في ذكرى استشهاده..
سعيد بن جبير.. البطولة أمام الزيف والطغيان الأموي
|
*ضياء العيداني
الحق أمام الباطل. والحرية أمام الظلم، فإذا ذُكر ظلم يزيد ذُكرت الحرية على يد الحسين عليه السلام، وهكذا بقية الأئمة واصحابهم مقابل ظلم الطغيان الأموي والعباسي، ومن بين من يخلدهم التاريخ المجاهد والتابعي سعيد بن جبير الذي كان من أعلام أصحاب الإمام زين العابدين عليه السلام والذي حطّم جبروت طاغية عصره الحجاج، وكما هو الحال فإن للطغاة منطقهم الشاذ. ولكنهم في غيبة الوعي السليم يرتكبون من الآثام ما لايمكن تصوره بالفعل، غير أنهم يدركون الحقيقة بعد فوات الأوان. وحين لاينفع الندم، ولايبقي أمامه إلا أن يواجه العقاب، وأشد ألوان العقاب هو عقاب السماء.
الظالم والمظلوم في حلقة درس واحدة
نشأ سعيد في الكوفة فكان لها أثرٌ كبيرٌ في صقل شخصيته وتعليمه، ولكن الغموض والعتمة يغطيان سنة ولادته غير اننا نستطيع ان نحدد هذه السنة من النصوص الواردة في سنة مقتله وعمره حين قُتل على يد الحجاج، فقد اتفق جميع المؤرخين على انه قتل سنة 94 للهجرة وله من العمر تسع واربعون سنة ولم يخالف هذا القول سوى السيوطي في (طبقات الحفاظ ج 1 ص 38) فقد ذكر في مقتل سعيد بن جبير انه (قتله الحجاج في شعبان سنة اثنتين وتسعين وهو ابن تسع واربعين سنة)، وهناك رواية تشير الى إنه ولد في خلافة الإمام علي عليه السلام في الكوفة، وقد تلقى العلم في مسجد الكوفة الذي كان يعجّ بطلاب العلم، انتقل الى مكة المكرمة فصحب عبدالله بن عباس فتلقى على يديه العلوم. لقد وجد ابن عباس في سعيد نبوغاً عالياً وقابلية على ادراك الحديث فاقت قابليات غيره ممن قدموا على ابن عباس لطلب العلم، وفي مجلس ابن عباس كان الحجاج يحضر أيضاً لطلب العلم قبل ان يصبح والياً فكانا يجتمعان في حلقة واحدة؛ القاتل والمقتول... الجلّاد والشهيد! وكأن العداء بينهما بدأ منذ ذلك الوقت فقد روى سعيد فقال: (لقد رأيته يزاحمني عند ابن عباس)، ولكن سعيد لم يجد ضالته في العلم حتى التقى بالامام علي بن الحسين زين العابدين فنهل من هذا المنهل العذب العلوم الإلهية فقد تشرف سعيد بصحبة هذا الإمام العالم فلازمه بعد وفاة ابن عباس وانتقال سعيد بن جبير الى المدينة المنورة، وقد أكد ذلك (البرقي) في رجاله ج1 ص8 فقال: (سعيد بن جبير من اصحاب الإمام علي ابن الحسين – ع-) .
علمه العَلَوي
لقد استظل سعيد بظل الشجرة النبوية وتغذى من ثمارها فقام بنشر فضائلها فقد روى المجلسي في بحار الانوار ج 10 ص65 مانصه: (قال الشعبي بعث الي الحجاج ذات ليلة فلما دخلت عليه جيء برجل مقيد بالقيود والاغلال فقال الحجاج هذا شيخ يقول: ان الحسن والحسين (ع) كانا ابني رسول الله (ص) ليأتني بحجة من القرآن الكريم وإلا ضربت عنقه، فطلب منه الشعبي ان يحل قيده فاستجاب فاذا هو سعيد بن جبير، يقول الشعبي: فحزنت وقلت: كيف يجد حجة على ذلك من القرآن؟ فقال له الحجاج إئتني بحجة من القرآن على ما أدّعيت وإلاضربت عنقك فقال له: انتظر فسكت ساعة، ثم قال له مثل ذلك فقال له انتظر حتى قال سعيد: اعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم "وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحاً هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ" ثم سكت، فقال الحجاج اقرأ ما بعده فقرأ: "وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِّنَ الصَّالِحِينَ"، فقال سعيد كيف يكون ها هنا عيسى قال: لانه كان من ذريته قال ان كان عيسى من ذرية ابراهيم ولم يكن له اب بل كان ابن بنته فنسب اليه مع بعده، فالحسن والحسين (ع) أولى ان يُنسبا الى رسول الله مع قربهما منه فأمر له بعشرة آلاف دينار وأمر أن يحمل الى داره.
من كراماته التي أسلم الراهب على أثرها
لقد رأى الأمويون أنهم كلما فعلوا ليطفئوا نوراً لأهل البيت يظهر نورٌ آخر فقد قتلوا ميثماً وعماراً ورشيد الهجري وآخرين ليطفئوا هذا النور ولكنهم فجأة رأوا رجلاً عظيماً عالماً كسعيد بن جبير مدَّاحاً لأهل البيت والعصمة والطهارة، فأخبروا الحجاج الملعون بأن سعيد بن جبير قدم إلى الحج وقد كان حريصاً على قتل كل من يحب أهل البيت، فأمر الحجاج عشرين شخصاً من أتباعه باللحاق به ليأخذوه بعد الحج وعيّن لهم رئيساً وجائزة كبيرة وأقسم أنهم إذا لم يحضروا سعيداً فإن نسائهم ستكون طالقة منهم.
وبينما هم يبحثون عنه وصلوا إلى دير راهب وسألوا الراهب عن سعيد إن كان قد رآه في هذه الأماكن وأعطوه مواصفاته، فقال لهم: نعم لقد رأيت شخصاً بهذه المواصفات ذهب من هذا الطريق، فذهبوا في ذلك الطريق حتى وجدوا سعيداً في الصحراء ساجداً على الأرض يناجي ربه، لدرجة أنهم تأثروا بهذا المنظر، فانتظروه حتى أتم صلاته، ثم تقدموا وسلموا عليه وقالوا له: أجب الحجاج، فقال: لابدّ من ذلك؟ قالوا: لابدّ، فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون.
فعاد معهم حتى وصل إلى دير الراهب، وكان قد حلّ الغروب، فقال الراهب: إن هذه الصحراء خطيرة، وفيها أسدان ولبوة يخرجون عند الغروب في هذه الصحراء، فإذا وجدوا بشراً انقضوا عليه، فادخلوا إلى الدير. فدخلوا إلا سعيد لم يدخل مهما حاولوا معه، فقالوا: هل تريد الهروب؟ قال: لا، ولكن لا أدخل بيت مشرك، فقالوا: ستكون لقمة للأسد فماذا نجيب الحجاج؟ فقال:إن معي ربي يُحرسني، فأخبروا الراهب بالقضية، فقال الراهب: إذن اجعلوا سهامكم في أقواسها حتى إذا هجمت عليه اضربوها.
أراد سعيد أن يصلى في أول المغرب فاقتربت منه اللبوة ولكن سعيداً لم يعتنِ بها ووقف للصلاة دون أدنى خوف، فاحتار الراهب، فصبرت اللبوة حتى أنهى سعيد صلاته، ثم أخذت تمسح رأسها بالتراب أمامه (وهذا الموضوع مُسلَّم به ويذكره المؤرخون السنّة) ثم وبإشارة من سعيد ذهبت اللبوة، وبقي هو مشغولاً في الصلاة نافلة أخرى، فأتى أسد وصنع كما صنعت اللبوة حتى أذّن الصبح وبقيت هذه الوحوش حارسة لسعيد وعند الصباح مسحت بوجهها على الأرض ثم ذهبت وفي الصباح وبعد ان رأى الراهب هذا المنظر اسلم على يد سعيد بن جبير وطلب منه ان يعلمه احكام الاسلام.
استشهاده
والخلاصة أنهم أخدوا سعيداً ووصلوا في الليل فقال: أمهلوني هذه الليلة، فهي آخر ليلة من عمري وقد تذكرت ضغطة القبر ووحشته أريد أن أتدارك من أجل ليلة الغد، فقال أحدهم: لو ذهب من يدينا أين سنجده؟ فقال آخر: لقد عرفنا سعيد، فلم يأكل طوال هذه المدة لقمة من خبزنا، ولم نر منه شيئاً إلا العبادة، فسألوه: هل تعدنا بذلك؟ فقال: أعدكم، وضمنه أحدهم، فأتى سعيد الماء واغتسل وانشغل بالصلاة والمناجاة حتى الصباح، فأتى أول طلوع الفجر إليهم، وأخذوه إلى الحجاج، فقال له الحجاج ما اسمك؟ يريد به أن يهين سعيد بذكر اسمه، فقال: سعيد بن جبير، قال: بل أنت شقي بن كسير، فرد عليه بكل جرأة وشجاعة: بل أمي أعلم باسمي منك، قال شقيت أمك وشقيت أنت! قال له: وهو غير مكترث به: الغيب يعلمه غيرك، قال: لأبدلنك بالدنيا ناراً تلظّى، قال: لو علمت أن ذلك بيدك لاتخذتك إلهاً.
نلاحظ من هذه المواجهة أن سعيداً يرادد الظالم الطاغية بدون أدنى خوف، ولم تجرِ على لسانه كلمة توسل أو عفو أو مطالبة بسماح أو ما شابه ذلك، بل كان كلامه كالصواعق المحرقة قبال كلام الحجاج.
عند ذلك قال الحجاج: فما قولك في محمد؟! قال: نبي الرحمة وإمام الهدى، قال: فما قولك في علي؟! أهو في الجنة أو في النار؟! قال: لو دخلتها عرفت من فيها وعرفت أهلها، وحتى يدين سعيد وتكون له ذريعة في قتله قال له ما رأيك في الخلفاء؟ قال: لست عليهم بوكيل، قال فأيهم أعجبك إليك؟ قال: أرضاهم لخالقي، قال فأيهم أرضى للخالق؟ قال: علم ذلك عند الذي يعلم سرهم ونجواهم، فغضب الحجاج وقال: اختر يا سعيد أي قتلة أقتلك؟! قال: أختر لنفسك يا حجاج، فوالله لا تقتلني قتلة إلا قتلك الله مثلها في الآخرة، قال أتريد أن أعفو عنك؟! قال: إن كان العفو فمن الله، وأما أنت فلا براءة لك ولا عذر، قال الحجاج: اذهبوا به فاقتلوه، فلما خرج ضحك، فأخبر الحجاج بذلك فردّه وقال: ما أضحكك؟! قال: عجبت من جرأتك على الله وحلم الله عليك، فأمر بالنطع فبُسط وقال: اقتلوه! قال سعيد: "وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين"، قال: وجِّهوا به لغير القبلة، قال سعيد: "فأينما تولوا ثمَّ وجه الله"، قال: كبُّوه لوجهه، قال سعيد: "منها خلقناكم وفيها نعيدكم..."، قال الحجاج: اذبحوه، حينها قال سعيد: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وإن محمداً عبده ورسوله خذها مني حتى تلقاني بها يوم القيامة، ثم دعا سعيد فقال: (اللهم لا تسلطه على أحد يقتله بعدي)، وبالفعل استجاب الله دعاء سعيد فقد أبتلي الحجاج بداء بعد خمسة عشر يوماً من قتل سعيد ومات منه، ويقال: إن الحجاج لما حضرته الوفاة كان يغمى عليه ويفيق ويقول: مالي ولسعيد بن جبير؟! وقيل: إنه في مدة مرضه كان إذا نام رأى سعيداً آخذاً بمجامع ثوبه يقول له: يا عدو الله، فيم قتلتني؟! فيستيقظ مذعوراً ويقول مالي ولسعيد بن جبير؟! ويقال: إنه رُأيَ الحجاج في النوم بعد موته، فقيل له ما فعل الله بك، فقال قتلني الله بكل قتيل قتلة، وقتلني بسعيد بن جبير سبعين قتلة.
وهكذا انطوت هذه الصفحة المشرقة لأحد أبطال الرسالة، لتفتح صفحات أخرى لأبطال آخرين يضيئون درب الحق والفضيلة والمبادئ السامية ليعيش الناس الحرية والكرامة والتقدم.
|
|