تواري الثقافة القرآنية .. الأسباب والحلول
|
*الشيخ محمد العليوات
لكل ثقافة، مرجعية تزودها وترفدها بالمثل والرؤى، وترسم تخوم الحدود وتضع المعايير والضوابط؛ لتأتي إيقاعات الثقافة على هذه المرجعية المصدرية وعلى هداها ونهجها، ويمثل القرآن الكريم المرجعية الأم والكبرى للثقافة الإسلامية والفيصل الأعظم لحسم الإشكالات الثقافية والمعرفية في حياة المسلمين، وأن غياب الثقافة القرآنية أو تغييبها يشكل انتكاسة كبرى في عملية الإصلاح المجتمعي والمعرفي؛ لأن ذلك يعني غياب القانون والسنة الإلهية والبصائر الربانية عن واقع الحياة، ولا يصلح الحياة برمتها إلا خالقها العالم بحاجات البشر وما يصلح أمورهم وشؤونهم، وما نلاحظه من فوضى معرفية وما يتصل بذلك بحركة إصلاح الحياة وتبني المواقف والمواقف المضادة إلا دليل بسيط على غياب الرؤية القرآنية والتي لو لم توحد أو تقرب بين المواقف والرؤى، لأدى ذلك إلى مزيد من التشتت والتنافر في الأفكار والمواقف، وهناك أمثلة معاصرة في هذا الشأن تبين كم هي الآراء والمواقف متباعدة، فقضية الجهاد والعلاقة بالآخر وقضايا المرأة الحرجة، كلها مسائل تشكك فيما إذا كان للمسلمين مرجعية ثقافية أم لا بسبب المواقف المضادة بشكل كبير.
*أسباب تواري الثقافة القرآنية:
أولاً: الاغتراب الفكري والثقافي، فقد أسهم - الاغتراب- بشكل كبير في بسط الذوق الفكري والثقافي للنظريات المعرفية والثقافية السائدة للحضارة الغربية الغالبة في هذا المجال، ويرجع ذلك إلى الجهل بأصول الثقافة القرآنية وعدم معرفة مبادئها، والتأثّر ببعض الأصول المعرفية للثقافة الغربية، خصوصاً الفلسفات المختلفة.
ثانياً: ندرة الدراسات الإسلامية الجادة التي تعالج المشكلات المعاصرة في الفكر والثقافة من منظور قرآني، حيث اتجهت تلك الدراسات على ندرتها إلى الغوص والتركيز على دراسات لغوية وبلاغية فحسب.
ثالثاً: الانشغال عن البحث القرآني واستنباط الرؤى والبصائر من القرآن الكريم، وتركيز الاهتمام على الدراسات الفقهية والأصولية والفلسفية على حساب الاهتمامات الكبرى، التي تبحث في البناء السلوكي والتربوي والمعرفي، الهادف إلى تعمير الكون وتوظيف تلك الأفكار البنّاءة الهائلة التي تعمق حضور الرؤية القرآنية.
رابعاً: تراجع الحركة التجديدية الإصلاحية التي تدعو إلى مزيد من الاهتمام بالقرآن الكريم والعناية به وببحوثه المعاصرة في الحوزات العلمية، والاهتمام بدلاً من ذلك، بالمجالات الفنية فحسب - وإن كانت مهمة- كالتلاوة والتجويد وإقامة المسابقات القرآنية، على حساب الكثير من القضايا التي تتطلب رؤية قرآنية، خصوصاً فيما يتصل بالمسائل الكثيرة الحرجة التي تواجهها الأمة الإسلامية في شتى المجالات.
خامساً: ما نعبر عنه بالمشكلة المنهجية، ونقصد بذلك غياب الضوابط والمعايير في استنباط الثقافة من مرجعيتها نتيجة لانعدام تلك المعايير، فبينما يحظى الاستنباط الفقهي بمنظومة معرفية مترابطة، نفتقد هذه المنظومة في الموضع الثقافي والمعرفي فيما يتصل باستنباط الرؤى والأفكار من القرآن الكريم.
سادساً: ما زال فكر الجمود المتمثل في الجمود على حرفية القرآن الكريم وتجميد العقل والتشكيك في مناهج التدبر والبحث في المعاني الكلية والآفاق الرحبة للحقائق القرآنية، يحظى بتقديس لدى بعض النخب العلمية، مما يعطي شرعية لمنهج الجمود والتشكيك، والفرصة لتهميش فكر التنوّر القرآني والحد من تطلعاته، والوقوف على شكل حاجز سميك من الانتقال إلى مراحل بحثية متقدمة ومتطورة.
*دلائل تواري الثقافة القرآنية:
نتيجة لابتعاد الأمة عن الاستفادة من مصادرها الفكرية والثقافية وعلى رأسها القرآن الكريم، فقد توارت الثقافة القرآنية وتقلّص حجم حضورها الثقافي، سواءً على صعيد بناء النظرية المعرفية، وحتى في الخطابات الاجتماعية التي تتجه لعلاج القضايا الموضعية الحرجة التي تواجه الأمة. وتتركز مصاديق تواري الثقافة القرآنية في الآتي:
أولاً: شيوع الفوضى المعرفية، واضطراب الرؤى المرتبطة بحركة إصلاح الحياة، وتبني المواقف والمواقف المضادة، كل ذلك دليل بسيط على غياب الرؤية القرآنية عند الكثير.
ثانياً: الرجوع الكثيف للمصادر والمراجع الفكرية والثقافية لمفكرين ومثقفين من كل أصقاع الدنيا وتذييل الدراسات الإسلامية بها، في حين تفتقد الكثير من هذه الدراسات الرؤية القرآنية ولو إشارةً!
ثالثاً: ندرة البحوث في الموضوعات القرآنية على الصعيد الأكاديمي، كما هو واضح في الرسائل والدراسات الجامعية.
رابعاً: قلة المجلات والدوريات المتخصصة في بحوث القرآن الكريم.
خامساً: غياب الندوات والمؤتمرات العلمية التي تكون موضوعاتها حول القرآن الكريم في مقابل-كما ذكرنا- شيوع مسابقات التلاوة والحفظ.
** من ندوة عقدتها (مؤسسة القرآن نور) تحت عنوان: (تواري الثقافة القرآنية.. الأسباب والحلول).
|
|