تخلّف الأمة عن نصرة المظلوم تشجّع الظالم على الظلم
|
*إعداد / بشير عباس
عشرات الآيات القرآنية بل المئات منها تعكس لنا طبيعة السنن الالهية الحاكمة في الخليقة، ففي هذه الخليقة لا تجد صغيرة ولا كبيرة الا وهي خاضعة لنظام دقيق من أصغر ذرة الى كيان الخلية الى وجود الانسان الى وجود الافلاك المحيطة بالانسان. وكل شيء خاضع لنظام ينبعث من سنن الهية عليا، يهيمن عليها الله تعالى ويدبرها ويديرها. فاذا يكون الانسان في غفلة عن هذه السنن يأتي القرآن الكريم ليذكره، (يا ايها الانسان...! انت جزء من عالم محيط بك).
إذن؛ تهيمن على العالم الانظمة الدقيقة والرشيدة، والانسان على ظهر هذا الكوكب يخضع ايضاً لهذه الانظمة. وهذه الانظمة بدورها محكومة بسنن الهية عليا، فما شاء الله ان يجعل فعله خاضعاً لتلك السنة "وقدر الله فقضى"، ولو عرف الانسان هذه الحقيقة لاستوت الامور له، ولاصبحت حياته سليمة وسعيدة خالية من الازمات والمشاكل والاخطاء.
ومن اعظم ما في هذه السنن ان الله قائم بالقسط بالعدل، والعدل هو الحق الذي يحكم هذا الكون، فلا يستطيع احد ان يتصارع مع الحق، (من صارع الحق صُرع)، فهل بامكان الانسان ان يتصارع مع جبل؟ أو ان يتصارع مع امواج البحار؟ وهل استطاع اليابانيون اليوم بما لديهم من تقدم في التكنولوجيا والذكاء ان يقاوموا (تسونامي) او كارثة الزلزال الكبير الذي ضرب بلادهم ؟ الاجابة عن كل ذلك هو النفي، ومن هذه المعادلة الحقّة، تترشح فكرة انتصار الحق في الصراعات الاجتماعية، فالصراع الاجتماعي ظاهراً بين فئتين، تراهم مثلين مع بعضهما، هذه الفئة تملك الامكانات، وتلك ايضا، و عادة تكون الفئة التي على الحق تملك الامكانات الاقل من الفئة الاخرى، ولكن هاتين الفئتين ليستا مثلي بعضهما، لأن هذه على الحق والحق ينتصر وتلك على الباطل، والباطل يندحر شئنا أم ابينا.
حتمية النصر لمعسكر الحق
في القرآن الكريم جاء التأكيد الالهي على حتمية النصر والظفر لأهل الحق، والهزيمة والخسران لأهل الباطل، وهنالك أمثلة في سور عديدة منها (سورة الصافات)، تقول الآيات الكريمة: "سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ * كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ * وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً مِّنَ الصَّالِحِينَ * وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِن ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ مُبِينٌ * وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ * وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيم * وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ * وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ * وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيم * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الْآخِرِينَ * سَلَامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ * إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ" (سورة الصافات /190-121).
عندما يذكرنا القرآن الكريم بسيرة حياة الانبياء العظام مثل ابراهيم واسحاق ويعقوب ويوسف وموسى وهارون، وذلك في اكثر من سورة مثل (هود) و (الانبياء) و(الصافات) وفي آيات عديدة أخرى، إنما يدعونا للاستفادة من تجارب الماضين حتى نكون ممن تنطبق عليه الآية الكريمة: "كذلك نجزي المحسنين"، وفي آية اخرى "انا كذلك نجزي المحسنين"، والمحسن هو ذلك الذي يكون على خط الاحسان وهو خط الانتصار للحق والدفاع عنه.
لقد كان نبي الله نوح عليه السلام في العراق وكان في منطقة بابل والكوفة، وقد شهدت هذه المنطقة طوفان نوح، لكن عندما جاءهم النبي لينذرهم ضحكوا عليه وبقي في قومه الف سنة الا خمسين عاما يذكرهم، وهم يضربونه! ومن يراه من بعيد، يخاله انساناً خائر القوى ولا جدوى من رسالته ودعوته، فقد تعاقب عليه ثلاثة اجيال، كل جيل كان يعيش حوالي ثلاثمئة عام، مع ذلك لم يفلح معهم، لكن النتيجة كانت أن تعرض قومه للعذاب الالهي العظيم، وفي ذلك الطوفان الذي غرقوا فيه باجمعهم وخسروا الدنيا والآخرة، بينما نبي الله نوح انتصر بالسفينة.
كذلك الحال بالنسبة لنبي الله ابراهيم الخليل الذي ولد في منطقة بلاد الرافدين وعاش فيها وتحدى الطاغية (نمرود)، و تعرض للنيران التي تحولت برداً وسلاماً عليه، ثم هاجر من العراق الى ارض كنعان ومنها هاجر الى مكة المكرمة. هذا الانسان الالهي و النبي الرباني العظيم، حُظي بتأييد السماء وهو في العراق و في كنعان ومن ثم في الحجاز. يقول ربنا تعالى إن تأييدنا لابراهيم ليس فلتة او امراً شاذاً، انما هو جزء من السنة الالهية، ويعد الكرة بعد الاخرى يقول "كذلك نجزي المحسنين"، بمعنى من يسير في خط يشابه خط ابراهيم عليه السلام أو في خط يشابه خط نوح أو خط يشابه خط موسى وهارون يكون جزائه ذلك الجزاء الاوفى.
المعادلة الثابتة في كل زمان ومكان
هنالك نقطة مهمة في معادلة الصراع، فالانبياء عاشوا ظروفاً مختلفة زمكانياً، أحدهم كان في العراق والاخر في فلسطين والاخر في مكة والاخر في بلاد الشام، وكانت لديهم ظروف اجتماعية ونفسية متعددة، وربما هناك انبياء كانوا يعيشون في مناطق اخرى من العالم وفي عصور مختلفة، ولكن السنّة الالهية كانت واحدة بالنسبة اليهم جميعا، اذ لا فرق بين اولهم وبين آخرهم، بمعنى ليس ثمة فرق بين آدم وبين نبينا الأكرم صلى الله عليه وآله، من حيث تطبيق سنة النصر الإلهي. وهذه المعادلة تنطبق على الانسان في كل زمان ومكان، على الانسان المؤمن ان يعرف بانه اذا اتبع سنة الانبياء واهتدى بهداهم سيشمله ايضاً النصر الالهي، فاذا اعطى الله لنبيه موسى بن عمران تلك القوة البدنية، فانه معطيها اليوم للانسان المؤمن، تقول الآية الكريمة: "ونجيناهما وقومهما من الكرب العظيم"، والكرب العظيم هنا هو (فرعون)، ذلك الطاغية الذي كان يحكم الحضارة الوحيدة في العالم، وكانت المعمورة كلها كانت تخضع لمصر ولفرعون، وقد لخّص هذا الانسان حياته في حرب موسى وهارون وحرب بني اسرائيل، ولم يتورع عن ارتكاب الجرائم الشنيعة والبشعة بحق الناس من اجل التشبث بالكرسي، وأن يبقى عليه مدة أطول، لكن ماذا كانت عاقبة فرعون؟ تجيب الآية الكريمة: "وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ"، أي نصرنا موسى وهارون معاً، "فكانوا هم الغالبين"، فحينما انتهى أمر فرعون بالغرق في اليمّ عاد بنو اسرائيل وحكموا مصر، ثم اخذ نبي الله موسى جثمان يوسف وحمله الى فلسطين حيث مدفنه الان على باب بيت المقدس، "واتيناهم الكتاب المستبين"، فبعدما غلبوا اعطاهم ربنا الكتاب وهو التوراة فيه نظام وبرنامج لحياة سعيدة، "وهديناهما الصراط المستقيم * وتركنا عليهما في الاخرين"، بالاضافة الى ذلك، فان كل انسان مؤمن بالله يأتي يوم القيامة، لابد ان يقف اجلالاً لموسى وهارون، وربنا يقول: "سلام على موسى وهارون"، ونحن نقول كذلك: (سلام على موسى وهارون) بعد مضي حوالي خمسين او ستين قرناً من الزمن، ومن الشروط الاساس لايمان الانسان، ان يكون مؤمناً بكل الانبياء، وهم عبارة عن منظومة الهية متكاملة. ثم يقول ربنا: "انا كذلك نجزي المحسنين"، ما هو الاحسان الذي كان لموسى ولاخيه عليهما السلام؟
كان موسى في مطلع شبابه يسير في الطريق واذا به يرى احد ابناء قومه من بني اسرائيل يتشاجر مع قبطي، والقرآن الكريم يصف الحادثة: "هذا من شيعته وهذا من عدوه فاستغاث الذي من شيعته على الذي من عدوه"، وكان موسى حينها ذا قوة بدنية عالية "فوكزه موسى فقضى عليه"، أي بضربة واحدة صرع القبطي وانتصر لاخيه الاسرائيلي، وفي اليوم الثاني وهو يمشي في الطريق، واذا نفس الاسرائيلي يتصارع مع قبطي آخر، فهرع لنصرته مرة ثانية، وكان معروفاً عن موسى عليه السلام انه سريع الغضب، وعندما كان يغضب يظهر ذلك على كل جسمه، فخاف الاسرائلي من منظر موسى، وقد رأى بالأمس كيف ان القبطي سقط على الارض ميتاً بضربة يد واحدة من موسى، فقال: اتريد ان تقتلني كما قتلت نفساً بالامس... الى اخر القصة. وبعد هذه الواقعة خرج الى ارض مدين و التقى بابنتي نبي الله شعيب كانتا جالستين ينتظران الرعاع من الرجال حتى يسقيان، فقال لماذا انتما لم تسقيا ؟ قالتا: نحن نساء وابونا شيخ كبير ونحن ننتظر حتى ينفضّ الرجال لنأخذ الماء ونسقي به انعامنا.
وفي هذه الحالة كان موسى يعاني الجوع، اذ لم يدخل فمه طعام منذ سبعة ايام او اكثر، وبعد ان خاض مع الرجال وسقى لهما، لم يطلب منهنّ الأجر ليوفر به طعاماً له –مثلاً-، إنما جلس جانباً ليستريح، وبعد ان ذهبت بنات شعيب، عادت احداهما وقالت له: ان ابي يدعوك لتأخذ منه أجر ما سقيت لنا، وهنا التقى موسى بنبي الله شعيب لأول مرة وقام بضيافته، ودعاه الى مائدة الطعام، فرفض موسى وقال: اذا كان هذا الطعام لقاء أجر السقاية فانا لا أتناوله، فما قمت به كان في سبيل الله، بل ان موسى كان دائماً مدافعاً عن الحق وكان دائم الغضب لله وللحق، وهذا هو مصداق الاحسان.
هذه القصة بالحقيقة تمثل عبرة ودرساً لنا، فنحن الآن نمتلك القوى والامكانات وأمامنا مجتمع متهالك بحاجة الينا، ثم لا نلتفت اليه. والمثل يقول: (من حلقت لحية جار له فليسكب الماء على لحيته)!!
لا ننتظر ان تحلق لحيتنا!
هل يجب ان ننتظر المشكلة والازمة تحوطنا لنهب ونثور لندافع عن انفسنا وديننا؟
ربما يقول البعض: حسناً ان وضعنا في العراق حالياً جيد ويحظى بقدر من الاستقرار، كلا؛ ربما هنالك في مكان ما بالعالم من اخواننا المسلمين من يعيش وضعاً سيئاً سواء في مصر او في تونس او في ليبيا او في والبحرين، واي منطقة في العالم، فاذا رأيت مظلوماً لا يجب السكوت عنده، لنكون محسنين بالدفاع عن المظلوم، وليس بالضرورة ان يكون الدفاع عن المظلوم بالسلاح والقوة، فهنالك الدعاء في اوقات مختلفة، او بتقديم الدعم باشكال متعددة. ان الدفاع عن حق الانسان المسلم امام الحاكم الظالم له عدة تبعات ايجابية:
اولاً: حينما تدافع عن المظلوم فان ذلك سيستتبعه دفاع اكبر من الله تعالى، فالانسان عبد الله وهو يدافع عن المظلوم، بينما رب العباد يدافع عن جيمع عباده، و اذا تراحم المسلمون فيما بينهم سيرحمهم الله تعالى.
ثانيا: من يدافع عن المظلوم ويواجه الظلم هنا وهناك، فانه بذلك سيحول دون تعرضه لهذا الظلم.
اتذكر أني قلت في خطاب جماهيري في ذكرى استشهاد آية الله العظمى السيد محمد باقر الصدر (قدس سره) في ايران؛ ان السكوت على استشهاد هذا المرجع المظلوم واخته المظلومة، سيجر الشعب العراقي الى حروب ودواهٍ، وفعلا رأينا بعد استشهاد الشهيد الصدر الذي اسميته (شهيد المرجعية الدينية)، كيف ان العراق سقط في مستنقع الحروب؟ وكيف ان الالاف سقطوا قتلى هنا وهناك، ولو كان الشعب العراقي يهبّ هبة واحدة ذلك اليوم، لكانت الامور على غير ماهي اليوم، ثم ان الحاكم ليس قوياً، إنما يجد امامه الضعف من الناس فيستقوي من خلال هذا الضعف والتراجع.
ان التاريخ طالما يزخر بالعبر والدروس، اهمها درس واقعة الطف، والخذلان الذي تعرض له الامام الحسين عليه السلام، فبعد الواقعة، سجل التاريخ جرائم مروعة ليزيد لعنة الله عليه، ففي السنوات الثلاث قبل موته، كان في كل سنة يرتكب جريمة مروعة، كانت كبرى جرائمه أمره بقتل الامام الحسين وبتلك الطريقة الفجيعة، لكن جريمتين أخريين، لم تكونا بقليلة، استباحة المدينة وفي السنة التالية هدم الكعبة المشرفة، فهذا الطاغية ارتكب كل الجرائم الشنيعة من قتل ابن بنت رسول الله والاعتداء على اعراض المسلمين وهدم الكعبة قبلة المسلمين، واهانة مرقد الرسول الأكرم، لكن مع ذلك نجد اليوم بعض العقول السخيفة الى الان يدافعون عن يزيد ويرفضون من يلعنه.
جاء رجل الى الامام زين العابدين وقال له: يابن رسول الله لماذا تحصل هذه التعديات ؟ قال له الامام عليه السلام: لو ان اهل المدينة كانوا يدافعون عن ابي يوم خرج من مدينة جده دفاعاً عن الحق ضد الباطل، لما كانوا يواجهون هذه الانتهاكات والتعديات.
اليوم اخواننا هنا وهناك في العالم الاسلامي يتعرضون لمشاكل وصعوبات، فاين المسلمون؟! من نادى يا للمسلمين ولم يجيبوه فليسوا بمسلمين، (من اصبح ولم يهتم بامور المسلمين فليس منهم). إذن، على كل انسان بمقدار استطاعته يجب ان يتقدم خطوة لنصرة اخوانه المسلمين، سواء بالتظاهرات وليكن يوماً واحداً بالاسبوع، أو بالدعاء في جوف الليل وخلال صلاة ركعتين قربة الى الله تعالى، فلابد ان يكون الانسان المسلم بحيث يراه الرب تعالى بانه يدافع عن المظلوم ويعمل جهد امكانه في هذا الطريق.
ان المسلمين اليوم مدعوون في كل مكان وكلاً حسب قدرته بان يدافعوا عن، المظلومين في كل مكان وبهذا ينزل الله النصر عليهم لان ربنا تعالى يقول: "كذلك نجزي المحسنين"، وهذه السنة الالهية لا تقبل التغيير ولا التحوير.
|
|