بين ثقافة الحياة وثقافة الجمود
|
*أنور عزّ الدين
ثقافة الانسان افراز وانعكاس عن أمرين متناقضين؛ فهي من جهة تعكس الواقع الاجتماعي والسياسي والاقتصادي للانسان، ومن جهة اخرى تعبر عن الواقع القيمي والمعنوي والعقلي للبشر. وكما ان الانسان يخضع في حياته لمؤثرات الطبيعة والاقتصاد وعوامل البيئة والظروف السياسية والاوضاع الاجتماعية. فان ثقافته تخضع هي الأخرى لتلك المؤثرات والعوامل.
والثقافة التي تعكس الواقع المعنوي للبشر والمنطلقة من قواعد العقل ومناهج البصيرة و وحي الرسالة، لا تتغير عبر العصور. فهي دين الله الذي انزل على أبي البشر و أول الانبياء، وهي دين الله الذي اختاره للبشرية، وهي بالتالي الاسلام الذي انزل على كل الانبياء والرسل، ولكل البشر عبر جميع العصور. فهي فطرة الانسان وعقله وضميره و وجدانه الذي لايتغير. اما الثقافة التي تعكس الواقع المادي للبشر، وتعبر عن اقتصاده واجتماعه وسياسته، فانها تتغير حسب الظروف. لذا ليست سواء، الثقافة التي هي افراز لواقع الاقطاع والرأسمالية في عالم الاقتصاد، أو الدكتاتورية في عالم السياسة. و الثقافة التي تعكس الوضع الحضاري للانسان، فتلك صورة عن الواقع المتخلف والجامد للبشر، بينما الاسلام يأتي بواقع تقدمي قائم على القيم والعقل والضمير.
بين ثقافة التحضر وثقافة الانحطاط
لو نظرنا الى ثقافة العرب قبل الاسلام، وقارناها مع ثقافتهم بعد مجيء الاسلام وانتشارهم في آفاق الارض، وقيامهم بالفتوحات الهائلة، وبنائهم تلك الحضارة التليدة. لوجدنا انهما كانتا مختلفتين تمام الاختلاف من حيث المضمون والمحتوى. وهكذا الحال بالنسبة الى ثقافة الانسان الاوروبي قبل سبعة قرون فانها تختلف اختلافا واسعا وكبيرا عن ثقافته قبل قرنين، وحتى عن ثقافته في الوقت الحاضر.
ونفس الحكم يمكن ان نصدره على ثقافة الامة الاسلامية قبل ثمانية قرون فانها تتباين عن ثقافتها قبل سبعة قرون، أي قبل وبعد الاجتياح التتري والمغولي للبلاد الاسلامية؛ فالثقافة الاولى كانت ثقافة الحيوية والانطلاق، ثقافة الابداع والبناء، ثقافة التعاون والتلاحم، والعمل والاجتهاد. والثانية كانت ثقافة الارهاق والتقاعس والتدابر، وبالتالي فانها اصبحت تعكس واقعهم المتردّي.
التفسير في ضوء الثقافة
عندما نستخدم مصطلح (الثقافة) فاننا لانقصد الكلمات والتعابير، لانها قد تكون واحدة او متشابهة. بل نقصد مفهوما آخر هو نوعية تلقي الانسان للافكار، وكيفية تفسيره للاحداث. فالفكرة الواحدة تعني عند انسان شيئاً معيناً، بينما تعني عند انسان آخر شيئاً مغايراً. على سبيل المثال فان الحديث المعروف: (اتق شر من احسنت إليه) يُفسر بتفسيرين؛ الاول: يقول ان على الانسان ان يتقي شر الآخرين من خلال الاحسان اليهم؛ اي انك كلما احسنت الى الآخرين اكثر كلما تجنبت اذاهم و شرهم، وضمنت السلامة لنفسك منهم. والتفسير الثاني يقول: انك إذا احسنت الى انسان فان هذا الذي احسنت اليه سوف ينقلب الى عدو يفترسك ويحطمك! فاتق شره بأن لا تحسن إليه. وهكذا الحال بالنسبة الى الآية القرآنية التي تقول: "وَلاَ تُلْقُواْ بِاَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ" (البقرة /195)، والذي يظهر تفسير هذه الآية قوله تعالى في صدرها: "وَأَنْفِقُوْا فِي سَبِيلِ الله..." (البقرة /195) ؛ اي انكم اذا انفقتم في سبيل الله، واعطيتم فحينئذ سوف تتجنبون الهلاك. بينما التفسير الآخر يقول: ان على الانسان ان يجلس في بيته ويتجنب الاخطار، لان الواجب عليه ان يحفظ نفسه من المخاطر، ولا يلقي بنفسه في التهلكات. وإذن؛ فلا يجاهد، ولا يقول كلمة الحق عند سلطان جائر، ولا يحارب احداً لان الدخول في الحرب يعني القاء النفس في التهلكة، كما يعني اقتحام ميدان العمل السياسي والعمل الاجتماعي والاصلاحي و.... بمعنى تعريض النفس للاخطار.
وهكذا تختلف التفاسير في حين ان الكلمة واحدة، ذلك لان تلقي الانسان للكلمة يختلف عن تلقي الآخر؛ فبينما يتلقى حامل الثقافة الحيوية الرسالية كلمة (اتق شر من احسنت اليه) بمضمونها الحضاري، وهي العطاء والإيثار والتضحية والعيش من أجل الآخرين. نرى صاحب الثقافة الجامدة المتخلفة والفردية يفسرها تفسيراً سلبياً على ضوء ثقافته.
ونفس الشيء يمكن ان يقال عن تفسير هذين الفردين للاحداث والمتغيرات، فبينما نرى صاحب الثقافة الحضارية الرسالية يفسر كل حدث بواقعية، ويلقي الضوء على الجوانب الايجابية منه. نجد الآخر يفعل العكس من ذلك تماما، فلا يرى إلا الجوانب السلبية للحدث. فهو يرى العدم ولا يرى الوجود، ولا يرى الملايين من النعم التي تتوافر عليه من الله سبحانه وتعالى، وحتى إذا نقصت شعرة من شعرات رأسه فانه يحول هذا النقصان الى صحراء من الظلمات يعيش داخلها، ويجعل هذا النقص قناة و وسيلة لرؤية كل النواقص الأخرى في الحياة.
من هنا فان الثقافة هي الوعاء الذي يستقبل الافكار، كما يستقبل متغيرات الحياة وحوادثها، ويلونها جميعا بلونه؛ فان كان الوعاء نظيفاً شفافاً، جعل كل تلك الافكار كذلك، وان كان وسخاً مليئاً بالجراثيم فان انظف الافكار ستتحول فيه الى افكار سلبية.
محاولات مشبوهة
ومن المعلوم ان البشرية لا تمتلك عبر تاريخ الثقافات، ثقافة حيوية نقية كالثقافة الاسلامية الموجودة في القرآن الكريم، ومع ذلك فاننا نجد بعض التفاسير تحاول ان تلحق بالقرآن كلمات من شأنها ان تغير مفهومه، ومن أمثلة ذلك ان البعض يفسر قوله تعالى: "وَكَفَى الله الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ" (الاحزاب /25) من خلال اضافة كلمة (شر) الى القتال، في حين ان هذا الشر لا يوجد إلاّ في قلوبهم وافئدتهم وليس في القرآن الكريم.
ومن ديدن هؤلاء انهم يحاولون ان يحولوا الكلمات الرسالية في القرآن الى كلمات رجعية متخلفة من خلال البحث في القرآن عن الآيات التي وردت بشأنها تفاسير مختلفة، والتمسك بها وجعلها شعارا لهم في حياتهم، في حين ان القرآن الحكيم يقول تعالى: "هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ ءَايَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَاُخَرُ مُتَشَابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ" (آل عمران / 7)، ففي قلوب هؤلاء زيغ - انحراف- لان القلب المنحرف لا يرى الحياة مستقيمة، بل يراها منحرفة.
وللاسف، هناك شعوب تعاني التخلف الثقافي رغم انها تعيش اوضاعا جيدة من الناحية الاقتصادية والمادية، والسبب في ذلك انها قد ورثت ثقافة رجعية قشرية متخلفة من الاجيال السابقة، في حين اننا نعيش في هذا العصر وضعاً ثورياً، ويلفنا اعصار التغيير والتطوير، وتبتلعنا زوابع الاحداث الضاغطة، فلا مكان في هذا العالم للجامدين والعاطلين والكسالى.
وهكذا فان الحياة تدفع الانسان للتحرك، ولا تدعه يسكت، ولكننا من جهة اخرى نرى اننا قد ورثنا من اجيالنا السابقة ثقافة السكون والسكوت، بل النعاس والنوم. فهم اموات الاحياء كما يقول الامام علي عليه السلام في كلامٍ له: (... ومنهم تارك لانكار المنكر بلسانه وقلبه ويده، فذلك ميت الاحياء) (1)، ولكن هذه الحياة قد تطورت وتغيرت، ولو كان آباؤنا احياء الآن لغيروا انفسهم وثقافتهم، ولكننا مانزال على ذلك الوضع بسبب تلك الرواسب المتوارثة عبر الاجيال. ونحن علينا ان نتخلص من هذه الرواسب مع الاحتفاظ باصالتنا الموجودة في القرآن الكريم، والاحاديث الشريفة، وفي التاريخ الناصع لبناة الحضارة الاسلامية.
العودة الى الينابيع الاصيلة
من هنا علينا ان ندرس التاريخ متجاوزين اجيال التخلف والمرحلة السوداء المظلمة من حياتنا، ولنعد بانفسنا الى عصر الائمة (عليهم السلام)، ولنراجع سيرة الرسول الاكرم صلى الله عليه وآله وأهل بيته عليهم السلام وسيرة السلف الصالح. فالذي يمتلك القرآن يمتلك هدى ونوراً وضياءً وذكراً وبصيرة، ويكون في غنى عن الافكار المتناقضة الجامدة الممزوجة بالشرك والضلالة.
ان القرآن والسنة الشريفة، وسيرة أهل البيت عليهم السلام و الصديقين في متناول ايدينا، ولكن بعض الشعوب فقيرة عاجزة لان ثقافتها الاصيلة الحيوية الحضارية والتقدمية التي كان يحملها آباؤهم انعدمت بفعل اجيال التخلف. اما نحن فاننا نمتلك هذه الثقافة، ونقف اجلالا لاولئك الذين كتبوا هذه الثقافة بدمائهم، وحافظوا عليها بارواحهم حتى وصلت الينا. وهذه الثقافة هي ثقافتنا الاصيلة، وهي منهجنا وينبوعنا والركن الذي نستند إليه. وإذن؛ فان ثقافة الانسان المؤمن بالله واليوم الآخر تنبع من عقله ووجدانه، ومن رسالة السماء المنزلة عليه من قبل الله سبحانه وتعالى؛ اي من الوحي الالهي الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
وهذه الثقافة لا تتغير، وهي الثقافة الاصيلة، والبصيرة الواضحة. في حين ان هناك ثقافة ماهي إلا افراز لوضع مادي واقتصادي معين يعيشه الفرد، وهذه الثقافة قد تكون مغلوطة، ولكن المشكلة الاساسية ان الثقافة الخاطئة يورثها الآباء للابناء، ومن الصعب على الابناء التخلص منها. لذا علينا ان نعمل من أجل تجديد ثقافة امتنا الاسلامية، وازالة ما علق بها من الشوائب والرواسب والانحرافات نتيجـة تعاقب الاجيال المختلفة، ومرورنا بعصور التخلف والجمــود، وذلك من خلال العودة الى تلك الينابيع الاصيلة والسليمة للثقافة الرسالية.
|
|