تشكلات الوعي ودور الطبقة الوسطى
|
*عدنان الصالحي
كيف تستطيع بعض الشعوب والمجتمعات ان تحصن نفسها من امراض الاستبداد والتخلف، وتصمد امام اي محاولة لانقلاب السلطة والقوى الانتهازية على شرعيتها؟ بينما هناك مجتمعات لازالت غارقة ومنذ قرون عديدة في مستنقع التخلف والاستبداد والفساد، تتقاذفها جماعات ظلامية نهمة للسلطة المطلقة.
الجواب يكمن في (تشكلات الوعي الاجتماعي) الذي يقف بمعرفته وعلمه امام اي انقلاب او استلاب او احتلال خفي، وهذه التشكلات تبرز من خلال قوة اجتماعية ديناميكية وفاعلة تسمى الطبقة الوسطى التي تجعل من وعي الشعب قوة حصينة وسدا منيعا امام الانحراف والانزلاق.
(الوعي)، مصطلح يعبر عن حالة علمية يكون فيها العقل البشري بحالة إدراك وتواصل وتفاعل مستمر مع محيطه الخارجي وعن طريق منافذه الخمسة المتمثلة بحواس الإنسان، فالحواس تنقل المعلومات الحسّية إلى جذع الدماغ، او ما يسمى (التشكّل الشبكي)، والذي بدوره ينقل ويوزّع هذه المعلومات إلى المناطق المختصّة في القشرة الدماغية ثم تغذّي وبشكل ارتجاعي، التشكّل الشبكي الذي يعمل على نقل ردود الأفعال إلى الأعضاء الحركية للتعامل معها وفق معطيات يحددها الوعي العقلي للإنسان تماشيا مع المستجدات البيئية المحيطة به، هكذا يصف علماء النفس التفسير العلمي لعملية أو ظاهرة (الوعي).
ورغم وجود نتائج معتد بها حول (الوعي) ظهرت من دراسات مختلفة حول علاقة العقل بالجّسد، والتي أثارها الفيلسوف الفرنسي (رينيه ديكارت) في القرن السابع عشر وتسائل فيها؛ هل للوعي أبعاد - كيان مادي- أم أنه كيان غير مادي؟ وهل الوعي هو المحرّك لسلوكنا أو أنه موجّه من قبلنا؟
غير ان البعض الاخر اعطى للوعي دوراً مركزياً و أكثر فاعلية بحيث اعتبره الشرط الاساس لنيل اي هدف لدى الانسان عموما، كونه يمثل الطريق الوحيد للارتقاء بالمستوى الفكري واتساع آفاق الرؤية وتقوية خواطر النظر العقلي في البحث عن التطور والتصاعد العلمي والحياتي، وبالوعي يرتقي سلوك الافراد وتحدد اهدافهم و ميولاتهم واتجاهاتهم.
فالإنسان غير قادر على احداث اي تغيير لا على سلوكه ولا على تصرفاته ولا على محيطه الا بعد المبادرة الى تنمية و رفد وعيه والنهوض بمستواه الفكري، لان الانسان بزيادة هذا الجانب انما يزداد بصيرة في الحياة فيكون له تفكيره الخاص وقراره المستقل الناتج من جمع المعلومة ورفدها وتحليلها واستخلاص النتائج بطريقة التحليل والمقارنة والمقاربة، فينجو من أسر التقليد الاعمى والتبعية الفكرية والسير على الموروثات الخاطئة او التقليدية، وبالنتيجة يتمكن من صيانة نفسه ومن يحيطه من الانحدار او الانحراف والانشغال بتوافه الامور او مسالك الطغيان والاستعباد.
ومن اهم نتائج نمو الوعي ورقيه في الفرد والمجتمع هو ظهور (المجتمع المدني المتحضر) كما يشير علاء الحسون في كتابه (تنمية الوعي) حيث يتحصن بمفاهيم ومعايير وقيم علمية وعقلية تستمد من اصول شرعية واخلاقية مضيفاَ لها بصماته العلمية والتاريخية ونتاجاته الفكرية، ومثل هكذا مجتمع فان يحظى بمكاسب عديدة منها:
1- احترامه للقانون واعتباره جزءاً من نسيجه القيمي وثابت من ثوابت بناءه الذي لا يمكن التخلي عنه أو الانفكاك منه.
2- احترام أفراده للوقت وقيمته وعدم التهاون في التعامل معه والتعامل معه بشكل مثالي لترتيب أمور حياتهم كونه معياراً هاماً لتنظيم وتمهيد الطريق نحو السعادة المنشودة من خلال تحقيق الهدف المرسوم والمنشود بوقت محدد.
3- محافظة أفراده على الممتلكات والمرافق العامة التي تعود ملكيتها للدولة وينتفع بها المجتمع و اعتبار تخريبها والعبث بها من المرفوضات عقلا وشرعا و وصف ذلك بانه سلوك غير حضاري.
4- تحلي أفراده بمهارات الحوار الإيجابي وروح تقبل الرأي الآخر والابتعاد عن التعصب الأعمى الذي يؤدي إلى إقصاء الآراء وفرض الرأي الواحد دون النظر إلى كونه سلبياً أو إيجابياً فينتج عن ذلك إقامة السدود بين الناس وقطع الروابط وتفكك المجتمع.
5- اقتران القول بالعمل، بحيث لا يدعو احدهم الى عمل ما، الا ويسبق الآخرين بالعمل به، فيكون مصداقا عمليا لذلك.
6- التعايش مع الأطراف الأخرى بنسب متوازنة وبطرق انسانية.
7- كثرة الانتاج العلمي والاقتصادي ووفرته وتقدم المجتمع فكريا واقتصاديا وقلة الازمات في مختلف الجوانب وارتفاع دخل الفرد عموما وحصول الاستقرار الاجتماعي.
8- عدم نشوء الدكتاتوريات في مثل هكذا مجتمع سواء (الصغرى) منها في الاسر البسيطة او (الكبرى) في الجماعات والمجتمع عموما.
9- تحمل الافراد مسؤولياتهم بشكل شجاع وعدم التهرب والتنصّل منها في كل الظروف وبأي سبب، وتحمل جميع الافراد المسؤولية عن نجاح المجتمع كلا من موقعه.
أما كيف يمكن تحصين العلم المحرك للوعي من الانحراف والذهاب وراء الخرافات، فيقول المرجع الديني الراحل الامام السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله) (... ان ذلك ينتج بمزجه بالخوف من الله والتثبت بالحقائق العلمية المتفق عليها لا التصورية وبذلك ينجو الإنسان عن سيطرة رأس المال والديكتاتورية، وإذا نجى الإنسان من هذين، صار العلم آخذاً بالزمام، لا أن يكون مقوداً للأهواء والشهوات ولا الانحرافات...).
وفي جانب رفد الوعي وتنميته فلابد من ايجاد الطرق المؤدية الى ذلك وهي تتمثل في عدة آراء منها:
1- تحلي الذهن بالمرونة والطلاقة والقدرة على الاتيان بالبدائل المتعددة والحلول الجديدة، باستخدام المخزون المعرفي للشخص.
2- القدرة على اضافة التفاصيل للحلول والمطابقة الواقعية لها.
3- تعدد الخيارات والحلول وعدم الاكتفاء بالفكرة الاولى التي تخطر على الذهن.
4- افساح المجال لتقييم الافكار حين توالدها.
5- المطابقة الحقيقية بين العلم وثوابت الدين وجعلها حدودا واضحة المعالم لتقبل او رد الآراء المطروحة.
هذه المرحلة من الوعي المجتمعي يتحقق بوجود الطبقة الوسطى التي يجمع على ضرورتها علماء الاجتماع، ويربطون بينها وبين نمو الوعي في أي مجتمع يتجه نحو المدنية. ثم من شأن الطبقة الوسطى انتاج النخب والكفاءات والتشكيلات المدنية الفاعلة، كونها قادرة على نشر الوعي في مجتمعها وصاحبة قرار مستقل وعلمي بعيدا عن اي تطرف او تعصب او تحزب، متخذة من بناء البلد ونشر الحقيقة هدفا راسخا لا حياد عنه، فاذا ما وجدت هذه الطبقة فان المجتمع سينمو نموا طبيعيا كونها الحلقة المهمة الواصلة بين عموم الناس وبين الجهات الحاكمة فهي ستكون متحكمة بمفصل التوجيه والارشاد وقيادة الشعوب.
* مركز الإمام الشيرازي للدراسات والبحوث
|
|