قصة قصيرة :
|
الموت من النعاس
* عدنان عباس سلطان
أغلق الباب باصابع مرتعشة، وجد صعوبة على نحو ما في إدارة المفتاح، ظل يدور بعصبية بين المكتب والشباك المسدل الستائر مقلّباً قرار المواجهة بذهن مرتبك. .!
وضعه النادر الذي صار اليه بشكل مفاجئ يحتاج الى حسم سريع رغم الضوضاء وتلاطم والافكار التي يزخر بها رأسه في هذه اللحظات القاسية. ما الذي حدث الآن لتتغيّر الرتابة اللذيدة التي منحها له الزمن؟ لم يهنأ بعد كفاية، لم يتحصل له منها غير ثلاثين يوماً فقط منذ استلامه مقاليد الامور.
الهاتف مازال يرن منذ نصف دقيقة فيما تخرج من عينيه دوائر غامقة تأخذ بالاتساع لاحظ ان (الموناليزا) تضحك طالما تأملها قبل الآن لكنها كانت تدعوه الى التثاؤب أهي تضحك الآن على خيبته المريرة أم على وجهه الممتقع؟! ليس هناك حلم ابيض، مجرد ورقة خضراء اسقطها وسحقها بقدميه بكامل الارادة والتصميم صار بعدها كياناً لا يمتلك غير الاسم كأي شيء آخر... مكتب، باب، دورة مياه، جدار، وزير في غرفة، سجين في زنزانة.
منذ ان تخلى عن الحلم الابيض، ومنذ ان قايضه بالدولارات ووقع صفقة المواد المسمومة وراحت يده تمتد حتى الكوع في بطن الوزارة ناظراً الى الروزنامة وهو يحسب الشهور المتبقية من خدمته القصيرة حلمه الابيض الذي ارتبط بصورة مرسومة في خاطره صورة داكنة ومأساوية تنبثق في ذاكرته، لايدري كيف تشكّلت لديه؟ وظلّت حاضرة كانها لازمة لحلمه الابيض، ربما رآها وهو يسلك خائفاً ملاذات الشوارع الحزينة، او هو يتوارى في الازقة الضيقة قبل ان يغادر البلاد.
كانت الريح تكنس الاوراق الصفراء والريش المدمى بجوانب الارصفة، شيخوخة مبكرة اصابت صفوف الاشجار عشرات من الاجساد تتهاوى في كل مكان الممرات على جانبي الشارع موشومة بنقاط الدم فيما تنتشر في الارجاء رائحة الموت، عند الظهيرة تكون المواكب قد انتهت لتبدأ جموع الاطفال والنسوة والشيوخ بالبحث عن مفقود، كانت الاسمال مرمية، عباءات سود عتيقة، ونظارات طبية مهشمة و(يشاميغ) وصنادل ملطخة بالوحل، اشياء أخرى تدوس عليها الاقدام الى ان ينتهي النهار وتستسلم المدينة الى قدرها من جديد لتمنح نفسها لجزار جديد مجهول يقطّع أوصالها وتغفو على الآلام على امل فجر جديد لعل الخلاص مرفوعاً على اكف الشمس الآتية.
هذه الصورة كانت تقابل بعتمتها الرهيبة توهج الحلم الابيض الذي كان يشعّ في وجدانه ليل نهار، قلب وجهه يميناً وشمالاً وهو محتقن يكاد ان ينفجر بين لحظة واخرى في وسط المرآة فيحيلها الى شظايا. ابتعد قليلاً عنها وادار وجهه شاعراً بتساقط ضربات الزمن مع كل بقعة ومع كل طوق. لا وقت للذكريات ولا لمزيد من الاسئلة التي تمسّه الآن بألم مفرط ليس هناك سوى طريق الموت هو الحاضر الوحيد الذي وفرّته ثمان وعشرون عاماً من الغربة في الشمال والدول البعيدة وهو يحلم ان يعود يوماً بعد زمن المستحيلات ليدُهش فيه المعدمين والعمال والفقراء، وكان ذلك حلمه الابيض الذي تصدّع امام ارادة العشيرة ومتانة الكرسي المصنوع من الزان الاحمر وتلك الاوراق السحرية.
قبل اقل من ربع ساعة قال للسكرتيرة ان تتريّث بأدخال مندوب الجريدة ومراسلي التلفزيون، كانت ستكون كارثة وفضيحة لا حدود لها وللحزب الذي رشحه والجماعة الذين كنسوا له الطريق والجماعة التي تشكّل منها النقال.. التلفون.. الزيارات المتتالية الى مقره الجديد تؤكد عليه الفرصة تلو الفرصة لن تكون وزيراً الى الأبد لم همدت تلك النار؟ ولم أعد اتطلّع كما في الايام الحميمة؟
أطفأ التلفون واقفل النقال وعاد الى المرآة بعد ان التقط المسدس من درج المكتب ثم صوب الماسورة باتجاه الرجل وبالمقابل صوب الرجل الآخر فوهة مسدسه اليه الى مابين عينيه كان غريمه يرتجف ضغطة واحدة تحيله الى العالم الآخر. الموت هو الحل المتوفر الوحيد الذي يستطيعه المتخاذلون، صوّب المسدس باتجاه صدره مباشرة لقد اقتنع نظيره بهذا القرار تخلى الاثنان معاً عن التقاط الصورة عند كرسي الزان الاحمر كان وهو سادر بهذه الافكار يحرك المسدس ضمن الفراغ القليل لعقرب الانفجار فيما كان لعابه المسفوح يتشكل بخطوط عدة نازلة بهدوء فوق مقدمة قميصه وصدرية سترته الزرقاء احسّ وهو يفعل ذلك بأن ثمة قشعريرة ابتدأت تتصاعد من اخمص قدميه كانت تتحرك ببطء كان في تلك اللحظة محدقاً بصورة الموناليزا المبتسمة.
عندما حدث الانفجار تجمع المراجعون في موكب موحد بعد ان اخفوا (فايلاتهم) تحت سترهم رفع ثلة منهم النعش وخرجوا به الى الشارع مشيعين يلاحقهم المصور ورجال الصحافة السكرتيرة كانت تنظر بذهول واندهاش من خلال شباك الاستعلامات وهي تُسائل نفسها بصمت: كيف تسنى لهم اخراج جثة الوزير والغرفة مازالت موصدة منذ ان اقفلها الرجل على نفسه.
|
|