الدعاء في القرآن الكريم
|
"تَضَرُّعاً وَ خُفْيَةً"
*صادق الحسيني
الدعاء المستجاب ليس ذلك الدعاء الذي لا يغير شخص الداعي وسلوكه و صفاته بل و منهج تفكيره، انما ذلك الدعاء الذي يستكمل الانسان شروطه في نفسه و يكون الدعاء أداة لتغيير النفس، و ربما يكون ذكر القرآن لصفات الداعين بل و أمره للدعاء بصورة معينة لهذا السبب، حيث بذكر هذه الصفات يسعى الانسان من اجل تكريس هذه القيم في نفسه و منها (التضرّع) و (الخُفية). يقول ربنا تعالى: "ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَ خُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدينَ" (الاعراف /55). و يقول تعالى: "وَاذْكُرْ رَبَّكَ في نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَ خيفَةً وَ دُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَ الْآصالِ وَ لا تَكُنْ مِنَ الْغافِلينَ" (الاعراف /205).
فماذا يعني التضرّع ؟
إنه يعني أنّ يكون الدعاء من أجل خروج الانسان من غلظة الانانية الى رقة الضراعة و من فقر الاستكبار و ذل المعصية الى غنى العبادة و عزّ الطاعة، فالانسان يولد - كما زبر الحديد- مادة خاماً بحاجة الى صقل، و الدعاء هو ذلك المبرد الذي يصقل النفس الإنسانية لأن الدعاء يولّد في القلب احساساً بالنقص و ثقة بإمكان التغلب عليه و الدعاء يعرف الفرد بمواطن ضعفه وضرورة ازالتها، و الدعاء يجعل الفرد واقعياً، لذلك هو أفضل وسيلة لكبح شهوة الأعتداء على الآخرين و البطش بهم فالدعاء بتضرع علاج لداء الاستكبار و مرض الفخر و العزة بالإثم.
و كلمة (التضرع) في اللغة تعود الى جزء الضرع في الحيوان، فمن يريد استدرار اللبن من الشاة او البقرة عليه ان يحرك اصابعه على محالب الضرع، وهذه الحركةالدؤوبة والمتواصلة تسمى (التضرّع)، وتم استعارتها لحالة الدعاء المستمر الى الله تعالى لنيل رضاه وعفوه.
وحينما تنعكس روح الدعاء في أعماق الانسان يقبل على الله بمنتهى الخضوع و الخشوع و التواضع وانما يقبل بكل وجوده فاللسان ترجمان بقية جوارحه. و تحصل هذه الحالة العرفانية ايضاً حينما تنقطع الوسائل و تغلق الابواب امام المرء ليلتجأ الى الله تعالى يقول ربنا عزوجل: "قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَ خُفْيَةً لَئِنْ أَنْجانا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرينَ" (الانعام/ 63).
و هكذا يتوجه الانسان بكل وجوده و يحس هناك بعجزه و فقره و حاجته الى الله الكبير المتعال. ثم ان الآية الكريمة تذكر لنا صفة اخرى الا وهي (الخُفية) و هي صفة اخرى ينبغي على الانسان ان يرسخها في نفسه.
فكما صدقة السر و الصلاة الخالية من الرياء و الزكاة المنقاة من التباهي و الاعمال العبادية الاخرى كذلك الدعاء قد يكون خُفية بأن يدعو الله في السر وهي أبعد من الرياء و اقرب الى الاخلاص. و حينما سأل النبي موسى (ع) ربنا قائلاً: (أبعيد فاناديك ام قريب فانجايك؟) اجابه الرب تعالى :اني قريب... بل وانه سبحانه "اقرب الينا من حبل الوريد".
و في حديث أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لما كان في إحدى غزواته، و بلغ جنود الإسلام إلى واد رفعوا أصواتهم بالتهليل و التكبير قائلين: (لا إله إلّا اللّه) و (اللّه أكبر) فقال النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: (يا أيّها الناس اربعوا على أنفسكم، أمّا إنّكم لا تدعون أصمّا و لا غائبا، إنّكم تدعون سميعا قريبا، إنّه معكم).
و لأجل أن يكون الدعاء مقرونا بتمركز الفكر و حضور القلب أمرنا الرب تعالى بالخفية، وهذا لا يعني عدم رفع الصوت بالدعاء إنما أن يكون لكل مقام مقال ولكل موقف ما يقتضيه من الآداب و التي تقرب الانسان الى الرب تعالى .
و اخيراً نستهلم من الآيات المباركات درساً في آداب الدعاء من قوله تعالى (تضرعاً) حيث ان المرء ينبغي عليه أن يكون بحالة جسدية و تهيؤ تام لجميع جوارحه لكي يدعو الله بكل وجوده و يتضرع اليه عزوجل في قضاء حاجته .
|
|