قسم: الاول | قبل | بعد | الاخير | عناوين اقسام | عناوين جميع اقسام

نعم لقوة الحق.. وكفى
لمشاهدة الصورة لحجم اكبر إضغط علي الصورة *العلامة الشيخ محمد حسن الحبيب
"إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4) وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ (6) ". (سورة القصص).
الصراع بين الخير والشر، الهدى والضلال، بدأ مع بداية الإنسان، فمنذ أن وطأ الإنسان هذه الأرض والصراع محتدم بين من يمثل الخير والحق ويدعو له ويجاهد من أجله، وبين من يمثل الشر والباطل والرذيلة ويعمل من أجل تثبيتها على أرض الواقع.
وكل من الجهتين قد أعد العدة وتسلح بما يلزم من أجل المواجهة، إلا أن ما يميز جبهة الخير أنها -وبغض النظر عن استعدادها بما استطاعت من قوة – تسلحت بسلاح مختلف عن الأسلحة التقليدية وغيرها، وهو سلاح الحق الذي أثبت أنه الأمضى والأكثر فاعلية في كل المواجهات عبر التاريخ البشري. بينما تركز تسليح الجبهة الأخرى في القوة إعدادا واستعمالا، مما مكنها من البطش والجور وإشاعة الرعب والخوف، والفساد والإفساد في الأرض ومن فيها ومن عليها.
والفرق بيّن وواضح بين الأمرين فالحق يأمر بالعدل والإحسان وإشاعة الخير والهدى والنور وترسيخ كل ما من شأنه الإرتقاء بالإنسان نحو التقدم والسعادة والإزدهار، وهذا لا يكون إلا بتمكين أدواته من عقل راجح وبصيرة ثاقبة وحكمة نافذة وعمل دؤوب ونفس مطمئنة. بينما القوة آلة عمياء يبدأ الإنسان بلملمتها كي يستعين بها، وما أن تتعاظم فإنها تسيطر عليه وتقوده نحو الهلاك.
القوة ومآل فرعون
فرعون ملك الكثير من أسباب القوة فبطش ببني اسرائيل " يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ " ولبس رداءً لا يجوز له فَقَالَ: "أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى" ثم قذفته القوة ذاتها إلى الهاوية! فقادته وجيشه إلى البحر فغرق واندحرت عساكره. قال تعالى: "وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90)" (سورة يونس).
وقد ورد عن الإمام الباقر في تفسير هذه الآية: اشتد على موسى ما كان يصنع به عامة قومه وقالوا يا موسى إنا لمدركون، زعمت أن البحر ينفرج لنا حتى نمضي ونذهب وقد رهقنا فرعون وقومه وهم هؤلاء تراهم قد دنوا منا، فدعا موسى ربه فأوحى الله إليه أن اضرب بعصاك البحر فضربه، فانفلق البحر فمضى موسى وأصحابه حتى قطعوا البحر وأدركهم آل فرعون، فلما نظروا إلى البحر قالوا لفرعون ما تعجب مما ترى ؟. قال أنا فعلت هذا فمروا وامضوا فيه، فلما توسط فرعون ومن معه أمر الله البحر فانطبق فأغرقهم أجمعين. (1)
وقال علي بن ابراهيم: قال الإمام الصادق (عليه السلام) :إن جبرئيل قال لرسول الله صلى الله عليه وآله يا محمد لما أغرق الله فرعون قال آمنت انه لا إله إلا الله الذي آمنت به بنو اسرائيل وأنا من المسلمين، فاخذت حمأة فوضعتها في فيه ثم قلت له الآن وقد عصيت من قبل وكنت من المفسدين. (2)
منطق القوة ومنهج الامام الحسن (ع)
وهذا الزمان الذي نعيشه مثل ذلك الماضي، فالحق فيه مضيع، ولا صوت يسمع إلا للقوة، ولا رأي إلا للقوي، وبمقدار ما تمتلك من قوة تستطيع أن تؤثر في المعادلة، وحينها يصبح قتل الأبرياء واحتلال أراضيهم وهدم دورهم حقا مشروعا يندرج تحت قانون الدفاع عن النفس، بينما الدفاع عن الأرض والعرض والأولاد والنفس من المحرمات يصنف القائم بها ارهابيا يستحق العقاب من قبل مصدرين للارهاب مثل امريكا والكيان الصهيوني وغيرهم.
لنأخذ سيرة الامام الحسن المجتبى (عليه السلام) نموذجاً لكيفية معالجة منطق القوة، فبعد استشهاد الإمام علي (عليه السلام) وانتقال الخلافة إليه ولبضعة أشهر وما أعقبها من الهدنة، برزت ظاهرة التنكيل واستخدام القوة من قبل المسؤولين في الدولة الأموية، وهي ظاهرة غريبة لم يعرفها المجتمع الإسلامي من قبل، ويكفينا مثالا على ذلك أن حقوق المواطنة تسقط كاملة مع فرض التنكيل لأي شخص يسمي إبنه عليا! ولنا أن نتعرف على بعض بنود منهج الإمام الحسن في مواجهة القوة :
أولاً: التمسك بالحق..
ان الإنتماء إلى الحق والتمظهر به سهل يسير في الظروف الطبيعية، أما الظروف الإستثنائية كالتي يسود فيها منطق القوة وتشرعن فيها أساليب القهر والإذلال كما حدث في الدولة الأموية حيث صدرت الأوامر بقطع الأرزاق والأعناق كمراسيم تشريعية صادرة من رأس السلطة (3) فالأمر فيها يكون مختلفا تماما عن سابقه، لأن الأخير يتطلب جهدا استثنائيا بحجم الإستثناء المتربع على أرض الواقع، وايمانا صلبا يمد معتنقيه بطاقة روحية قادرة على الثبات في سوح المواجهة. وبمراجعة سريعة لبنود الهدنة التي أبرمها الإمام الحسن (عليه السلام) يتكشف لنا أنه كان متمسكا بحق الله وبحق الناس رغم الظروف القاسية التي مر بها في حربه مع معاوية. فأول البنود جاءت للتأكيد على شرط بديهي ينبغي توفره في كل من تصدى لهذا المنصب الخطير (تسليم الامر الى معاوية، على أن يعمل بكتاب اللّه وبسنة رسوله (صلى اللّه عليه وآله)، وبسيرة الخلفاء الصالحين)، وأن يعود أمر الخلافة للإمام الحسن من بعد معاوية، فإن حدث به حدث فلأخيه الحسين على أن لا يحق لمعاوية إيكال أمر الخلافة إلى أي أحد.
ولمعالجة وضع الإعلام الديني السيء حملت الوثيقة عنوانا مهما يطالب إدارة الشام (بترك سب أمير المؤمنين والقنوت عليه بالصلاة، وأن لا يذكر علياً الا بخير). ولضرورة الأمن الشخصي للناس وضمان حريتهم جاءت الوثيقة لتؤكد (على أن الناس آمنون حيث كانوا من أرض اللّه، في شامهم وعراقهم وحجازهم ويمنهم، وأن يؤمّنَ الاسود والاحمر، وان يحتمل معاوية ما يكون من هفواتهم، وأن لا يتبع احداً بما مضى).
هذه بعض البنود وهناك غيرها من البنود والمواقف التي تشهد وتؤكد تمسك الإمام (عليه السلام) بالحق في زمن القوة.
ثانياً: العمل من أجل إحقاق الحق..
المفهوم السلبي للتمسك بالحق يعني الصبر على الظلم والحيف والإستمرار ولو تقية وكفى، بينما المفهوم الإيجابي يضيف على ذلك التخطيط والعمل من أجل إحقاق الحق. وهكذا كان الإمام الحسن (عليه السلام)، فقد قابل أهل الشام بالوعظ والإرشاد أولا، والقتال ثانيا، فكتب (عليه السلام) الى معاوية مع حرب بن عبد اللّه الازدي: (من الحسن بن علي امير المؤمنين الى معاوية بن أبي سفيان. سلام عليك.. فاني أحمد اليك اللّه الذي لا اله الا هو. أما بعد، فان اللّه جل جلاله بعث محمداً رحمة للعالمين ومنّةً للمؤمنين، وكافة للناس أجمعين، لينذر من كان حياً ويحق القول على الكافرين. فبلغ رسالات اللّه، وقام بأمر اللّه، حتى توفاه اللّه غير مقصّر ولا وان، وبعد أن اظهر اللّه به الحق، ومحق به الشرك..... فاليوم فليتعجب المتعجب من توثبك يا معاوية على أمر لست من أهله، لا بفضل في الدين معروف، ولا اثر في الاسلام محمود. وانت ابن حزب من الاحزاب وابن أعدى قريش لرسول اللّه صلى اللّه عليه وآله ولكتابه، والله حسيبك فسترد عليه وتعلم لمن عقبى الدار. وبالله لتلقينَّ عن قليل ربك، ثم ليجزينَّك بما قدمت يداك. وما اللّه بظلام للعبيد.ان علياً لما مضى لسبيله رحمة اللّه عليه يوم قبض ويوم منَّ اللّه عليه بالاسلام ويوم يبعث حياً، و ولانى المسلمون الامر من بعده. فأسأل اللّه ان لا يؤتينا في الدنيا الزائلة شيئاً ينقصنا به في الآخرة مما عنده من كرامة. وانما حملني على الكتابة اليك، الاعذار فيما بيني وبين اللّه عز وجل في امرك، ولك في ذلك ان فعلته الحظ الجسيم والصلاح للمسلمين. فدع التمادي في الباطل، وادخل فيما دخل فيه الناس من بيعتي، فانك تعلم أني أحق بهذا الامر منك عند اللّه وعند كل أواب حفيظ، ومن له قلب منيب، واتق اللّه ودع البغي، واحقن دماء المسلمين، فواللّه مالك خير في أن تلقى اللّه من دمائهم بأكثر مما أنت لاقيه به. وادخل في السلم والطاعة، ولا تنازع الامر أهله ومن هو أحق به منك، ليطفئ اللّه النائرة بذلك ويجمع الكلمة ويصلح ذات البين. وان أنت أبيت الا التمادي في غيّك سرتُ اليك بالمسلمين فحاكمتك حتى يحكم اللّه بيننا وهو خير الحاكمين).
ومع عدم الإستجابة راح سلام الله عليه يخطط مع أخيه الحسين (عليه السلام) لإحداث نهضة كبرى مستفيدين مما جرى في ترسيخ الوعي في الأمة. فكانت كربلاء حسنية و حسينية تثبت بما لا يدع مجالا للشك أن القوة تتفتت أمام الحق، وأمام المتمسكين بالحق والعاملين على إحقاقه.
ـــــــــــــ
(1) تفسير القمي، علي بن ابراهيم القمي؛ ج 1، ص 315، 316
(2) تفسير القمي، علي بن ابراهيم القمي؛ ج 1، ص 316. والحمأة : الطين الأسود المنتن.
(3) كتب معاوية الى عماله نسخة واحدة: (انظروا من قامت عليه البينة أنه يحب علياً وأهل بيته فامحوه من الديوان)، ثم كتب كتاباً آخر: (من اتهمتموه ولم تقم عليه بينة فاقتلوه !!).