في ذكرى رحيل نبي الرحمة..
الأخلاق.. الحلقة المفقودة بيننا وبين الإسلام المحمدي
|
*محمدعلي جواد
عندما نعيش اليوم الأزمات والمشاكل على أكثر من صعيد في بلادنا الاسلامية، نجد الحاجة ماسّة الى العودة الى منهج الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله)، وكيف انه ربّى مجتمعاً جاهلياً على العلم والاخلاق، وحقق له السعادة والرخاء والأمان بعد أن كان يعاني الشقاء والظلم والخوف، إن نبينا الأكرم بدأ من الصفر، أما نحن اليوم فأمامنا كل الوسائل المساعدة التي بلغت مراحل متقدمة في التطور التقني، لكن ما زلنا نعاني ونشكو الظمأ، وبات مثلنا مثل (العيس في البيداء يقتلها الظمأ والماء فوق ظهورها محمول)!
كيف نصل ياترى الى الماء العذب لنروي غليلنا وتتفتح آفاق عقولنا وبصائر قلوبنا، كما كان هو حال آباؤنا المسلمون الأوائل؟
يبدو ان المشكلة في التأسيس، فالبعض يتصور إن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) إنما بدأ ينشر الدين الاسلامي – رسمياً إن صحّ التعبير- عندما استوطن المدينة التي كان اسمها (يثرب) وجعلها القاعدة التي ينطلق منها الى العالم، وهو اعتقاد يحمل جوانب من الصحة، لكن ماذا عن الثلاثة عشر سنة التي قضاها في مكة مسقط رأسه ومهبط الرسالة والكتاب المجيد؟
يقول هذا البعض: إن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) واجه المعاناة والصعاب من بعض المشركين من جهة، وانشغل في اقناع البعض الآخر بالاسلام، فآمن به المستضعفون من القوم وضحايا الربا الفاحش وسوء المعاملة مع العبيد وضحايا الظلم، وبشكل عام الطبقة المضطهدة وعدد من المحسوبين على الطبقة المتوسطة، فيما بقي أرباب القوة ا لعسكرية والمالية و ذوي الجاه والمنصب من قريش، يقفون موقوف العداء والكره لهذا النبي الجديد الذي يدعو لازالة جميع هذه الصفات والميزات لصالح مجتمع متكافئ ونظام جديد وعادل في المجتمع.
وهذا أيضاً يحمل الكثير من الصحّة، لكنها ليست كل الحقيقة، لأن هذا التصور يضع الرسول الأكرم في إطار الرجل الذي جاء بفكرة خاصة يريد من خلالها إثبات وجوده بين قبيلة قريش التي تضم عائلتي (بني هاشم) و (بني أمية)، إذن، فالخلاف هو عائلي وشخصي ومزاجي! لكن لو تصفحنا سيرة الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) وتمعنّا في هذه السيرة العطرة، لوجدنا الأبعاد الواسعة في هذه الدعوة السماوية، حيث يتبين لنا ان ما جاء به الرسول الأكرم، لم يستهدف أشخاصاً وظواهر معينة منحصرة في ظروف زمانية ومكانية، إنما هو منهج متكامل للأجيال على مرّ العصور والى يوم القيامة.
*مكّة مدرسة الأخلاق
من الصور التي ينقلها لنا التاريخ عن صدر الاسلام، والتي طالما نتداولها، الممارسات التعسفية والقمعية التي تعرض لها الطليعة الأولى من الصحابة الأجلاء، في مقدمتهم عمار وأبيه ياسر وأمه سمية، فعندما تعرضوا لذلك التعذيب الوحشي ليتبرؤوا من دين الله، لم يتوقعوا أن يأتي الني ورسول هذا الدين لينقذهم، على الأقل أن يستخدم كرامته ومعاجزه لانقاذهم، لكنه قال بدلاً من ذلك: (صبراً آل ياسر فان موعدكم الجنّة)، بل ان عمار الذي أقرّ بالأوثان تحت ضغط التعذيب وفيما كان يرى أمه وابيه يعذبان حتى الموت، نزلت بحقه الآية المباركة من سورة (النحل): "مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ"، وهي منزلة تُحسب لهذا الصحابي الجليل الذي حمل هذا الايمان في قلبه و روحه ولم يفارقه حتى استشهاده في جبهة الحق مع أمير المؤمنين (صلوات الله عليه)، في معركة صفين.
هكذا كان ربّى الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) اصحابه في مكة، رغم انهم كانوا يعيشون في ظل ظروف عصيبة، فقد كانت تلك الفترة مدرسة للأخلاق ودوره تأهيلية نحو بناء صرح المجتمع الاسلامي، وهذا المجتمع الذي ظهر في المدينة هو الذي كوّن الأمة الاسلامية الواحدة والمترامية الأطراف في العالم، وهو الذي قدم للبشرية أرقى حضارة عرفها التاريخ، لكن لننظر، من دون صبر عمّار بن ياسر وتضحيات علي ابن أبي طالب و صراحة وصدق أبي ذر و وفاء بقية الصابة المخلصون، هل كان للمسلمين في المدينة أن يتفيؤوا بظل مجتمع يسوده الاخلاق والقيم الانسانية؟ هذا فضلاً عن تشكيل الأمة والحضارة.
إن الحديث عن شخصية الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) الذي يُعد باعتراف الصديق والعدو بانه أفضل شخصية في العالم كله، هو بالحقيقة حديث التركة التي خلفها لنا وللعالم أيضاً، لذا يجب أن ننتبه جيداً، بان ما نعيشه اليوم بمعظمه طبعاً، لا يمتّ بصلة الى ما كان يطمح اليه نبينا الأكرم ونحن نستذكر بغير قليل من الأسى واللوعة رحيلة في الثامن والعشرين من شهر صفر، فالقضية ليست هي القوة العسكرية والنظام السياسي والمال والثروة، وأسباب القوة المادية الأخرى، التي كانت الحضارات والأمم السابقة تتبجح بها وتعدها الوسيلة الوحيدة للبقاء والهيمنة، إنما القضية في السلوك الانساني الذي يحتاج دائماً الى التقويم بالاخلاق الحسنة والكريمة وليس بشيء آخر، وهو ما أكد عليه نبينا الأكرم طيلة فترة حياته.
فهل نقرأ في التاريخ والسيرة أن نبينا الأكرم ردّ على إساءة بمثلها؟ أو واجه المشركين من اليهود وعرب الجاهلية وغيرهم من الأمم بنفس أساليبهم ومنهجهم، كما يسود هذا المنهج اليوم؟! أو هل جارى النبي الأكرم أولئك الطغاة والجفاة في سلوكهم من أجل أن يكسبهم للاسلام، كما هو السائد أيضاً اليوم؟!
والسؤال المحوري هنا: ما هي مصاديق الأخلاق ؟
يأتي الرسول الأكرم مرة أخرى ليدلنا على المصداق الوحيد للأخلاق والقيم الانسانية، وهم أهل بيته الذين اجتباهم الله تعالى و طهرهم من الرجس، لكن الأسى والأسف الذي يختلط مع هذه الذكرى المؤلمة، هو في إعراض الكثير ممن صاحبوا النبي منذ البداية، عن هذا المصداق، واستبداله بقيمهم الخاصة وما يرغبونه هم لأنفسهم، فيما كان (صلى الله عليه وآله) كما تقول الآية الكريمة من سورة الأنفاق: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ"، ثم إنه (صلى الله عليه وآله) صرّح بكل وضوح في قوله: (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق).
وهذا ما يفسّر لنا موقف بعض الاسماء المعروفة في التاريخ، في اللحظات الأخيرة من حياة النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله)، فهو يدعو المسلمين للنجاة لضمان مستقبل الدين والحضارة، بينما هم كانوا يترجمون كلامه (صلى الله عليه وآله) على انه الغاء لكل امتيازاتهم ومصالحهم ومستقبلهم!
*بماذا يوصينا نبينا الأكرم؟
عن ابن عباس قال: إنّ علي بن أبي طالب (عليه السلام) والعباس بن عبد المطّلب والفضل بن العباس دخلوا على رسول الله (صلى الله عليه وآله) في مرضه الذي قبض فيه فقالوا: يا رسول الله، هذهِ الأنصار في المسجد تبكي رجالها ونساؤها عليك، فقال (صلى الله عليه وآله): (وما يبكيهم)؟ قالوا: يخافون أن تموت!
فقال (صلى الله عليه وآله): (أعطوني أيديكم).
فخرج في ملحفة وعصابة حتّى جلس على المنبر، فحمد الله وأثنى عليه ثمَّ قال فيما قاله:
(أمّا بعد، أيّها الناس، ماذا تستنكرون من موت نبيّكم؟ ألم ينع إليكم نفسه وينع إليكم أنفسكم، أم هل خلّد أحد ممّن بعث قبلي فيمن بعثوا إليه فأخلد فيكم؟ ألا إنّي لاحق بربّي، وقد تركت فيكم ما إن تمسّكتم به لن تضلّوا، كتاب الله بين أظهركم تقرؤونه صباحاً ومساءً، فيه ما تأتون وما تدعون، فلا تنافسوا ولا تباغضوا، وكونوا إخواناً كما أمركم الله، ألا أوصيكم بعترتي أهل بيتي).
وعن أبي سعيد الخدري قال: إنّ آخر خطبة خطبنا بها رسول الله (صلى الله عليه وآله) لخطبة خطبنا في مرضه الذي توفّي فيه، خرج متوكّياً على الإمام علي ابن أبي طالب (عليه السلام) وميمونة مولاته، فجلس على المنبر ثمَّ قال: (يا أيّها الناس إنّي تارك فيكم الثقلين) وسكت، فقام رجل فقال: يا رسول الله ما هذان الثقلان ؟!
فغضب حتّى احمّر وجهه ثمَّ سكن وقال: (ما ذكرتهما إلاّ وأنا أُريد أن أُخبركم بهما، ولكن ربوت فلم أستطع، سبب طرفه بيد الله، وطرف بأيديكم، تعملون فيه كذا... ألا وهو القرآن والثقل الأصغر أهل بيتي).
ثمَّ قال: (وأيم الله إنّي لأقول لكم هذا ورجال في أصلاب أهل الشرك أرجى عندي من كثير منكم)، ثمّ قال: (والله لا يحبّهم عبد إلاّ أعطاه الله نوراً يوم القيامة حتّى يرد عليّ الحوض، ولا يبغضهم عبد إلاّ أعطاه الله نوراً يوم القيامة حتّى يرد عليّ الحوض ولا يبغضهم عبد إلاّ احتجب الله عنه يوم القيامة).
هذه كانت من الروايات التي نقلت عن أخريات حياة النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله)، لكن المسيرة متواصلة بهمّة المخلصين والمؤمنين المتمسكين بنهج الرسول الأكرم وأهل بيته (صلوات الله عليهم)، ومن يريد الوصول حقاً الى الماء العذب ومعين ا لحضارة والتقدم والنجاة، ما عليه إلا التمسّك بما أوصى به صاحب الذكرى الأليمة، والتفاني في هذه الوصية التاريخية العظيمة، حتى نكون حقاً من محبي النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) عملاً وليس قولاً فقط.
|
|