله عليهم، ولاسيما إذا كانت آراؤهم غير منسجمة مع تفاسير الأئمة الأطهار عليهم السلام وهنا يسقطون في أخطاء كبيرة.
وبالنسبة إلى قضية كبيرة وهامة مثل (علم الغيب لدى النبي وأهل بيته الطاهرين) لايمكن أن نتعامل معها على أساس ما يستنبطه العقل البشري من دون مراجعة المصادر الرئيسة، ولاحتى الرجوع إلى بعض ظواهر القرآن الكريم دون الرجوع إلى روحه.
ولا غرابة أن يقع المسلمون الذين لم يأخذوا دينهم من أئمة الهدى بكل هذه الأخطاء الفضيعة في التفسير، ذلك أن الله سبحانه وتعالى جعل للقرآن أئمة راسخين في العلم يبينون آياته ويكشفون أسراره ويوضحون للناس ما التبس عليهم من فهم القرآن الكريم.
ونحن عندما نتحدث عن علم الغيب لدى الأئمة الأطهار صلوات الله عليهم فإنما الفرض هو أن نفهم بعض الوقائع التي حصلت لهم مع المسلمين، فهناك الكثير من الوقائع التي تكشف عن معرفتهم عليهم السلام بأمور لايعلمها سائر البشر عادة، فإذا عرضنا تلك الوقائع على ظواهر القرآن الكريم ولم نلجأ إلى الآيات الأخرى سنقع في خطأ كبير إذ لابد أن ننفي بمعرفتهم للغيب وهذا بخسٌ لحقهم عندما نتأكد بأن القرآن الكريم هو أيضاً يسند هذه الحقيقة. أما إذا لم نجد الأصل القرآني، واكتفينا بتلك القصص والوقائع فقد يذهب ظن البعض إلى الغلو في الأئمة صلوات الله عليهم ويرفعهم إلى شأن الربوبية معاذ الله، لكونهم قادرين على أشياء هي من خصائص الرب عزوجل، فالقرآن الكريم هنا يهدينا ويرشدنا إلى أن الله سبحانه وتعالى قد يوصي إلى بعض رسله من أنباء الغيب، وإذا حصل هذا الأمر بالنسبة للأنبياء والرسل السابقين، لماذا لا يحصل أيضاً بالنسبة إلى الأئمة الطاهرين عليهم السلام؟
فقد كان الأنبياء عليهم السلام على درجات متفاوتة فمنهم من كان نبياً لنفسه ومنهم من كان نبياً لنفسه وأسرته ومنهم من كان نبياً لقرية ومنهم من كان نبياً لقبيلة وهكذا. إذن كيف ستكون منزلتهم بالنسبة إلى أئمة الهدى الذين هم يؤمّون ملايين الناس وفترتهم مفتوحة من عهد النبي الأعظم صلوات الله عليه وحتى يوم القيامة. أليس هناك فرق بين من يكون إماماً لقرية وبين من يكون اماماً للانسانية جمعاء ؟
ومن هذا الباب كان نبي الإسلام هو الأفضل من بين الناس جميعاً ومن ثمّ يأتي من بعده أهل بيته عليهم صلوات الله.
|
|