الاختراق الثقافي تحت المجهر
|
*أنور عزّ الدين
ما تزال ساحتنا الاسلامية تعاني الضبابية في الرؤية الثقافية والسطحية في الفكر والعقيدة بسبب وجود شريحة ثقافية خلقت توجهاً التقاطياً بعيداً كل البعد عن الهوية الاصيلة للمجتمع الاسلامي. ونشهد اليوم تكريساً وترويجاً لهذه الثقافية بفضل شبكة المعلومات العالمية (انترنت) والقنوات الفضائية، وهاتان الوسيلتان حلّت الى حدٍ كبير محل وسائل الاعلام التقليدية القديمة مثل الصحف والمجلات والدوريات الفكرية والثقاية بل وحتى الكتب والمؤلفات.
والمشكلة ان هذه الشريحة تظن وتريد فرض هذا الظن على الواقع، ان بامكانها صنع اسلام جديد من وحي ظروفها وحسب آرائها وتصوراتها. واذا عدنا الى الخلف قليلاً وجدنا الاخفاق تلو الاخفاق في هذه المسيرة، فذاك (ميشيل عفلق) - على سبيل المثال لا الحصر- الذي يقال انه مؤسس حزب البعث، اراد ان يأتي باسلام جديد الى البلاد الاسلامية وتحديداً بلاد المشرق العربي، علماً انه الطالب السوري – المسيحي الذي كان يدرس في فرنسا في عقد الاربعينات، فقال ان الاسلام انما هو رسالة العرب وانعكاس للوضع الاجتماعي والحضاري لسكان مدينة مكة وليس رسالة من السماء الى البشرية جمعاء، كما يبلغ اصدقاؤه المسيحيون ذلك للعالم. وبذلك أراد ان يصنع مزيجاً من الاسلام و رسالته المقدسة، ومن فكرة القومية التي ولدت في اوربا وتعلمها من المفكرين الفرنسيين، فصاغ بذلك ايديولوجية (البعث) التي عانت منها امتنا الاسلامية وماتزال.
وحصل الشيء نفسه في الهند و تركيا والبلاد العربية حيث ظهرت محاولات مماثلة من كتاب وأدباء ومفكرين عرب لبسوا العباءة العربية والقلنسوة تجسيداً للزي الاسلامي فيما لبسوا تحته البدلة الكاملة (الجاكيت والبنطال مع ربطة العنق)! هذا في المظهر، أما في الجوهر فقد أوجدوا خلطة فكرية بين بعض التعاليم والمفاهيم الدينية وبين القناعات والتصورات الخاصة بهم. وحصل هذا ايضاً في إيران في الايام الاولى من انتصار الثورة الاسلامية على نظام حكم الشاه، فحاول البعض من لبسوا مسوح الدين واظهروا تبني بعض المفاهيم الاسلامية، ان يصنعوا اسلاماً خاصاً بهم لا صلة له بالاسلام الذي جاء به الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وانطلق به من المدينة المنورة الى العالم، ولا علاقة له بنهج الأئمة المعصومين، وقالوا بـ (القراءة الجديدة للدين)!
كل ذلك تسبب في وجود حالة القشرية في الايمان والسطحية في الوعي والضبابية في الرؤية، في حين بقي الدين ومنظومته القيمية والتشريعية طي الكتب يهفو عليها التراب.
السؤال الكبير...!
لماذا حصل هذا الانحراف؟
انه سؤال كبير وعريض له طابع العمومية لكن من شأنه ان يضع النقاط على الحروف، ويساعدنا على رؤية الخيط الابيض من الاسود، وينقلنا الى شاطئ الامان.
قبل هذا؛ نشير الى حقيقة غاية في الاهمية، وهي ان الجماعات او الاشخاص الذين ابدعوا في الفكر والثقافة الجديدة إنما حملوا مشكلتهم معهم من البداية، أي ليس بوسعهم اتهام المجتمع او التاريخ او الظروف أو شيء آخر بانه ألزمهم بسلوك هذا الطريق والمنهج، وهنالك أدلة كثيرة على ذلك، ليس اقلها واقواها وقوفهم المستميت للدفاع عن هذه الافكار ضد كل من يناقشهم ويحاججهم حتى وإن كانت حجته دامغة ومنطقية. لنأت على الاجابة... هنالك جملة اسباب ادت الى حصول هذا الانحراف الكبير عن الفكر الاسلامي الاصيل، ابرزها سببان :
السبب الأول:
ان أية منظمة او حزب او تجمع انما هو قناة لاستيعاب الجو الثقاقي السائد في المجتمع وصهره في بوتقة الافكار التي يحملها لتأخذ بلون وسلوك ومنهج ذلك الحزب او الجماعة. وبالرغم من انها جاءت بهذه الافكار من الخارج وليس من صلب المجتمع وتاريخه وهويته، فانهم نجحوا الى حدٍ بعيد في تسويق بضاعتهم (المزجاة)، كما نجحوا في تغييب الاسلام القائم على محور الايمان بالغيب، والايمان بارادة الانسان المستلهمة من ارادة الله تعالى وغيرها من القيم والمبادئ السامية. وقد ساعدهم في ذلك ضعف الثقافة الدينية لدى القاعدة الحركية لتلك الجماعة وتحديداً الشباب الذين عادةً ما يكونوا الخشبة التي تصعد عليها الاحزاب ذات الافكار الوافدة والدخيلة، فهؤلاء لم يقرأوا القرآن الكريم إنما سمعوا شيئاً منه من أمهاتهم وجداتهم، ولم يفهموا من الاسلام إلا القليل، وهنا حشد الاستعمار نفسه و وضع برامج ذكية تهدف الى فصل الانسان المسلم عن ثقافته بشتى الاساليب، وقد توّج هذا البرنامج بكتابة المناهج الدراسية في البلاد الاسلامية على أساس فكري وثقافي بعيد عن القرآن الكريم وتفسيره الصحيح، وايضاً عن التأريخ الصحيح، وعن الرؤية السليمة الى الدين عموماً، حتى اصبح على الشاب الجامعي ومن اجل ان يثبث علميته و(شخصيته الاكاديمية) أن يتخلى مثلاً عن الصلاة داخل الجامعة او يطلق اللحية في وجهه او ان ترتدي الطالبة الحجاب كما تقوم بذلك كل إمرأة عندما تخرج خارج البيت.
السبب الثاني:
ان أية منظمة او حركة او حزب يدخل في ساحة اجتماعية لابد ان يبحث عن قاعدة يتكىء عليها، وكلما كانت هذه القاعدة عريضة وواسعة، كان عملهم أسهل ومستقبلهم أضمن في هذه الساحة، وبما ان مجتمعاتنا لم تر من الاسلام ما يحقق لها العدل والحرية ويحل لهم المشاكل والازمات التي يعيشونها، وبوجود هكذا واقع مرير تشجعت الاحزاب على ايجاد بديل (اسلاموي) على عجل ليسد الفراغ وليشعر الناس بالاطمئنان نفسياً على انهم يحملون الهوية ا لاسلامية في الجنسية ولا بأس عليهم!
عالم الدين. . الحضور
لا ينبغي بأي حال من الاحوال ان نلوم العلمانيين في العالمين العربي والاسلامي لأنهم طرحوا افكارهم وقناعاتهم، لأن لو كان عندنا علماء دين لهم معرفة عميقة بجوهر الاسلام، وشريحة تحمل الثقافة الدينية الاصيلة، لما كانت ثمة تنظيمات او جماعات يتجرؤون على طرح ايديولوجياتهم وافكارهم، بل كانوا على الاقل يكونون بمنزلة صمام أمان لاذهان المجتمع لاسيما شريحة الشباب، ولا يدعوها نهباً للافكار المنحرفة والسلوكيات الخاطئة كاملة. لذا يكون وجود علماء الدين وبهذا المستوى امتداداً لوجود الامام المعصوم في عصره، وقد أمرنا الائمة الاطهار عليهم السلام ان نعود اليهم، ولا يهم ما اذا كان عالم الدين هذا شخصية معروفة أم مجهولة، ربما هنالك ممن يحظون بالشهرة والصورة الكبيرة لكنهم دون محتوى، لذا وجود هذا العالم ضروري شريطة ان يكون متصفا بالصفات التالية :
1 - فهم الاسلام فهما عميقا من خلال درك جوهر هذا الدين الحنيف، وقيمه وتاريخه وكتابه وسنته.
2 – الانتماء الى أوساط الجماهير، لان الانتماء الجماهيري يضمن له الاستمراية والنجاح، أما الذين يعتزلون الجماهير ويعتقدون ان الجماهير لاتفهم شيئاً، أو انها دون المستوى المطلوب لطرح الافكار والمفاهيم الاسلامية، فانهم بالحقيقة يضعون العصا بايديهم في عجلة التقدم نحو اهداف الرسالة المحمدية، نعم... ربما يحققون بعض اهدافهم الخاصة او يثبتون مواقف و آراء لهم في الساحة، لكنها تبقى نقاط صغيرة وسط السواد الأعظم من الافكار والمتصارعة في الساحة.
وبالحقيقة فان الحركة الناجحة هي تلك التي تنبع من الجماهير، وتتخذ منها قاعدة للانطلاق، وهذا ما فعله الانبياء عليهم السلام في حركاتهم التغييرية من أجل تحقيق الاهداف الالهية، فهم انما بعثوا الى الناس لتكون حركة التكامل الانسانية في نسق واحد، وطالما أكد القرآن الكريم على هذه الحقيقة في اكثر من آية كريمة منها : "كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ" (البقرة /151)، و الآية الكريمة: "َقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ" (آل عمران /164)
من هنا فان الدعوة موجهة للجميع دون استثناء وكلٌ من موقعه ومقدرته ان يتوجه نحو الفكر الاسلامي الاصيل البعيد عن الرؤية المادية والقريب عن روح وجوهر الاسلام، ليجد الاسلام الحقيقي الذي كان على عهد الرسول الأكرم وأمير المؤمنين صلوات الله عليهم، وان تكون الحياة اليوم وحتى المستقبل والى يوم القيامة امتداداً للحياة التي عاشها المسلمون الأوائل في فجر الحضارة الاسلامية حيث دفء الامان والاستقرار على كل الصعد الاجتماعية والاقتصادية والفكرية و.... السعادة الحقيقية.
|
|