منهجية الإمام الصادق تجاه السلطة والمجتمع
|
*محمد طاهر محمد
روى المجلسي في (بحار الانوار) ج47 ص18: ان المنصور الدوانيقي كتب الى الإمام الصادق عليه السلام كتاباً يقول فيه: (لمَ لاتغشانا كما تغشانا سائر الناس)؟! فأجابه الإمام: (ما عندنا من الدنيا نخافك عليه ولا عندك من الآخرة ما نرجوك له ولا أنت في نعمة فنهنيك عليها ولا تعدها نقمة فنعزيك بها فلمَ نغشاك)؟! فكتب إليه المنصور ثانية: (تصحبنا لتنصحنا) فأجابه الإمام: (من أراد الدنيا لا ينصحك ومن أراد الآخرة لا يصحبك).
تتجلى في هذين السؤالين وجوابيهما الكثير من الدلالات والمعاني يستطيع القارئ ان يجد في مجالاتها الواسعة حيزاً كبيراً للتأمل والتفكّر ومن ثم الاستنتاج وكشف الستار عن مدى الفجوة العميقة بين ما يطمح اليه السائل وما يصبو اليه المجيب، فالسائل كمن يحاول ان يحصر البحر في زجاجة او يقبض الشمس ليجعلها في حوزته، بينما المجيب يحمل في جنبيه روحاً انقى واسمى من ان تتعلق بشوائب الدنيا وتطمح الى مغرياتها، فقد كان عليه السلام يحمل مبادئ الرسالة العظيمة التي جاء بها جده رسول الله صلى الله عليه وآله و كما حملها من قبله آباؤه الطاهرون وحملها بعده ابناؤه المنتجبون، وهو المكلف بنشر العقيدة السمحاء وتعاليم القرآن الكريم، وقد حاول المنصور ان يعطي الشرعية لحكومته الفاسدة وأن يضفي عليها صبغة دينية الى جانب سلطتها التنفيذية باستدعاء الإمام وضمّه الى وعّاظ السلاطين الذين كانوا يتقّوتون على موائده باستغلال الدين فادانوا له بالطاعة الكاملة بمعصية الله. لقد املت عليه طويته الفاسدة بهذا التفكير، فهو يحاول تقريب الإمام من السلطة للحد من دوره الرسالي والحضاري ولكنه نسي أو تناسى ان الإمام الصادق عليه السلام من نسل اولئك الذين خلقوا لمحاربة الظلم والامر بالمعروف والنهي عن المنكر وهو ليس من نسيج اولئك الذين يغشونه من اصحاب المطامع والمطامح الدنيوية ولا يمكن ان يلين في السير على نهج آبائه الطاهرين في نشر تعاليم الاسلام والاصلاح في الامة. وعليه فقد تبددت كل آمال المنصور و مساعيه أمام هذا الجبل الأشم وأحد الثقلين - كتاب الله والعترة- اللذين لن يفترقا حتى يردا على رسول الله الحوض، فهم - اهل البيت- منذ وجدوا كانوا منهجاً وملهماً للثورات ضد الظلم والجور وهكذا كان دأب الإمام الصادق عليه السلام الذي أسس اعظم مدرسة فكرية في تاريخ الاسلام وكان شعارها محاربة الظالمين. ففي ذك الجو المشحون والمعترك الصاخب الذي يعج بالفتن والظلم كان الإمام الصادق عليه السلام يدعو الى مبادئ الاسلام ويحضّ على التمسك بكتاب الله والعدالة والاصلاح ويرفع صوت رفض بوجه الحكام المستبدين فتمتزج مشاعره بمشاعر المظلومين ويشاركهم في آلامهم وعذاباتهم وقد توسّعت دعوته وانتشر صدى روحانيته لتفعم النفوس والقلوب بأنوار هديه وفيوضات علمه فهفت اليه طلبة العلم ورجال العقيدة من كل الارجاء حتى وصل عدد تلاميذه الى أربعة آلاف كان منهم قادة الفكر الاسلامي وأرباب الثقافة الاسلامية في شتى المجالات.
لقد تميزت هذه المدرسة من بين كل المدارس بخصائص فريدة وطابع خاص ومنهج ثابت لم يتغير وهو استقلالها التام وعدم خضوعها لنظام السلطة. انها ارتبطت بشكل وثيق بمنهج القرآن الكريم وتعاليم الرسول صلى الله عليه وآله، فقد أكّد الإمام الصادق عليه السلام في كل اقواله وافعاله على حرمة التعاون مع الظالمين وعدم الركون إليهم فهو الناطق بالقرآن والداعي الى تطبيق احكامه في العمل: "وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ". (هود /113)
إننا نرى الإمام الصادق عليه السلام قد جعل هذه الآية الكريمة مصداقاً لتعامله مع السلطة الظالمة وعمل بموجبها كما عمل بموجب جميع آيات القرآن بوضع جدار الانفصال التام مع الظالمين. فالإمام والقرآن في مهمة واحدة وهدف واحد، ألا وهو نشر الاسلام وتبليغ دين الله الى الامة، فكان الأمام هو المصدر الحقيقي للتشريع الاسلامي في كل جوانب الحياة ومن هذا الجانب ما اتضح في الكثير من الروايات التي نقلت عنه عليه السلام ومدى انطباقها مع مفهوم الآية الكريمة ومن ذلك قوله عندما سُئل عن وجوه المعاش فقال: (واما وجه الحرام من الولاية فولاية الجائر وولاية ولاته فالعمل لهم والكسب لهم بجهة الولاية لهم حرام، معذّبٌ فاعل ذلك على قليل من فعله أو كثير)، وقوله لاصحابه: (ما أحب ان اعقد لهم - أي الظلمة - عقدة او وكيت وكاءً ولا مبرة بقلم، ان الظلمة واعوان الظلمة يوم القيامة في سرادق من نار حتى يحكم الله بين العباد).
وهناك روايات كثيرة عنه عليه السلام فحواها انه عليه السلام كان ينهى عن المرافعة الى الحكام لان حكمهم لايستقيم مع الشريعة المقدسة كما كان ينهى عن الاخذ من علماء السوء ووعّاظ السلاطين ممن يسايرون الحكام الظلمة فكان عليه السلام يأمر بالابتعاد عنهم ومن ذلك قوله: (الفقهاء أمناء الرسل فأذا رأيتم الفقهاء قد ركبوا الى السلاطين فاتهموهم)، وكان الإمام يسعى من وراء كل ذلك فضلاً عن تطبيقه لمنهج القرآن الكريم الحد من ظلم الناس والكف عن إراقة الدماء والاستبداد بمقدرات الامة.
ومن هنا كان الصراع بين هذه المدرسة النبوية والسلطة الجائرة على أشده وفقا لتناقض الغايات وتباين الاهداف فسخّرت السلطة العباسية كل طاقاتها وامكانياتها لمحو هذه المدرسة روحياً ومعنوياً فمارست كل اساليبها القمعية ومؤامراتها البشعة لتصفية اصحاب الإمام الصادق عليه السلام جسدياً وفكرياً وتشويه عقائدهم وتقليص نشاطهم وعبقرياتهم وانكار علميتهم بالدس والتضليل وشتى الطرق الدنيئة، فسخّروا لذلك وعّاظ السلاطين والعلماء المرتزقة والامثلة في ذلك كثيرة اكثر من ان تحصى، فرموا أولئك الافذاذ العظماء بالبدع والضلالات ولا تزال تلك الاقلام المدسوسة تنفث نفس الحقد الاعمى والبغض لأصحاب هذه المدرسة ولكن هذه المدرسة التي أرسى دعائمها رسول الله وغذاها باب مدينة علمه لا تزال شامخة تغذي العالم الاسلامي بشتى العلوم وتنشر بأشعتها على كل مكان ووقف اقطابها بصلابة وإيمان ونفاذ بصيرة وتحدوا كل الصعاب التي واجهتهم مدافعين عن الحق ومجاهرين الرفض بوجه الباطل واكدّوا على مبدأهم واثبتوا صدق عقيدتهم في السير على منهج الإمام في مناصرة الحق ومقارعة الباطل مهما كانت النتائج وتفانوا في الاضطلاع بأعباء هذه الرسالة المقدسة الى النهاية فكانت لهم اليد الطولى في مقارعة الانحراف السلطوي ومحاربة اهل الالحاد والزندقة ومناظرة أهل العقائد الفاسدة الفرق الشاذة والانكار على السلطة بطرق مختلفة.
كان الإمام يشيد بدور أولئك الابطال في الدفاع عن الاسلام ويظهر للناس اهليتهم وكفاءتهم ويمدهم بالاموال للتجارة في البلاد المختلفة للتوجيه والارشاد والدعوة الى مذهب أهل البيت عليهم السلام، وكان ابرز هؤلاء الاصحاب العظماء ابان بن تغلب وهشام بن الحكم ومحمد بن علي بن النعمان المعروف بـ (مؤمن الطاق)، وغيرهم كما كان عيله السلام يوصيهم بغرر الوصايا ومكارم الاخلاق ومن ذلك قوله عليه السلام: (اوصيكم بتقوى الله وأداء الامانة لمن ائتمنكم وحسن الصحبة لمن صحبتموه وان تكونوا لنا دعاة صامتين)، ولما أثارت هذه الوصية الاستغراب في نفوس اصحابه، إذ كيف يدعون الى الله وهم صامتون فقال عليه السلام: (تعملون بما أمرناكم به من طاعة الله وتعاملون الناس بالصدق والعدل وتؤدون الامانة وتأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر ولا يطلع الناس منكم إلاّ على خير، فاذا رأوا ما انتم عليه علموا فضل ما عندنا فعادوا إليه).
إن وصاياه عليه السلام كلها نماذج رفيعة في مكارم الاخلاق ودروس عميقة لخلق مجتمع مثالي متكامل. وهكذا كان دأبه عليه السلام طيلة عمره الشريف.
|
|