عواصف التغيير في البلاد العربية امتداد لرسالة الحسين (عليه السلام) ضد الطغيان والانحراف
|
*أعداد / بشير عباس
ودعنا شعيرة زيارة الأربعين في كربلاء المقدسة، وقد كانت تظاهرة ايمانية كبيرة لعلها الأعظم بعد مراسيم الحج، والتي تجلّت في تقاطر الملايين الى ارض الطف لتجديد الميثاق والعهد مع ربهم ومع أئمتهم لكي يبقوا على صلة وثيقة بالدين ومبادئه وقيمه. واليوم لابد ان نستمد من هذه الشعيرة الالهية بصيرة لكي نعرف ماذا يجري حولنا وماهي البرامج الصحيحة للتعامل مع الاحداث المتسارعة في مختلف البلاد الاسلامية.
درس في التغيير الجماهيري
إن رسالة الامام الحسين عليه السلام هي رسالة الاصلاح والتغيير والبناء الانساني، وهذا ما دفع ليس فقط الملايين من ابناء الشعب العراقي لشدّ الرحال الى كربلاء المقدسة وفي ظل المناخ الشتوي الصعب، إنما وجدنا هذا العام زيادة كبيرة جداً في اعداد الزائرين من شتا بلاد العالم، وحسب الاحصائيات المتوفرة، فان حوالي 300 ألف زائر وصل كربلاء من خارج العراق لزيارة الامام الحسين في أربعينيته، وهذا يؤكد للعالم يوماً بعد آخر الطابع المميز والخاص لقضية الامام الحسين وهي (الرسالية)، حيث تُحيى الاجيال قضيته منذ استشهاده عليه السلام والى يوم القيامة، ولم نشهد أن فترة معينة أو حقبة غاب ذكر الحسين عليه السلام من شعب ما او مجتمع ما طوال القرون الماضية رغم تقلب الظروف وتغير الاحداث.
إن درس عاشوراء يتجلّى اليوم في الاحداث المتلاحقة والمتسارعة في البلاد العربية، حيث نشهد تتابع الانتفاضات الجماهيرية العارمة وهي تطيح برؤوس الحكم، وكانت البداية من تونس الخضراء التي انطلقت الشرارة من المطالبة بالاصلاح والتغيير وما تزال المطالبة قائمة، وبموازاة الاحداث في تونس اندلعت الانتفاضة الجماهيرية في مصر، كما برزت مظاهر احتجاج في الجزائر والاردن وبلاد اخرى.
لنأت بمثال لتقريب الفكرة؛ عندما اندلعت الثورة الفرنسية المعروفة سنة 1789 وأطاحت بالنظام الارستقراطي الذي كان يمثله الملك لويس التاسع عشر و زوجته المستأثرة (أنطوانيت)، حصلت هنالك أحداث دامية، حيث لم تتوقف (المقاصل) عن قطع رؤوس رموز النظام السابق، ثم مرت على فرنسا فترة من الحكم الفردي الجديد تمثل بظهور حاكم يدعى (نابليون) الذي عُرف بمغامراته العسكرية وحروبه في اوربا وغزواته للبلاد العربية والاسلامية. لكن في تلك المرحلة من تاريخ فرنسا كانت هناك وعلى مقربة منها دولة اخرى وهي بريطانيا تنعم بهدوء نسبي، لانهم كانوا يراقبون الاحداث التي تجري في فرنسا ويحاولون ان يعرفوا الرسائل الخفية لتلك الاحداث ويلتقطونها ويستفيدون منها لبلادهم، فاذا كانت هناك حر كة عمالية، يحاولون منح العمال في بلدهم المزيد من الحقوق، او اذا كانت هنالك حركة طلابية يمنحون الطلاب المزيد من الحقوق، وبذلك كانوا يسقون الاحداث دائماً. تقول الحكمة المعروفة: (السعيد من انتفع بتجارب غيره).
وفي كل الاحوال يبقى الانسان باحثاً عن الكرامة ولا يسمح بأي حال من الاحوال أن تهان كرامته حتى ولو بعد حين، وما نشهده عبر وسائل الاعلام من نزول الجماهير بالآلاف الى الشوارع وهم يهتفون بوجه السلطات الحاكمة، يعد تعبيراً صارخاً لما يعيشه الانسان هنالك من إهانة وتجاوز على الكرامة، وتتمثل هذه الكرامة في الحرية وفي الغذاء وفي السكن وفي أمور أخرى تتعلق بشخصية الانسان، ومعروف أن الخبز والعمل معيلتان للكرامة وليس لشيء آخر لان الله تعالى خلق الانسان كريما، يقول تعالى: "ولقد كرمنا بني ادم"، وهذه الكرامة جزء لا يتجزأ من وجود الانسان فلا يمكن للانسان ان يتجاهل كرامته وربما يصبر ليوم او يومين ولفترة قصيرة على سحق كرامته ولكن ليس الى الابد.
الحسين .. رمز الكرامة
ربما يكون مقدراً تزامن اندلاع شرارة الغضب الجماهيري في البلاد العربية مع زيارة الأربعين، ففي تونس أقدم مواطن من الشريحة الفقيرة بإشعال النار بجسده وسط الشارع وأمام أنظار المارة والعالم أجمع ليعلن احتجاجه بهذا الشكل المروع على منعه من التكسّب مع بقية الباعة على الرصيف، علماً ان هذا العلم مرفوض ومحرم من الناحية الشرعية، كما انه غير مقبول من الناحية العقلية والمنطقية، فربما كان بامكان هذا المواطن او غيره مواجهة قوات الشرطة والموت شهيداً على ان يقتل هو نفسه بيده، لكن يبدو تأزم الاوضاع النفسية بلغ حداً ان لا يجد الانسان العربي مخرجاً لاعلان رفضه والانتصار لكرامته سوى هذه الطريقة المروعة.
في مقابل هذه الصورة، عندنا صورة أخرى للانتصار للكرامة الانسانية تمثلت في قوافل السائرين على الاقدام أيام زيارة الاربعين، ربما يكون بين الجموع التي جاءت الى كربلاء من يعيش أزمة مالية أو يشكون من البطالة أو يشكو انقطاع الكهرباء او الماء، لكن لم نسمع شخصاً تحدث عن مشكلة شخصية لديه خلال هذه الزيارة، انما اتفقت كلمة الجميع على إحياء مبادئ النهضة الحسينية وهي مقارعة الظلم ومحاربة الظالم والانتصار للمظلوم، لذا نجد ان أبرز صفة للامام الحسين (ع) هي (يا حسين المظلوم)، ثم نعبّر عن هذه الظلامة في مسألة العطش او القتل والتمثيل والسلب والسبي وغير ذلك من مفردات الظلم والعدوان والتجاوز على الكرامة والحرمات. فالزائرون يوم الاربعين بحثوا عن الكرامة والحرية من خلال المبادئ والقيم التي انتصر لها الامام الحسين عليه السلام، ومن خلال هذه الزيارة وجّهت جماهيرنا ومن كربلاء المقدسة رسالة الامام الحسين عليه السلام الى العالم، ومفادها؛ ان من حق الانسان أن يكون حراً كريماً. ولذا نجد الهاجس الكبير الذي أقضّ مضاجع الحكام في التاريخ الماضي والمعاصر هو اسم (الحسين) وإحياء قضيته العادلة، فهي بحد ذاتها صرخة مدوية بوجه كل مستأثر بالسلطة وبمال المسلمين وكل طاغية منحرف،
من هنا على من يهمه الامر من حاكم او مفكر او اعلامي او عالم دين ان يرهفوا اسماعهم لنداء الكرامة، ويتجنبوا التجاوز على الكرامة الانسانية. ولنا من القرآن الكريم بصائر لهذه الفكرة في قصة (ذي القرنين)، وقد كان ملكاً عادلاً وصالحاً، و ضرب الله تعالى به المثل في القدرة والامكانية الهائلة، لكن القدرة التي اعطاها الله تعالى إياه لم يستخدمها في التسلط والاستئثار بالحكم، ولم تكن بالنسبة له هدفاً إنما وسيلة، لذا يأتي الخطاب الإلهي صريحاً حينما فوض الله الامر اليه: "أما من ظلم فسوف نعذبه" يعني من ظلم فسوف يكون له جزائان؛ جزاء في الدنيا وجزاء في الاخرة.
العدالة وليس شراء الذمم
نريد لبلادنا الاسلامية في كل مكان الاستقرار والتقدم و السلم الاهلي والاجتماعي، ونريد ان تعيش الشعوب الاسلامية في رفاهية ونعيم وهذا ليس من قبيل التمني والحلم، إنما هو ممكن جداً نظراً لما تمتلكه البلاد من الاسلامية من ثروات وقدرات هائلة يحسدها عليه الكثير من بلاد العالم، لكن مشكلتنا في حكامنا الذين يفكرون بكل شيء سوى بحقوق شعوبهم، إنهم يفكرون في تكريس سلطتهم ونفوذهم من خلال استخدام الاموال لشراء الضمائر وافساد الرأي العام عبر المرتزقة والمتزلفين، هذا النمط من الحكام لا يفهمون طبيعة حركة الشعوب، لذا نجدهم يصطدمون باليوم الذي تُنتزع صورهم من أعلى الجدران وتداس بالأحذية كما حصل مع صدام في العراق وابن علي في تونس و... ربما القائمة متواصلة.
ينقل ان آخر حاكم في الاندلس قرر الهرب بعد اشتد الحصار عليه، فقالت له أمه وهي تنظر الى اطنان الذهب التي جمعها: (لو كنت أنفقت نصف هذه الاموال على بلدك لكان الناس يدافعون عنك). من هنا فان الحكمة والعقل يقتضيان انفاق المال على حاجات الناس وحل أزماتهم من سكن وفرص عمل و خدمات عامة، من قبيل الطرق والمواصلات والصحة والتعليم وغيرها، وفي غير هذه الحالة فان المصير لن يكون بافضل مما حصل في تونس او العراق.
إن ما قام به الطاغية صدام وعائلته وافراد عشيرته والمقربون منه تكرر في تونس وهو موجود في سائر البلاد العربية والاسلامية لكن تحت جنح الظلام ولم تسلط عليه الاضواء بعد، فاين الاعتبار والعضة...؟ لقد تصور الكثير ان ما حصل في العراق لن يحصل في أي مكان آخر، لكن الايام أثبتت بعد هذا التصور عن الواقع، فاليوم يلاحق الشعب التونسي رئيسه المخلوع و زوجته لما سرقوه من أمواله، ومما يذكر في وسائل الاعلام فان زوجة الرئيس التونسي كانت تحاول سرقة 1500 كيلوغرام من الذهب بطائرة خاصة، قبل ان يضع الشعب التونسي يده على هذه الثروة المهدورة.
رسالة الى من يهمه الأمر
حينما هتف الامام الحسين عليه السلام عالياً بانه (انما خرجت لطلب الاصلاح...)، تحقق هذا المطلب للامام عليه السلام، لذا نجد الراية التي حملها الامام الحسين لا تزال عالية خفّاقة، ولا تزال منصورة والذين لا يفهمون هذه الحقيقة هم الخاسرون، فأي شعب من الشعوب ينتصر اذا رفع راية الامام الحسين، وهذا هو الشعب العراقي، سجل ملاحم بطولية في عهد النظام البائد عندما كان يصر على الزيارة في مسيرات ر اجلة الى كربلاء من بين البراري والقفار ويتعرضون لملاحقة رجال السلطة ممن كانوا يسمونهم بـ(الامن)، فمن المنتصر اليوم؟!
بعد الانتصار الكبير الذي اوصلته هذه المسيرة العظيمة برسالتها الحضارية الى العالم، فانها اليوم تبعث برسائل جديدة الى المسؤولين في العراق، فهم يتعاملون اليوم مع شعب متميّز ومثابر، ينشد الكرامة ويرفض الظلم، وهو يتصف بالتجلّد وأيضاً بسعة الصدر، ولا ينتفض بسرعة، لكن اذا حصل ان انتفض فمن الصعب السيطرة عليه، الأمر الذي يتوجب على المعنيين تحقيق مطاليبه وخدمته بالشكل المطلوب، وليكون ذلك مواكباً لما يقدمونه خلال الشعائر الحسينية وايام الزيارة في كربلاء المقدسة، من توفير المستلزمات والخدمات، لكن في نفس الوقت عليهم ان يستمعوا الى أنين هذا الشعب وأن يقرأوا ما بين السطور لا أن ينشغلوا بالمنافسة على المناصب والامتيازات، وهذا بحاجة الى أذن واعية.
واليوم فان على جميع الحكام والمسؤولين في سائر البلاد الاسلامية الارتفاع الى مستوى جماهيرنا... هذه الجماهير التي كانت في العراق ترفع راية الامام الحسين عليه السلام خفاقة وتعتمد بعد الله على نفسها دون ان تعتمد على أي شيء آخر، يحق لنا ان نصغي لها، فقد غادر العراق بعد مراسيم زيارة الاربعين حوالي 300 الف زائر من دون أن يشعر بهم أحد من العراقيين، او يشعر بوجود فرق بينه وبين الزائر اللبناني او الايراني او البحراني او الهندي او التركي او حتى القادمين من بلاد الغرب. كانوا يتجولون في شوارع وأزقة كربلاء المقدسة كما لو أنها مدينتهم علماً أنها وجميع المشاهد المقدسة في العراق ملك المسلمين جميعاً، فهؤلاء عليهم أن يحملوا رسالة ايضاً الى بلادهم. ربما نقلت بعض الفضائيات صوراً من مراسيم الزيارة، وبثت الهتافات والشعارات المنطلقة من حناجر المسلمين الموالين من مختلف بقاع العالم، لكنها لم تنقل الروح التي حملها الزائرون.
من هنا اذا عرف العالم قيمة الشعائر الحسينية وقيمة هذه المسيرات الراجلة وهذه الشعارات التي ترفع هنا وهناك، فانه سيتحرر من الظلم والديكتاتورية. إن الشعار المدوّي والمعروف (لبيك يا حسين). ليست كلمة بسيطة يطلقها الشعب العراقي بعد كل هجوم ارهابي، انه يهتف بهذا الشعار في ساحة الانفجارات وهو يحمل جثامين الشهداء المقطعة بفعل جريمة الانفجار بسيارة مفخخة او حزام ناسف، وهذا بمعنى ان الشعب يقول: بتوفيق الله ترفعنا على الدنيا وما فيها، ولا تخيفنا هذه الانفجارات والاستفزازات الرخيصة. هذا التحدي والصمود والصرخة المدوية بوجه الظلم والطغيان لابد ان يؤتي ثماره، كما حصل في تونس ويحصل في مصر وسائر البلاد الاسلامية، فهذا هو طريق الامام الحسين عليه السلام، إذن، كل صوت يطالب بالحق لابد وأن ينتصر.
إن طريق الامام الحسين هو طريق التضحية من اجل حياة الاخرين وسعادتهم، وابرز هتاف له عليه السلام، (هيهات منا الذلة). هذه الكلمة لا تزال تدوي ليس في اجواء كربلاء المقدسة وانما في اجواء البلاد الاسلامية كافة. هذه الرسالة شاؤوا أم أبوا سوف تنتشر في العالم ان شاء الله، وكل سنة نشهد ازدياد اعداد الزائرين من كل مكان، وهي يحملون رسالة التغيير والاصلاح ويجب ان ينتبه المسؤولون في كل مكان لهذه الرسالة و يدرسونها بدقة متناهية، وإلا فان العاصفة العظمى التي انطلقت من كربلاء المقدسة ستمحوهم من الوجود.
|
|