في ذكرى مولده الشريف..
الأسوة الحسنة و الطريق نحو التكامل الانساني
|
*محمد حسن آل يوسف
لقد خلق الله سبحانه وتعالى الانسان ليكون اشرف واكمل واسمى مخلوقاته على هذه البسيطة، بل من اجل ان يستضيفه الى دار الخلد والنعيم.. الى الجنة، ومن اجل ذلك سخر له كافة الكائنات والمخلوقات الأخرى، حتى جعل الملائكة التي نُزِّهت من كافة الفواحش والذنوب في خدمة هذا الانسان، بل فوض الله تعالى الانسان قيادة وخلافة الارض ما لم يفوض أياً من مخلوقاته: "إِنِّي جَاعِلٌ فِي الاَرْضِ خَلِيفَةً" (البقرة /30)، لكن ما هو السبب وراء ذلك؟ هل لان هذا الانسان اضخم واكبر حجما وطولا من هذه الجبال والبحار والكواكب والمعادن و ..؟ كلا .
ان الله سبحانه فعل ذلك بعد ما زود الانسان بنور العقل وقوة الارادة، ومنحه قدرة الاختيار والانتخاب؛ ان شاء اختار سبيل الهدى، وان شاء اختار طريق الضلال: "إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً" (الانسان: 3). لذا حينما يتجاوز هذا الانسان بارادته العقبة ويقتحمها ويتسامى، فانه يستحق العظمة، ولذلك يباهي ربنا به ملائكته.. وما ادراك ما الملائكة! ان بايديهم ادارة حركة الرياح والشمس والارض والسحاب بتوكيل وبقدرة الباري عز وجل، بالرغم من ذلك فان الله يُجل شأن عبده الانسان ويفضله على ملائكته.
بلى... ان هذا العبد الذي ارتخت جوارحه في جوف الليل، وفي الليلة الشتائية الباردة التي سكنت فيها الانفاس وهام ظلام الليل على أهله، وهو يرقد على فراشه الوثير، ثم تدغدغه ساعة السمو والعروج المعنوي نحو السماء، فينتزع نفسه قبل اذان الفجر من ذلك الفراش ليتوضأ، ثم ليستقبل القبلة ليصلي نافلة الليل المسنونة، مناجياً المولى القوي العزيز ويطلب منه العون والقرب والكمال... انه يركع ويسجد ويخشع قلبه خوفاً من غضب الله، في الوقت نفسه يرجو ثوابه وجزيل آلائه... هذا الانسان لايحق للملائكة ان تشكو الله تفضيله عليها، وذلك لان هذا الانسان المؤمن قد استجمع كافة عوامل الضعف في وجوده المادي وجسده النحيف، الا انه قوي بارادته. فلهذا يقتحم كافة عقبات الضعف والهوان المادي بتوكله على الله القوي العزيز ليدخل في حصن الرب، ورياض الرحمة الربانية.
سباق التكامل
ان الملائكة لم تعان من عوامل الضعف والهوى، حتى تتسلق مدارج الكمال والرقي والقرب الالهي خطوةً خطوة، بينما الانسان يصارع بارادته كل يوم، بل كل لحظة، كافة عوامل الضعف الموضوعة امام مسيرته في هذه الحياة كيما يحرز على قصب السبق رجاءً وطمعاً في رحمة الله اللامتناهية.
اذن؛ قصة مسيرة الانسان على وجه هذا الكوكب، هي قصة صراع الارادة وسباق التكامل والرقي البشري. وفي هذه المسيرة لابد من وجود بعض القدوات والنماذج الطيبة التي تستدعي الاقتداء بها والوصول الى سلالم الكمالات الانسانية، وذلك لما تتمتع به هذه القدوات من صفات انسانية عالية تستحق التأمل والاعتبار.
ومن هنا تتجلى احد جوانب مهام الانبياء والرسل والأئمة المعصومين عليهم السلام، كيما يكونوا قدوات واقعية وميدانية ونماذج متحركة وحية، وترجماناً لفحوى التعاليم والقيم الالهية امام انظار الناس.
القدوة .. ضرورة
ان الانبياء العظام والقدوات المباركة الأخرى عرفوا قدر حياتهم ووجودهم فتسابقوا صوب نعيم الباري عز وجل، فكانوا ينظرون الى الحياة بوصفها جسر وطريق للوصول الى الجنة، بل كانوا يستشعرون الجنة في الدنيا، وكذلك عذاب النار وهم يعيشون حياة الدنيا.
من هنا يتساءل المرء؛ ما الذي حدى بهؤلاء القدوات العظام الى ان يقضوا كل لحظة من لحظات حياتهم في طاعة وذكر الله سواء في نهارهم او ليلهم؟ لقد كان نهارهم مجالا لهداية الناس ووعظهم وادارتهم، والدفاع عن القيم الالهية والوقوف في وجه الاعداء، وكان ليلهم فسحة طيبة لمراجعة الذات والنفس، والتهجد لله سبحانه. انهم استشعروا لذيد نعيم الجنة ومدارج الآخرة، فأصبحت حياتهم كلها أخروية.
لقد كانوا على يقين بأن ثمن هذا الجسد وهذه الروح هو الجنة، لقد عرفوا عظمة الجنة والخلود فيها، فمن يرغب ان يترك النعيم الخالد في قبالة لذائذ زائلة في الدنيا تتبعها نار جهنم؟
لذا يفترض بنا ان نجعل من حياة كافة انبياء الله والأئمة المعصومين عليهم السلام وخاصة نبينا الاكرم محمد صلى الله عليه وآله قدوة في حياتنا، ونجعل مسيرته خريطة متكاملة امامنا، ونسعى من اجل ان نحذو حذوه ونعمل بهداه، كما فعل الامام أمير المؤمنين عليه السلام في اتباعه الكامل لحياة الرسول صلى الله عليه وآله، فكان يتبعه كما يتبع الفصيل لأمه.
النبي الأكرم خير قدوة
إن الرسول الاكرم صلى الله عليه وآله الذي جعله الباري افضل خلقه، وخاتم انبيائه، واعز خلق من مخلوقاته، حتى قال تعالى في حديث قدسي: (لولاك لما خلقت الأفلاك) نراه يتعب ويُرهق نفسه في جوف الليل رجاءً في الثواب والتقرب إليه. فقد كان صلى الله عليه وآله يقف متهجداً في الليل حتى تتورم قدماه، وكان صلى الله عليه وآله له حبل يتعلق به حتى لايقع من شدة التعب، وإذا جاع يشد حجر المجاعة على بطنه، وهو مالك للمال ولكن ينفقه في سبيل الله.. هذا ناهيك عن عظيم خلقه وشدة حلمه وصبره على اذى قومه .
حقا نتساءل: اذا كان الرسول العظيم يفعل هكذا مع جسده طاعة لله، فماذا سوف يكون حالي وحالك انت ايها المؤمن؟!
ان الإنسان الذي تشغله كل ليلة القنوات الفضائية او مواقع (الإنترنت)، او جلسات السمر واللهو، ثم يهوي بعدها الى فراشه، فانه بالحقيقة يكون خسر جزءاً من عمره، فاليوم بالحقيقة هو مثل الحجرة ضمن أحجار يتشكل منها كيان الانسان، واذا استمر النقصان يبدأ التداعي والسقوط من حفاة الحياة، عندها يدرك الانسان كم كان في غفلة من أمره، لذا جاء في الحديث الشريف: (الناس نيام اذا ماتوا انتبهوا).
ان كثيراً من الناس يشكون من الاحلام المزعجة التي تتعقبهم بالليل.. فهذا يرى الشرطة تطارده، وذاك يحلم بالبيع والشراء والخسارة، وذاك يرى الدائنين يهجمون عليه ليخنقوه! وسبب ذلك يرجع الى ان هؤلاء يعيشون على مدار اليوم هموم المعيشة والدنيا فقط. فلابد ان نجعل للقرآن وتلاوته والصلاة، وذكر الله مساحة تتسع لها اوقاتنا التي تذهب كل يوم دون رجعة. لابد ان نروِّح انفسنا بتلاوة ذكر الله قبل النوم، ولابد ان نعيش الآخرة والموت كل يوم. ان نزور المقابر، ونترقب مصيرنا الذي سوف نؤوب إليه.
لقد كان الامام زين العابدين، ذلك الامام الزاهد العابد، - كما يقول هو عليه السلام- يدرس حياة الرسول صلى الله عليه وآله، بل يحفظ سيرته. فاذا كانت حياة الرسول عامة هي جملة دروس لامامنا السجاد عليه السلام، فكيف لا تكون منهجاً وخريطة عمل لنا جميعاً!
جاءت في كتاب (بحار الانوار) رواية حول كيفية شرب النبي صلى الله عليه وآله للماء، فلقد كان النبي الأكرم يطبق ثلاثين أدباً لدى شربه للماء.. وما هذه الامراض التي تصيب المعدة والكبد والكلية والاثنى عشري وغير ذلك الا بسبب عدم مراعاتنا لآداب الاسلام في الأكل والشرب والنوم و سائر شؤون حياتنا اليومية، ان انحرافاتنا الحياتية تكمن في حدوث الفجوة الفاصلة بيننا وبين رسولنا الاكرم والائمة المعصومين عليهم السلام، فانقطعنا عن فيض نورهم وهداهم، كما ينطفئ المصباح عندما ينقطع التيار الكهربائي عنه.
وعندما تسأل بعض الناس: لماذا لا تقتدون بالرسول الاكرم والأئمة عليهم السلام يجيبك قائلا: لايمكن لنا ان نكون مثلهم، متناسين قوله تعالى: "قُلْ إِنَّمَآ أَنَاْ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ" (الكهف: 110). ثم كيف لايمكن لنا اتباعهم والاقتداء بسيرتهم وقد جعلهم الله لنا أسوة حسنة، وكيف يقول الإمام علي (عليه السلام): (ألا وان لكل مأموم إماماً يقتدي به ويستضيء بنور علمه) ؟
فاذا كنا نبرر عدم الإقتداء بهؤلاء بأن الرسل والائمة عليهم السلام معصومون، فما بالنا بالصديقة زينب، وسيدنا العباس، وعلي الأكبر، والقاسم بن الحسن، وكذلك اصحاب الرسول والأئمة (عليهم السلام) كأبي ذر، والمقداد، وسلمان، وحبيب بن مظاهر الاسدي؟ وماذا نقول في علماء الدين العظام الذين ينتهجون سيرة الحق والتقوى؟ وقس على ذلك الشهداء الابرار الذين ضحوا بأنفسهم الغالية في هذا الطريق المبارك.
شروط الاقتداء
انظروا الى الطريقة الجميلة التي يتحدث عنها ربنا في سورة الاحزاب حيث يبدأ بذكر النبي صلى الله عليه وآله اولاً، ثم ينتهي بذكر المجاهدين والشهداء.. يقول ربنا: "لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ اُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَن كَانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الأَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً" (الأحزاب: 21). أي ان هناك ثلاثة شروط للاقتداء بالرسول حسبما يضعها القرآن الكريم في هذه الآية المباركة: الاول: ان نرجو الله واليوم الآخر ونعتقد بأنه حق وليس بكذب، والثاني: ان هذه الدنيا ليست نهاية حياتنا ومصيرنا، بل هي بداية مسيرتنا الى دار الخلد. والثالث: "وذكر الله كثيراً"؛ بمعنى ان لا نغفل عن ذكر الله سواء في السوق والتجارة، او في ساحة الحرب. ويضرب القرآن مثلا في هذا الصدد فيقول: "وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ اِلآَّ اِيمَاناً وَتَسْلِيماً" (الاحزاب: 22) أي الايمان بالله والتسليم للقيادة الربانية.
ان المؤمنين لا يلومون الرسول على شدة الوطيس وزحمة المشاكل، بل يسارعون الى مساندة القيادة ودعمها. فالذي يريد ان يتقدم يجب ان يعطي ويستقيم. ثم يقول ربنا في نفس السورة المباركة: "مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلا". فالرجل الذي يُرزق الشهادة، والذي يترقب وينتظر الشهادة هما على حد سواء: "لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِن شَآءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ اِنَّ اللَّه كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً".
(1) نهج البلاغة / قصار الحكم - 374
---------------
------------------------------------------------------------
---------------
------------------------------------------------------------
|
|