التوسل والزيارة في القرآن الكريم
|
*علي عبد الله
وفيما نحمل الاصرار والعزيمة بين مناسبة وأخرى لأداء واجب الزيارة لمراقد أئمتنا المعصومين وأيضاً الأولياء الصالحين ونجدد العهد عندهم على الولاء والمضي على نهجهم، علينا في الوقت نفسه أن ندرك أن هذه الزيارات غير بعيدة عن القرآن الكريم، وهو الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وهو الحجة البالغة والدامغة على كل معاند و مشكك في أمر الزيارة والتوسل بأولياء الله تعالى واتخاذهم الوسيلة اليه.
وإذا لم يرد في القرآن الكريم التصريح نصاً بالزيارة، فقد وردت في مضامين أكثر من واحدة من آياته، منها: قوله تعالى في شأن أصحاب الكهف ونزاع القوم فيهم بعد أن أماتهم الله: "إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَاناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَ عَلَيْهِم مَّسْجِداً".
قال المفسرون: ذكر اتخاذ المسجد يُشعر بأنّ هؤلاء الذين غلبوا على أمرهم هم المسلمون، وهذا يدلّ على أنّه لمّا ظهر أمرهم غلب المؤمنون بالبعث والنشور، وهذا هو الراجح عند أهل التفسير على قول بعضهم أن الذي غلب هم أصحاب الملك، فهم الذين يغلبون على أمر من عداهم. قالوا: الاَول أولى(1). بل قال بعضهم إنّ الملك الذي عثر عليهم كان مؤمناً(2).
وأيّاً كان القائل فالمسجد إنّما يُتّخذ ليؤتى على الدوام و ينتابه الناس سواء المعاصرون منهم لقصّته أو الاَجيال اللاحقة، وبهذا أصبحت مراقد أصحاب الكهف مزاراً يقصده الناس للزيارة، بل أقاموا عليه مسجداً يذكرون اسم الله فيه.
ولعل مراقد هؤلاء الفتية المؤمنين، أصحاب الكهف، هي المثال الأسبق تاريخاً في ما ذكره القرآن الكريم لاحترام مراقد الاَولياء وتعاهدها بالزيارة، بل إقامة المسجد عندها كما هو صريح القرآن الكريم.
أما النهي عن زيارة القبور فقد ورد في القرآن الكريم ذلك فيما يتعلق بقبور المنافقين، يقول تعالى: "وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُم مَاتَ أَبَداً وَلاَتَقُمْ عَلَى قَبْرِه" (3).
ولا خلاف في أنّ المراد بالصلاة هنا هو خصوص الصلاة على الميت، يدل عليه السياق وسبب النزول، أمّا موضع الاستدلال لدينا على المطلوب فهو قوله تعالى: "وَلاَتَقُمْ عَلَى قَبْرِه" فقد ذهب كثير من المفسرين إلى أنّ المراد يتجاوز الوقوف عنده وقت الدفن، إلى عموم الاَوقات.
قال البيضاوي والآلوسي والبروسوي: المراد لا تقف عند قبره للدفن أو للزيارة (4)، فإذا كان هذا النهي قد ورد في شأن من مات على الكفر، كما هو في ذيل الآية نفسها "إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُون"، ففيه دلالة واضحة على أن ذلك جائز، بل ومعهود، في شأن من مات على الاسلام.
إذن، ففي هذه الآية أيضاً دلالة على مشروعية زيارة قبر المسلم، بقصد الزيارة والدعاء للميت، فهذا هو المعهود في قيام النبي صلى الله عليه وآله وسلم على قبر الميت بعد دفنه.
وقوله تعالى في سورة النساء: "وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرَوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً".
جاء في أسباب النزول أنّ الآية في صدر الحديث عن المنافقين الذين تتحدث عنهم الآيات السابقة والذين ارتضوا التحاكم إلى الطاغوت فراراً من التحاكم إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فلو أنّهم جاؤوا الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأظهروا الندم على ما فعلوه، وتابوا عنه واستغفروا منه، واستغفر لهم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لتاب الله عليهم.
فهذا ما كان في حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، يأتيه المذنب فيستغفر ويطلب منه الاستغفار والشفاعة له، ولما ورد فيها من تكريم خاص وإجلال لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وجد المسلمون استحباب العمل بها بعد وفاته صلى الله عليه وآله وسلم، فيأتي قبره الشريف، ويستغفر عنده ويسأل صاحبه الشفاعة، ذلك لاَنّ إجلال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وتكريمه واجب بعد موته كوجوبه في حياته، والعمل بهذه الآية بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم كالعمل بالآية القائلة في سورة الحجرات: "لاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلاَ تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْل"، حيث مضت سيرة المسلمين على وجوب العمل بها عند قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، والاَثر في ذلك كثير، بحيث كتبت هذه الآية على الجدار المقابل لقبر الرسول اليوم.
وهنا نذكر استدلال مالك بن أنس بالآية في ردِّه على أبي جعفر المنصور، وهما عند قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقد سأله أبو جعفر المنصور: أ أستقبل القبلة وأدعو، أم استقبل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؟
فقال مالك: ولِمَ تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك و وسيلة أبيك آدم عليه السلام إلى الله تعالى يوم القيامة؟! بل استقبله واستشفع به فيشفّعه الله تعالى، قال الله تعالى: "وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرَوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً". وفي مقدمة كلام مالك وأبي جعفر كان مالك قد استنكر على أبي جعفر رفعه صوته عند قبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قائلاً: يا أمير المؤمنين! لا ترفع صوتك في هذا المسجد، فإنّ الله تعالى أدّب قوماً فقال: "لاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ" ومدح قوماً فقال: "إنّ الذين يغضّون أصواتهم عند رسول الله" وذمّ قوماً فقال: "إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاءِ الْحُجُرَات" وإنّ حرمته ميتاً كحرمته حياً.
وحكاية العتبي مشهورة وهو من مشايخ الشافعي، وقد شهد أعرابياً جاء إلى قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم فتلى هذه الآية واستغفر وانصرف، وقد حكاها المصنفون في المناسك من جميع المذاهب، والمؤرخون، وكلهم استحسنوها ورأوها من آداب الزائر وما ينبغي له أن يفعله(5).
***
هامش:
(1) انظر: مجمع البيان| الطبرسي 5: 710، التفسير الكبير| الرازي 11: 106، فتح القدير| الشوكاني 3: 277، الميزان| الطباطبائي 13: 267.
(2) الدر المنثور، وعنه الميزان 13: 286 في رواية قال عنها: والرواية مشهورة أوردها المفسرون في تفاسيرهم وتلقوها بالقبول.
(3) سورة التوبة: 9|84.
(4) أنوار التنزيل| البيضاوي 1: 416، وروح المعاني| الآلوسي 10: 155، روح البيان| البروسوي 3: 378.
(5) شفاء السقام| السبكي: 69 ـ 70.
6
|
|