(العين).. رائد المعاجم العربية
|
حيدر ناصر
تشير الدراسات والابحاث الى ان منطقة الشرق الأدنى هي أسبق من عرفت المعاجم، فقد وضع الصينيون معجماً ضمّ اربعين الف كلمة وذلك في القرن الحادي عشر قبل الميلاد وكان هذا المعجم من تأليف (باو نشي) كما اخترع الاشوريون البابليون معاجم تحفظ لغتهم خوف ضياعها وذلك حين استبدلوا نظام الكتابة الرمزية القديمة بنظام الاشارات المقطعية او الالفبائية ذات القيم الصوتية فغمض عليهم ذلك واحتاجوا الى من يشرحه فجمعوا قوائم الاشارات المقطعية وعرفوها بما ساروا عليه في النظام القديم ولم تكن لغتهم السومرية القديمة قد اندثرت بعد عناية الكهنة بها في شعائرهم الدينية فصنفوا الفاظها في قوائم رأسية حفروها على قوالب الطين واودعوها مكتبة آشور بانيبال الكبيرة في نينوى وكان ذلك في القرن السادس قبل الميلاد، وقد عثر عليها المنقبون في هذه المكتبة وصارت مصدر معلوماتهم عن الاشوريين.
ثم يأتي دور اليونان الذين ألفوا معجماً خاصاً بألفاظ هوميروس وهو من تأليف ابلونيوس الغراماطيقي كما وضعوا معاجم خاصة بالشعراء والخطباء الاتيكيين ومعاجم خاصة بأبقراط حتى ظهر معجم اللغة اليونانية كاملاً عام 177 للميلاد وهو من تأليف يوليوس بولكس.
أما عند العرب فكان اول معجم عربي ظهر الى الوجود فهو معجم (العين) الذي ألّفه الخليل بن احمد الفراهيدي في القرن الثاني الهجري فاعتمده العلماء واللغويون ونسج على منواله كبار علماء اللغة وأعاظم الموسوعيين. و(العين) الذي يعدّ اول معجم في العربية قد انجزه الخليل في زمن لم تكن أذهان الدارسين ممهدة لتقبل مثله، مثل أي عمل يبتكر خاصة ان الخليل قد انفرد بأنجازه ولذلك بقي بعيداً عن متناول رواة اللغة السلفيين ولم يخطر على بال أحدهم إذ ذاك ان يصنف كتاباً يكون مدار كلام العرب والفاظهم ولايخرج منها عنه شيء كما لم يكن مما اتجهت اذهانهم له وانصبت عنايتهم عليه وقد اكد ذلك ابن دريد في مقدمة جمهرته (ص3) فقال: (... وقد ألف ابو عبد الرحمن الخليل بن احمد الفراهيدي رضوان الله عليه كتاب (العين) فأتعب من تصدّى لغايته وعنّى من سما الى نهايته فالمصنف له بالغَلَب معترف والمعاند متكلف وكل من بعده له تبع أقرّ بذلك أم جحد ولكنه رحمه الله ألف كتاباً مشاكلاً لثقوب فهمه وذكاء فطنته).
لقد اثار (العين) ضجة عظيمة وصوله الى البصرة وتشعبت فيه الآراء بين الذم والمدح وافترقت أيضاً بين تصديق نسبته الى الخليل وعدمها وبقي هذا الخلاف مدة طويلة، فقد ذهب الناس حينها في مؤلف الكتاب الى فرق ثلاث تؤيد اولاها نسبته الى الخليل وتنكر ثانيها ذلك اما الثالثة فتقف موقفاً وسطاً، اما أبرز من أيد نسبته الى الخليل فهم ابو العباس المبرّد وابن درستويه والزجاجي وابن دريد وابن فارس وابن عبد البر وابن خير وابن الانباري وابن خلدون ولايسعنا هنا ذكر أقوالهم، اما المنكرون فأبرزهم ابو حاتم السجستاني والنضر بن شميل ونصر ابن علي و مورّج وابو الحسن الاخفش وابن جني والقالي والازهري وكان من هؤلاء متشدداً في انكاره كابي حاتم السجستاني واصحابه الذين ما ان يكاد يذكر كتاب (العين) حتى تنهال الشتائم والتهم جزافاً عليه وعلى مؤلفه!! ولايمكننا ايضاً هنا ذكر اقوالهم كلها لذا سنكتفي بالبعض منها فانها تكاد تغني عن بقية الاقوال لتشابهها فقد كانت حجة انكارهم نسبة (العين) الى الخليل هي انهم لم يروَ هذا الكتاب عن الخليل ولا روي في شيء من الاخبار انه عمل هذا البتة، بينما نرى في مقدمة (العين) استهلالاً واضحاً يصرح بنسبة الكتاب الى الخليل وفيه يفسر عمله وغرضه فيه ومنهجه وترتيبه للحروف ثم تتبين صحة النسبة عن طريق الرواية فقد صرح ابن فارس في المقاييس (ج 1 /ص3) بانه روى كتاب (العين) عن علي بن ابراهيم القطان عن عدّة رجال ذكرهم عن الليث عن الخليل كما ذكر مثله ابن درستويه في الفهرست (ص /43) والسيوطي في المزهر (ج1 /ص46) عن ابي علي الغساني وينتهي طريق الرواية الى الخليل كما كانت حجتهم ان بعض معاصري الخليل لم يرو الكتاب وسموا بعضهم من الذين لم يكونوا بالمتلقين والمستوعبين لكل ما هو جديد كالاخفش ورغم ان الاخفش كان معاصراً للخليل إلاّ انه لم يأخذ عنه ولم يحكِ عنه فكيف يحمل عنه علمه في (العين) وهل ان عدم علمهم بكتاب (العين) وعلم اشياخهم هو عدم وجوده؟ فقد تمسكوا بأوهى الاسباب ليوجهوا الاذهان الى انكاره ورفضه ومنهم من اتخذ من انكاره وسيلة الى نهب ما احتواه ليقيموا اليه كتباً زعموا انها لهم كالازهري والقالي، وكان الازهري من اشد المنكرين واكثر اصحاب المعجمات افادة منه، فقال في زعم انكاره للخليل في مقدمة التهذيت (ص28): (ان الكتاب ليس للخليل وإنما هو لليث ابن المظفّر نحلهُ الخليل لينفقه باسمه ويرغّب فيه من حوله) وهذا لاينطبق بتاتاً على الخليل الذي عرف بشدة الورع والزهد وعاش زاهداً فقيراً حتى انه كان يقيم في خصّ من أخصاص البصرة، وبلغ من شدة زهده ان والي الاهواز بعث يستدعيه لتعليم ابنه فرفض واخرج خبزاً يابساً وقال له مادمت اجده فلا حاجة الى الوالي، ولكن الازهري يقول عن ذلك بانه لكي يثير الدخان حول (العين) ويكّدر الهواء من حوله! لكن كل تلك الزوابع ستنقشع امام الحقيقة المجلوة فرغم ان الازهري اقتبس مقدمة (العين) بكل تفاصيلها وجعلها مقدمة لمعجمه ونقل منها رأي الخليل في حروف العربية واحيازها ومخارجها وصفاتها وتأثير بعضها في بعض كما أخذ عنه تصنيف الكلم من حيث عدة اصولها وما يأتلف من الاصوات وما لا يأتلف الى غيرها من الجديد الذي جاء به الخليل في معجمه إلاّ انه أبى ذكر الخليل عندما جمع في كتابه (تهذيب اللغة) الدارسين الذين صنفوا الكتب في اللغات حيث بدأهم بأبي عمرو بن العلاء وختمهم بنفطويه وتجاهل قول ابن سلام في علم الخليل عندما قال: (استخرج من العروض واستنبط منه ومن علله ما لم يستخرجه احد ولم يسبقه الى علمه سابق من العلماء كلهم)، ولعل هذا القول قد فرض عليه فرضاً فتجرعه على مضض وقد تنبه الدكتور عبد الله درويش الى هذا التحامل من قبل الازهري على الخليل فقال في كتاب المعجم (ص56): (نرى ان الازهري في تهذيبه حينما لم تسعفه الامور بما يرى به الخليل كما فعل بابن دريد وغيره رأى ان يتحاشى ترجمة للخليل حتى لا يتعرض لذكر (العين) تحت اسمه بالمرة وعندما نرى في مقدمته ذكر الخليل فانما كان ذلك عرضاً عند الكلام على آخرين كتلاميذه مثلاً ونرى قبل ان نعرض للسبب الرئيسي لتجنّب الازهري ذكر الخليل ان نذكر ان تعصّب الازهري لم يكن فقط ضد كتاب (العين) او ابن دريد الذي رأى ان (العين) تأليف الخليل بل تعدّاه هذا الى كل من الف في المعاجم من قبله).
وهكذا كانت الحال مع ابي علي القالي الذي اشاع نفي نسبة (العين) الى الخليل في ربوع الاندلس التي رحل اليها ولقّن تلاميذه بتلك الافعولة التي افتعلها ذهن ابي حاتم السجستاني وحبه لنفسه وتعصّبه على كل ما هو بصري وما لم يصل اليه علمه وراح تلميذه ابو بكر الزبيدي يردد ما تلقاه عنه بغير وعي وعندما انكر عليه من في الاندلس من الدارسين حملته على كتاب (العين) ونفي نسبته الى الخليل والطعن عليه اخذ يسترضيهم بالثناء على الخليل فقال: (أوحد العصر وقريع الدهر وجهبذ الامة واستاذ أهل الفطنة الذي لم يرَ نظيره ولا عرف في الدنيا عديله)، ولكنه لم يتنازل عن نفيه في نسبة (العين) الى الخليل. أما ابو علي القالي فقد ارتحل الى الاندلس ايضاً وألف معجماً بناه على كتاب (العين) وسماه بـ(البارع) تعريضاً بكتاب (العين) وايهاماً بفضله عليه كما فعل الازهري في المشرق حين سمى كتابه بتهذيب اللغة غير ان ابا علي القالي بتأثير من شيخه ابن دريد وبالتزامه مقابلة نسخ (العين) بأمر من المستنصر بالله لم يجد بداً من الاعتراف بواقع الامر بتصحيح نسبة الكتاب الى الخليل لذلك حين صنف البارع نسب كل ما فيه الى الخليل.
وقد اتيح لدارس مُحدث هو الدكتور هاشم الطعان ان يُحقق نصاً من البارع ويوازن بين ما رواه من الخليل في هذا الجزء وهو معظمه وما جاء في نسختي كتاب (العين) اللتين وقف عليهما فظهرت له الحقيقة ساطعة فقال في (البارع) (ص66): (فاذا بالكتابين ـ يعني البارع والعين ـ متطابقان حذوالقذة بالقذة) لقد كان هذا العمل ـ اي (العين) ـ من الخليل يعطيه حق الريادة في هذا المجال وكانت الخطة التي اتبعها في ذلك جديدة تمام الجدة على الذهن العربي لذا حاول الكثير من امثال الازهري والسجستاني أن ينفوا نسبته إليه ليسرقوا هذه الريادة بعمل مماثل كما حاول الكثير تعليل طريقة ادراك الخليل لهذه الخطة فذهب اغلبهم الى انها من ابتكاره فيما حاول آخرون ان يسلبوه حقه في الابتكار فقالوا: انه تأثر بالمعجمات الاجنبية التي كانت في العراق لكنهم وقعوا ايضاً في الخطأ الذي حاولوا ان ينسبوه الى الخليل فأنهم لايستطيعون انكار ذكاء الخليل وموهبته في ترجمة كتاب قيصر الروم عندما طلب الخليفة منه ذلك فقال له: كيف استطعت ذلك فقال: قلت لنفسي لابد ان يبدأ الكتاب بـ(بسم الله) او ماشابه ذلك فعملت في ذلك على ترجمة الحروف فانهم لايستطيعون أن يدّعو أن الخليل كان يعرف اللغات غير العربية ولكنهم تشبثوا بقول ابن ابي اصيبعة في كتابه (عيون الابناء في طبقات الاطباء) عندما قال في (ج1 /ص189) في ترجمته حسنين بن اسحق:(ان حنيناً نهض من بغداد الى ارض فارس وكان الخليل بن احمد النحوي بأرض فارس فلزمه حنين حتى برع في لسان العرب وادخل كتاب العين بغداد)، فأشاعوا ان الخليل عرف من حنين اليونانية او عرّفه حنين بما فيها من معاجم ولكنهم سقطوا ايضاً وظهر بطلان هذه الاشاعة وما أقاموا عليها من استنتاجات إذ اتفق العلماء على ان الخليل توفي قبل عام175هـ على حين ان حنيناً ولد بعد ولد عام 194 فهما لم يتعاصراً فضلاً من المقابلة وزعم ان منطقة الشرق هي اول من عرفت المعاجم كما ذكرنا ولكنها معاجم من نوع يخالف معجم الخليل فهذه المعاجم خاصة لا عامة فمعجم الخليل، معجم بمعنى الكلمة فهو شامل يقصد الى ذكر الواضح الغريب من الكلمات التي تنتمي الى كل فن وبعبارة أوجز يُومئ الى استيعاب كلام العرب، والمعاجم القديمة لم ترمِ الى شيء من ذلك لان الطبقة العليا الصغيرة كانت تسيطر على اللغة وقد اصطلحت على استعمالاتها ولم تكن هناك طبقة قارئة حازت على قسط من الثقافة ثم ان الخطة التي اعتمدها الخليل في كتابه (العين) في ترتيب الحروف تبعاً لمخارجها مبتدئاً بالابعد في الحلق ومنتهياً بما يخرج من الشفتين لم تألفها المعاجم القديمة وما عرفها احد قبل الخليل.
لقد استقرأ الخليل العربية استقراءً اقرب مايدعى الى الاحصاء في عصرنا الحاضر فقيّض له ان ينتهي الى كتاب (العين) فكان اول معجم في العربية ومن اوائل المعجمات في تاريخ اللغات الانسانية وقد نهل منه الدارسون على مدى قرون حتى قيل (اكلت الدنيا بعلم الخليل وكتبه وهو في خصّ لايشعر به) كما تناول عدد كبير من الدارسين القدامى والمحدثين وبعض المستشرقين معجم (العين) بالدراسة فوصف جلال الدين السيوطي القواميس منذ صدور (العين) حتى القاموس المحيط للفيروز آبادي واشار باختصار الى كل قاموس إلا انه عند ماذكر (العين) فقد عني بوصفه وشرحه عناية كبيرة كما نشر المستشرق الالماني براونتج عام 1926 مقالاً مستفيضاً عن كتاب (العين) ويقع كتاب (العين) في(2500) صفحة وللخليل كتب أخرى منها معاني الحروف وتفسير حروف اللغة والعروض والنقط والشكل وغيرها.
|
|