المجالس الحسينية في البيوت.. وإحياء جذوة المعارضة للظلم
|
ياسين عبد الصمد
لم تبق مجالس العزاء وذكر مصاب الإمام الحسين وأهل بيته (عليهم السلام) في إطار المناسبة التي تمر على الناس كل عام، إنما تحولت الى ثقافة يومية ومسؤولية إيمانية يحملها من تشبعت نفسه حبّ أهل البيت وتعمق في وجدانه الولاء الخالص لهم (صلوات الله عليهم).
فقد كان الأئمة المعصومون (عليهم السلام) ومن بعدهم علماء الدين يشجّعون ويحثّون الناس على إقامة هذه المجالس وعدّها من شعائر الله لمّا تحمله من ذكر المصاب الجلل وتقوم به من دور في إحياء ثقافة عاشوراء، فكانوا يقيمون مثل هذه المجالس بأنفسهم. قال الإمام الباقر (عليه السلام) بشأن إقامة مجالس العزاء على الإمام الحسين (عليه السلام) في البيوت: (ثم ليندب الحسين ويبكيه ويأمر من في داره بالبكاء عليه ويقيم عليه في داره مصيبته بإظهار الجزع عليه ويتلاقون بالبكاء بعضهم بعضاً في البيوت وليعزِّ بعضهم بعضاً بمصاب الحسين). (تاريخ النياحة على الإمام الشهيد، للسيّد صالح الشهرستاني).
لقد تحولت سنّة العزاء بما تنطوي عليه من محبّة وولاء للإمام الحسين (عليه السلام)، إلى ممارسة شعبية واسعة ومقدسة لا زوال لها ولا وهن يعتريها، وبفضلها تتعرف فئات واسعة من المجتمع على شخصية سيّد الشهداء (عليه السلام) وعلى ثقافة عاشوراء وعلى الدين أيضاً.
مرّت على شعيرة إقامة المآتم ظروف متباينة، وكلما أصبح الشيعة على قدر من القوّة أو صار أمر الحكم بيدهم عملوا على إشاعة هذه الشعائر، ففي زمن حكم البويهيّين في العراق، صار الشيعة يقيمون المآتم في ذكرى مصاب سيّد الشهداء، فقد أمر معز الدولة البويهي أهل بغداد بإقامة المأتم على الحسين (عليه السلام) وأمر بغلق الأبواب وعلّقت عليها الاعلام السود، ومنع الطباخون من بيع الأطعمة، واستمرت هذه الشعائر جارية حتى بداية سلطة الدولة السلجوقية، وبقيت هذه السنّه قائمة في جميع البلدان التي خضعت لسلطانهم إلى أن سقطت دولتهم. (الكشكول للبحراني/ 269:1).
وفي فترة قيام أنظمة حكم جائرة مماثلة لنظام يحكم يزيد بن معاوية، أخذت الشعائر الحسينية ومنها مجالس الذكر طابع المواجهة والتحدي للظلم ورسالة لنصرة المظلومين. وكان البكاء على الحسين يثير في النفوس الدعوة إلى العدالة والانتقام من الظلمة والتمهيد لتكاتف القوى السائرة على نهج الحسين للدفاع عن الحقّ، بل تحولت إقامة المآتم على الإمام الحسين الى دعوة لثقافة الشهادة للأجيال القادمة، وفي كتابه (الانتفاضات الإسلامية في القرن الأخير) عبّر الشهيد الشيخ مرتضى المطهري – أغتيل عام 1979 وبعد أشهر معدودة من انتصار الثورة الاسلامية في ايران- يعبر عن هذا المعنى بالقول: (في عهد حكم يزيد الجائر كانت المشاركة في مظاهر البكاء على الشهداء نوعاً من إعلاناً الانتماء إلى فئة الحق، وإعلان للحرب على فريق الباطل، ويعكس في الحقيقة نوعاً من التفاني والإيثار. وهنا تتبلور مآتم الحسين على شكل حركة، وتيار، ومجابهة اجتماعية).
وفي المآتم تتخذ العاطفة والحماسة شكل المعرفة والشعور، ويبقى الإيمان حياً في قلوب الموالين لأهل البيت. وتحافظ مدرسة عاشوراء على دورها في كونها فكراً بناءً وحادثة تستلهم منها الدروس. لذا كانت المآتم إحياء لمنهج الدم والشهادة، وإيصال صوت مظلومية أهل البيت إلى أسماع الأجيال، والمشاركون في المآتم كأنهم فراشات متعطشة إلى النور وقد عثرت على الشمع الذي تزين به محافلها، وارتدت ثوب المحبّة من أشعة نور الشموع وغدت على استعداد للفداء والتضحية.
وللمآتم دور مهم في الحفاظ على ثقافة عاشوراء. وهي تنقل أقوى الصلات عن طريق مزج العقل والمحبّة والبرهان والعاطفة الذي تجسد في كربلاء. وفيها البكاء على مظلومية الإمام ومن خلالها أيضاً يفهم هدف الإمام من ثورته. فالمآتم التي تقام في البيوت، ومواكب العزاء، وهيئات الضرب بالسلاسل، وارتداء السواد، ورفع الرايات وتوزيع الماء والأطعمة والعمل على إقامة مجالس الرثاء والبكاء تمثل في حقيقتها نوعاً من تجنيد طاقات الأمة في خندق الجبهة الحسينية لمواجهة كل ما يتصل بالظلم والطغيان والانحراف عن طريق الدين.
|
|