فقه التنمية. . مشروع بقاء
|
*الشيخ حسن البلوشي
تمثل السياسة البنية الفوقية للتفاعل الإنساني في إطار المجتمع، فالعمل السياسي ومؤسسات الدولة السياسية نتيجة طبيعية للحراك الاجتماعي، من هنا عُدّت الممارسة السياسية ذروة النشاط البشري الاجتماعي. فالاستقرار السياسي في دولة ما يعكس مدى الاستقرار الاجتماعي فيه.
في عالمنا العربي ـ الإسلامي ومنذ سقوط الدولة العثمانية التي كانت إطاراً سياسياً لمكونات وتنوعات المجتمع الإسلامي، صار الهاجس السياسي يمثل الأولوية لنشاطات النخبة، خصوصاً أن ذلك السقوط تزامن مع ذروة الطغيان الإستعماري و توّج باختلاق الكيان الصهيوني على أرض فلسطين مما ضاعف شدة وكثافة التركيز السياسي والعسكري.
ويبدو الأمر ملفتاً أن النخب التي قُدِّر لها قيادة وإدارة العالم العربي ـ الإسلامي تنوعت بين اتجاهات اليمين واليسار على مستوى المرجعية الفكرية لكن جميعها في المحصلة وبشكل عام لم تستطع تجاوز الهاجس السياسي ـ العسكري. وهو ما تسبب في تواضع مساهماتها الفكرية في المجالات البعيدة عن الصراع السياسي، ناهيك عن مشاريع التثقيف الاجتماعي والتنمية الاقتصادية.
إذا ما تجاوزنا التجربة الإيرانية؛ فإن الجدير ملاحظته أن من قلب الدولة العثمانية بدأت تجربة جديدة بالظهور، وكللت بالنجاح بعد مسيرة عقدين من الزمن، حيث تبدّل الوعي لدى النخبة هنالك بالبدأ بالعمل النهضوي من أول السلّم لا من أعلاه؛ أي من البنى التحتية وصولاً إلى القمة، وربما ساعد ذلك فشل التجربة العلمانية المسنودة عسكرياً برسم خارطة طريق للتنمية وتطوير المجتمع التركي، وهذا ما حفّز الطاقات للابداع التنموي على صعيد المجتمع والاقتصاد، بدءاً من العمل الخيري الإنساني، و وصولاً إلى مشاريع التنمية الاقتصادية الضخمة، وجعلت تركيا اليوم بلداً يشار اليه بالبنان، بل وتوحي الى اوربا أو لنقل؛ الغرب بشكل عام، بانه لن يتضرر كثيراً اذا لم ينضم الى الاتحاد الاوربي. وبالنتيجة اصبح مشروع الدولة نتيجة طبيعية لعموم هذا النشاط التنموي.
لكن القضية الأهم في المسألة أن هذه التحولات لا يمكن فصلها عن مسيرة الوعي والفكر وتحديد هويته، ليكون القاعدة الأساس الداعم للمسيرة الاجتماعية وتطورها. وهذا ما يمكن ملاحظته في الجدل الدائر في داوئر الفكر بين المفكرين الإسلاميين فيما يخص التطوير الفقهي بشكل خاص، وعموم الفكر والخطاب الإسلامي. وذلك باتجاه رؤية معاصرة للدين، وفقه حيوي للمستجدات.
والواقع أن المسير في اتجاه فقه للتنمية ليس بالأمر السهل؛ لما يتطلبه من جهود فكرية تنصب على مناطق في الفكر الإسلامي لا تزال تعد أرضاً بكراً؛ كمراجعة وتطوير مكانة القرآن الكريم في العملية الفقهية، وتطوير آليات التدبر فيه، يترافق مع ذلك محاولات اكتشاف روح الشريعة وأمهات القيم؛ فضلاً عن دراسة البنى الإستدلالية وآلياتها.
كل هذا يتزامن مع ضرورة الحوار الفعّال مع أطروحات التنمية المقترحة في عالمنا اليوم؛ كبرنامج الأمم المتحدة للتنمية، أو تجارب الدول المتقدمة في الغرب، والدولة النامية في شرق أسيا.
ولكن في المحصلة النهائية يظل تفعيل فقه التنمية وتطويره وإعادة إكتشافه ومن ثمّ تحويله إلى ممارسة يومية للعمل الإسلامي أحد أفضل الخيارات التي يمكنها أن تطور الواقع الفعلي للمسلمين، خصوصاً في ظل الظروف الراهنة. ومن جهة أخرى فإنها تضمن للحركات الإسلامية بقاء فعّاليتها الاجتماعية فيما إذا انتحر مشروع الإسلام السياسي؛ بعبارة: إنه مشروع الأمة وتنميتها لا مشروع السلطة وهيمنتها، تموت الدول ولكن تبقى الأمم بتنميتها.
|
|