قسم: الاول | قبل | بعد | الاخير | عناوين اقسام | عناوين جميع اقسام

الإيمان و طريق تقويم السلوك
لمشاهدة الصورة لحجم اكبر إضغط علي الصورة *أنور عزّالدين
عندما يفسد قلب الانسان، وتتزعزع روح الايمان الحق في نفسه، فان فراغا هائلا سوف يحس به يتمثل في الشعور العميق بالخوف والقلق والضيق، فاذا بهذا الانسان يخاف من المستقبل، ويخشى الموت، ويتهيب المجهول، فان حصل على شيء فانه يقلق ويضطرب لكي لا يفقده، وان لم يحصل عليه بحث عنه عسى ان تكون فيه النجاة والسعادة والفلاح. هذا الفراغ الكبير الذي يشعر به قلب الانسان الفاقد للايمان يدفعه الى البحث عن إله يعبده، ويدفعه كذلك نحو الحرص، وقد ورد في الحديث الشريف عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله: (يشيب ابن آدم وتشيب معه خصلتان؛ الحرص وطول الأمل)؛ فحتى قبيل وفاته تراه يبحث عن دينار اكثر، لان المال الذي يحصل عليه يتحول بالنسبة اليه الى وبال، فهو يبحث عن طريقة يحافظ بها على هذا المال فيزداد خوفا، بدلاً من ان يكون عاملاً لتحقيق الأمن، كما يجري وراء السلطة عسى ان تمنحه شيئا من الراحة والاطمئنان .
ان هذا هو حال القلب الذي يفقد الايمان، ولذلك نرى فرعون عندما اراد ان يحاج موسى عليه السلام قال له: "أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الاَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي". فقد اتكأ على امواله وملكه ليدعي انه (إله)، وهذا ما يكشف عن طبيعته المفرغة من الايمان بالله، والاعتماد على النفس، وهذه هي حالة الكفر الصريحة.
لكن هناك حالة اخرى هي الكفر المبطن، والايات القرآنية تعالج هذه الحالة في النفس البشرية؛ وتطلق عليها (النفاق) او الشرك الخفي، في المقابل اذا شعرنا بقوة الايمان في نفوسنا واحسسنا بالاطمئنان والسكينة، فاننا سوف لن نبحث عن السلطة لان الايمان اشد قوة منها، وهكذا الحال بالنسبة الى سائر المظاهر الدنيوية الاخرى، وحينئذ نكون قد بلغنا مرحلة من مراحل الايمان الحق الذي هو الايمان المستقر، والا فان هذا الايمان سيكون مستودعاً لاننا اوتيناه لفترة معينة ثم يستعاد بعد ذلك منا قبيل الموت .
وقد يكون (العلم) هو الشيء الاخر الذي يبحث عنه الانسان، ونقصد به العلم الذي يقول تعالى عن اصحابه: "مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً" (سورة الجمعة / 5)، فهذا العلم يتحول الى هدف بعد ان كان وسيلة، وهو ذريعة يتذرع بها الانسان للتهرب من مسؤوليات الايمان والجهاد في سبيل الله، فهناك من يبحث عن كتاب يطالعه لكي يهرب من الدخول في سوح الجهاد، ويجلس في زاوية ولسان حاله يقول: (ما أحسن الزوايا والخبايا عندما يهرب اليها الانسان من مواجهة مشاكل المجتمع)!!
الايمان نور في قلب الانسان
ان مطالعة الكتاب لا يمكن ان تتحول الى ايمان، فالايمان يعني التسليم المطلق لله سبحانه وتعالى، وهذا الايمان قد يتجسد في يوم من الايام بطلب العلم، وفي احيان اخرى في طلب الرزق، او كلمة حق امام حاكم جائر.
ان الايات القرآنية تصور الانسان الفاقد للايمان برجل ألقي من السماء الى الارض فأما ان تخطفه الطير، او تهوي به الريح في مكان سحيق. وفي مواضع اخرى يشبه القرآن الكريم الانسان الذي يفقد الايمان بالذي يجعل الله قلبه ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء. واذا ما كان احدنا في صحراء واسعة، وكان الظلام يسود هذه الصحراء بحيث لا يرى شيئا، فانه سيعيش الظلام المطلق، وفي نفس الوقت الضيق المطلق، واذا ما اشرقت الارض وأضيئت فحينئذ سيعيش في رحاب الحقائق .
وهكذا الحال بالنسبة الى الايمان عندما يسلب من الانسان فانه سيعيش حالة البحث عن عمل سهل يعوض به عن العمل الحقيقي الذي هو الايمان كمن يبني مسجدا ليغطي به على اكله للمال الحرام وانتماءاته وولاءاته غير المشروعة. فبدلا من ان يحصل على الثواب، يتحول بناء المسجد بالنسبة اليه وسيلة للفرار من الايمان لا لجوء اليه. و في كثير من الاوقات نمني انفسنا بالايمان، في حين انه ليس بالتمني بل يحتاج الى سكينة ووقار، وان لا يخاف الانسان لومة لائم.
مقاييس الايمان
مما مر يتضح ان تحقيق الايمان في قلب الانسان ليس بالامر الهيّن ولا هو بالتمنّي او الادعاء باللسان وببعض الاعمال، إنما هنالك عدة مقاييس ومعايير لذلك منها:
أولاً: الجهاد والتضحية.. قد يدعي الانسان انه مؤمن، مقيم للصلاة، ومعمر للمساجد، ولكنه لا يجاهد في سبيل الله، ومثل هذا المنطق يرفضه القرآن الكريم، فالجهاد في سبيل الله شيء، والعمل شيء اخر، فالاخير قد يدل على الايمان، وقد لايدل عليه، اما الجهاد فانه دليل وعلامة لا تقبل الشك لان الانسان غير المؤمن لا يمكن ان يجاهد وان يضحي بنفسه. ولابد من الاشارة الى ان الجهاد ليس بالضرورة ان يكون في سوح المواجهة العسكرية واستخدام السلام، إنما قد يأخذ شكل القلم والبيان والموقف الشجاع.
ثانياً: الانفاق، وهذا ما تشير اليه الآية الكريمة: "الَّذِينَ ءَامَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدَوا فِي سَبِيلِ اللّهِ بِاَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ" (سورة التوبة /20). بل ان البذل والعطاء قد يأخذ اشكالاً اخرى، عندما تكون الحاجة الى بذل الجاه والسمعة في سبيل الله والمستضعفين، وهو ما قد يكون عسيراً على الكثير ممن يدعون الايمان والتديّن.
ثالثاً: العصامية، وهي القدرة على جعل النفس بمنأى عن تأثير العلاقات الاجتماعية في لحظة الصفاء الروحي وهذا ما يشير اليه عز وجل في قوله: "يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لاتَتَّخِذُوا ءَابَآءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَآءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِنكُمْ فَاُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ" (سورة التوبة /23)، وهنا يؤكد تعالى على ان الاباء والاخوان وكل من نرتبط به بعلاقة قرابة كالزوجة والابناء والعشيرة انما هم جزء من العلاقات الاجتماعية التي من الممكن ان تتحول الى حجاب بين الانسان، وبين الايمان الحق، هذا بالاضافة الى متعلقات أخرى مثل الاموال التي قد تقف هي الاخرى حائلا بين الانسان وربه.
لا للتبعيض
من الحجب التي تحول دون وصول الانسان مرتبة الايمان الحقيقي، و وعي القرآن الكريم واستيعاب حقائقه، حجاب (التبعيض). فهناك قسم من الناس اذا جاءهم ما يوافق اهواءهم وشهواتهم اخذوا به، واذا عُرض عليهم ما يخالف هذه الاهواء والشهوات تركوه، وهؤلاء لايؤمنون بالحق، ولايدورون معه اينما دار، بل يؤمنون باهوائهم، فانى دارت وسارت داروا معها وساروا اليها، وهؤلاء لايمكن ان نطلق عليهم صفة الايمان لان الانسان المؤمن لايفرق بين حق وآخر، ولانه يؤمن بالحق فانه يبحث عنه، ولانه يبحث عنه فان الله تعالى يهديه اليه، كما يشير الى ذلك القرآن الكريم في قوله: "وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا" (سورة العنكبوت /69).
فليس كل انسان يهتدي بل يهتدي من اراد وسعى وكان اهلا للهداية، واما من اراد ان يهتدي لمجرد اللعب، او ان يشبع طموحه العلمي فان مثل هذا الانسان لن يصل الى الهداية، بل ان الله سبحانه سيضله عن الطريق، ويمنع عنه سبل الهداية، ويمده في غيه الى يوم القيامة، كما يقول عز من قائل: "وَمَن كَانَ فِي هذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الاَخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً" (الاسراء /72)، وهؤلاء يقولون يوم القيامة: "رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً" (طه /125)، فيأتيهم الجواب من البارئ عز وجل: "كَذَلِكَ أَتَتْكَ ءَايَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى" (طه /126).