الإمام الحسن (ع) في ذكرى استشهاده..
|
المظلومية في الحياة وعلى صعيد التاريخ
*أنور عز الدين
عندما اتصفح سيرة حياة الإمام الحسن المجتبى (صلوات الله عليه)، أجد صعوبة بالغة في تناول حياة هذا الإمام المظلوم، لأن الأسى والشجن لا يهيج في حادث استشهاده كما هو الحال بالنسبة لأخيه الامام الحسين (صلوات الله عليه) والذي أحياة الملايين من المؤمنين ذكرى استشهاده يوم عاشوراء وذكرى الأربعين قبل أيام، إنما يدور الشجن والأسى بالحقيقة في طيّات حياة هذا الإمام العظيم، ومنشأ هذا الشجن هو التاريخ الذي طالما ظلم العظماء والمضحون والمخلصون، فالامام الحسن بن علي بن أبي طالب، وهو سبط الرسول الأكرم، رغم ان حياته حافلة بالمواجهة والتصدي للباطل والظلم و رحل شهيد الحق والمبادئ السماوية، لكن نقرأ ويقرأ الكثير بانه الامام (المسالم) والبعيد عن المواجهة والصراع، والأنكى من ذلك، ما ألصق بإمامنا بتهم وافتراءات بانه حياته كانت تدور حول البيوت والزوجات والجواري، ويخيل إليّ إن الأيدي التي كتبت تلك المرويات المزيفة أرادت بقصد ومع سبق الاصرار، التقليل من شأن المفاسد والميوعة التي اتصف بها الحكام الأمويون خلال فترة حكمهم، وعدّها مسألة عادية، إذ هناك من كان يجاريهم في هذا السلوك، وحاشى إمامنا وهو سيد شباب أهل الجنة من أن يقضي حياته الكريمة حتى ولو لحظة واحدة بغير طلب مرضاة الله تعالى وليس مرضاة النفس.
* في عهد أبيه أمير المؤمنين
برزت شخصية الامام الحسن المجتبى (عليه السلام) في عهد أبيه أمير المؤمنين (عليه السلام)، عندما عاد الحق الى أهله، وكادت الأمة أن ترتقي أسباب التقدم الحضاري، لولا الفتن التي لاقت النفوس الضعيفة واصحاب الإيمان المهزوز، لكن إمامنا أثبت أنه صاحب صولة وجولة في كل خطوة يرفعها أبوه أمير المؤمنين (عليه السلام)، فقد شارك في حرب الناكثين المعروفة بـ (حرب الجمل)، وهي الحرب التي استَعَرت إثر تمرّد طلحة والزبير في البصرة، ورفعهما السلاح بوجه أمير المؤمنين (عليه السلام)، بعد أن أعماها الطمع بالحكم، وقد تمثَّل دور الإمام الحسن (عليه السلام) بأمرين أساسيين :
الأمر الأول: لما توجَّه أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى (ذِي قَار) ونزلَها، أرسَلَ ابنه الحسنَ (عليه السلام) إلى الكوفة مع عَمَّار بن ياسر وزيد بن صوحان وقيس بن سعد لِيستَنفروا أهلها لمساعدته على طلحة والزبير، وكان قد أرسل (عليه السلام) قبلهم وفداً، فعارضَهم أبو موسى، ولم يستجب لطلب أمير المؤمنين (عليه السلام)!
وأخيراً استجاب أهل الكوفة لنداء الإمام الحسن (عليه السلام)، وخرج معه إلى البصرة اثنا عشر ألفاً، وكان أمير المؤمنين (عليه السلام) قد أخبر بعددهم وهو في (ذي قار )، كما جاء في الرواية.
الأمر الثاني: شارك الإمام الحسن (عليه السلام) في حرب الجمل إلى جنب أمير المؤمنين (عليه السلام)، وحمل رايته وانتصر بها على الناكثين، وهذا ما أجمع عليه المؤرخون.
ويذكر لنا التاريخ مواقف لإمامنا الحسن المجتبى في حرب القاسطين المعروفة بـ (حَرب صِفين)، وهي حرب البغاة في الشام بقيادة معاوية بن أبي سفيان، الذي كان ينادي كذباً و زوراً بالثأر لدم عثمان الذي سقط ضحية استئثار الأمويين من أمثال معاوية، ببيت مال المسلمين وإيغالهم في الانحراف والطغيان.
وعندما سُئل أمير المؤمنين عن سبب إرسال محمد بن الحنفية في أتون المعركة في (صفين)، والاحتفاظ بالحسن والحسين عنده قال: إن محمد عيني التي أرى بهما العدو، والحسنان يداي التي أضرب بهما...
وهذا ما كان، فقد شهدت (صفين) معركة طاحنة بين جيش الحق بقيادة أمير المؤمنين وجيش الباطل بقيادة معاوية، أشرس المعارك في صدر الاسلام والتي أبتلي بها المسلمون، فسقط الالاف من القتلى من الطرفين، ولولا الخذلان وسوء البصيرة لكان كفة الحق راجحة من الناحية العسكرية والمعنوية لما كان يحظى به أمير المؤمنين من ذراعين قويين هما الحسن والحسين (صلوات الله عليهما)، فهما لم يكونا عوناً في سوح ا لقتال وحسب، بل أيضاً لساناً بليغاً للمسلمين بالنهوض ونصرة دين الله، كما حصل في الكوفة وبقية الأمصار التي دخلها إمامنا لتعبئة الناس والالتحاق بجيش الحق ضد جيش الباطل.
هذا يؤكد لنا بان لا مساومة للإمام الحسن (عليه ا لسلام) أمام الباطل، مهما كلّف الثمن، فهو على نهج أبيه أمير المؤمنين (عليه السلام)، لا يحابي الباطل تحت كرسي الخلافة كما فعله الكثيرون عبر التاريخ وما يزالون، وهو القائل قولته المشهورة أمام عبد الله بن عباس في حادثة (شسع النعل): (إن إمرتكم هذه أهون عليّ من عفطة عنز، إلا أن أقيم حقاً وأدحظ باطلا).
*أمير للمؤمنين مظلوم!
وجد الامام الحسن (عليه السلام) الناس بعد استشهاد أبيه أمير المؤمنين (عليه السلام)، يتسابقون إلى بيعته من داخل الكوفة ومن البصرة، كما بايعه أهل الحجاز واليمن وفارس، وسائر المناطق التي كانت تدين بالولاء والبيعة لأمير المؤمنين (عليه السلام). فبدلاً من التسابق نحو معسكر النخيلة التي دعا اليها الامام (عليه السلام) ومواصلة المشوار الذي بدأه المسلمون قبل حادثة مسجد الكوفة، تسابقوا نحو قرقعة الدراهم والدنانير ا لتي أحدثها معاوية، وكان في مقدمة المارقين من معسكر الحق، عبيد الله بن العباس الذي يعده الامام قائداً لجيشه.
وبعد أن تراكمت على إمامنا أنباء التشتت والخذلان في جيشه والهروب نحو معاوية وأمواله ومغرياته، وجد أن لامناصّ من المهادنة، علماً إن معاوية الذي كان قد خطط لذلك، قد أكثر من المراسلة للإمام عارضاً عليه الصلح لإنهاء القتال، وينقل لنا التاريخ إن إمامنا وقف بمن كان معه في ساباط، ولوَّح لجيشه من بعيد بالصلح وجمع الكلمة فقال (عليه السلام): (فَوَاللهِ إِنِّي لأرجو أن أكونَ أنصحُ خلقَ الله لخلقه، وما أصبحت محتملاً على أحدٍ ضغينة، ولا مُريداً له سوءاً ولا غائلة، ألا وإِنَّ ما تكرهون في الجماعة خيرٌ لكم مِمَّا تُحبّون في الفرقة، ألا وإني ناظر لكم خيراً من نظركم لأنفسكم، فلا تخالفوا أمري، ولا تردّوا عليَّ رأيي، غفر الله لي ولكم، وأرشدني وإيَّاكم لما فيه مَحبَّتِه ورضاه).
وبلغت قمة مظلومية الإمام في الكوفة وهو يجلس المجلس الذي حضره معاوية شامخاً بأنفه بعد حصوله ما أراد من الهدنة والتخلّص من نار الحرب، وقد قال ما قال أمام جموع المسلمين حيث ارتقى المنبر ليعلن متحدِّياً كل المواثيق والعهود والأعراف وأنَّه يسحق بقدميه كل الشروط التي صالح الحسن (عليه السلام) عليها! وخاطب الناس المُحتَشَدة في مسجد الكوفة قائلاً: (والله، إنِّي ما قاتلتكم لتصلّوا، ولا لِتصوموا ولا لتحجّوا ولا لتزكّوا إنكم لتفعلون ذلك وإنما قاتلتكم لأتأمَّر عليكم، وقد أعطاني الله ذلك وأنتم له كارهون). ثم قال: (ألا وإِنَّ كلَّ دم أصيب في هذه الفتنة فهو مَطلُول، وكل شرط شرطتُه فَتَحْتَ قَدميَّ هاتين)!
هذا التجرؤ الوقح من معاوية سحبه المسلمون على إمامنا المظلوم، فهم لم يجدوا مجالاً للرد على معاوية، إنما صبّوا جام غضبهم عليه (عليه السلام)، و وصفوه بـ (مذل المؤمنين)!! فما كان منه إلا الصبر الجميل، وطفقَ يبيِّن لهم الحقائق التي خُفِيت عنهم في أجواء الانفعال والعاطفة والغضب الذي اعتراهم من تحدِّي معاوية لهم ونقضه لوثيقة الصلح، وهو في تلك الظروف الصعبة التي لا نظير لها، لم يرد بعنف على أيّ أحدٍ من الذين تحاملوا عليه وكانوا من أعزّ المقربين اليه، وممَّا روي عنه (عليه السلام) أنه قال لبشير الهمداني عندما لامَهُ على الصلح: (لَسْتُ مُذلاًّ للمؤمنين، ولكنِّي مُعزّهم ما أردتُ لِمُصَالحتي إلاَّ أن أدفع عنكم القتل، عندما رأيت تَبَاطُؤَ أصحابي، ونُكُولهم عن القتال).
*المواجهة مستمرة مع التشييع
قضى الإمام الحسن المجتبى مسموماً صابراً محتسباً وسط خذلان المسلمين، لكن يبدو ان المواجهة مع الباطل لم تنته هي كذلك مستمرة، فجاء موكب التشييع يحمل جثمان إمامنا يتقدمه الإمام الحسين (عليه السلام)، إلى المسجد النبوي ليدفنوه عند جده رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وليجدِّدوا العهد معه، على ما كان قد وصّى به للإمام الحسين (عليه السلام).
وما أن بلغ الخبر مروان بن الحكم وبنو أُميّة حتى ثارت الحميّة الجاهلية، فقال مروان: (يا رُبّ هيجاء هي خير من دعة! أيُدفن عثمان بالبقيع، ويُدفن حسن في بيت النبي ؟! والله لا يكون ذلك أبداً وأنا أحمل السيف)، وساندتهم عائشة في قولها: والله، لا يدخل داري من أكره ! أو قالت: مالي ولكم؟ تريدون أن تدخلوا بيتي من لا أحب، وهذا الموقف مثبت في أمهات الكتب التاريخية
ولولا وصية الإمام الحسن(عليه السلام) لأخيه الإمام الحسين(عليه السلام) أَلّا يُراق في تشييعه ملء محجمةِ دمٍ، لَمَا ترك بنو هاشم لبني أُميّة في ذلك اليوم كياناً، لذا نادى الإمام الحسين (عليه السلام) قائلاً: (الله الله لا تضيِّعوا وصية أخي، واعدلوا به إلى البقيع، فإنّه أقسم عليّ إن أنا مُنعت من دفنه مع جدِّه أن لا أُخاصم فيه أحداً، وأن أُدفنه في البقيع مع أُمِّه).
وعندما توجه موكب التشييع الى البقيع كان جثمان إمامنا قد أصيب بحوالي سبعين سهماً، كما تذكر كتب التاريخ، رماها الأمويون من أجل أن يحولوا دون اقتراب الموكب من مرقد الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله).
وكان للإمام الحسين(عليه السلام) رثاء مؤلم عند قبر أخيه الحسن:
أ أدهن رأسي أم أطيب محاسني ورأسك معفور وأنت سليب
فلا زلت أبكي ما تغنت حمامة عليك وما هبّت صبا وجنوب
غريب وأطراف البيوت تحوطه ألا كلّ من تحت التراب غريب
ولا يفرح الباقي خلاف الذي مضى وكلّ فتى للموت فيه نصيب
فليس حريب من أُصيب بماله ولكن من وارى أخاه حريب
|
|