هجرةُ العقول كارثةٌ مستمرة
|
*سعد مغيمش الشمري
تُعد ظاهرة هجرة الكفاءات العلمية واحدة من ابرز واخطر الظواهر السلبية التي تعاني منها مجتمعات العالم الاسلامي الى درجة أن باتت مسأله طبيعية يشهدها واقعنا، فكل من لديه خبرة او اختصاص او دراسة. يهجر وطنه ويلجأ الى دول اجنبية فيما اصبح استثناءً ان يقرر العالم أو الاستاذ الجامعي أو المتخصص البقاء في وطنه، أو يتخلّى من بلد المهجر ويعود الى وطنه.
ان العراق يُعد اليوم المثال البارز والكبير في العالم الاسلامي في هجرة العقول والكفاءات الى بلاد الغرب مثل الولايات المتحده و اوربا بل وحتى الى الدول الشقيقة. هذه الظاهرة بحاجة الى المزيد من الدراسة والتحقيق لانها تسهم الى تفريغ الوطن من الكفاءات والقدرات العلمية التي من شأنها ان تسهم في تقدم وتطور البلد، في حين هم يسهمون في الوقت الحاضر في تقدم الدول الاجنبية، وقد تم اغراء الكثير من هؤلاء بمناصب كبيرة حتى لا يفكروا بالعودة الى بلادهم، علماً ان هذا لايمنع بأي حال من الاحوال من ظهور الهوية الحقيقية لهذا العالم أو ذاك، عندما يعلن في وسائل الاعلام عن تقدم احدى البلاد الغربية أو غيرها في الطب او بناء الجسور او السدود او الطاقة وغيرها، يذكرون ان صاحب الفكرة والابداع هو من أصل عراقي – مثلاً-. والنتيجة ستكون ان العراق، وهو البلد الحاضن دائماً وعلى مر التاريخ للعقول الفذّة والافكار المبدعة، يكتفي باسمه في هوية ذلك المبتكر والعالم (البريطاني) أو (الامريكي) او (السويدي) وغير ذلك، أما احتياجاته من السلع الاستهلاكية وحاجاته الاساسية فانه سيستوردها من البلد الذي ربما يكون ذلك (العالم العراقي) دور في تطوير تلك السلعة.
اسباب الهجرة
ربما يكون التقدم العلمي والتطور التكنولوجي في بلاد الغرب، أحد المحفزات للهجرة لدى الاطباء والمهندسين وسائر الكفاءات العلمية، لكن هذا العذر او السبب تنحّى أمام اسباب جديدة بضغط الظروف والمستجدات، حيث يفضل الكثير لاسيما خلال السنوات التي سبقت الاطاحة بنظام صدام، بالهجرة الى الدول العربية مثل الاردن او اليمن او سوريا او قطر، لئلا يثير شبهة السلطات الامنية بانه يزيد من وطأة الضغوط الدولية المفروضة على نظام صدام، كما يضيف شماتة أخرى من العالم على صدام وافعاله الهدامة. إذن، نفهم ان الاسباب واضحة لهجرة العقول والكفاءات العراقية الى الخارج، فهنالك الاسباب الامنية والسياسية وايضاً الاقتصادية – المعيشية.
في العهد السابق كانت جملة من الاسباب قائمة وتمثل حافزاً ودافعاً قوياً لهجرة العقول العراقية الى الخارج، وهي الاسباب الامنية والسياسية وحتى الطائفية، فقد كان العالم والاخصائي ملاحق من قبل اجهزة السلطة في هويته الدينية والثقافية وفي حريته، وكان معروفاً عن صدام حرصه على صهر كل الكفاءات والقدرات في مصالحه الخاصة ومغامراته الجنونية، ومن يرفض فان مصيره التخوين ومعاداة الوطن والشعب و... ثم غياهب السجون او الاعدام!!
أما اليوم فان هذه الاسباب باتت من الماضي، لكن حلّت محلها المشكلة الامنية الداخلية، حيث النزاعات الطائفية الدموية التي شهدها العراق خلال السنوات الماضية ألقت بظلالها على الساحة العلمية في البلاد، على الاقل يشعر الرجل أو المرأة الاختصاص و الاكاديمي بانه مهدد في حياته وحياة اسرته قبل الخوف على مستقبله المهني او كفاءته العلمية. لذا فانه يفضل الهجرة للنجاة أولاً الى أي بلد يحتضنه ويوفر له الامان والاطمئنان، وهذا ما حصل خلال السنوات التي تلت عملية الاطاحة بنظام صدام، حيث شهد العراق تصفيات دموية لعدد غير قليل من الكفاءات لاسيما الاطباء منهم.
هذا الهروب الجماعي للكفاءات يشكل خسارة علمية ومادية وكارثة لايمكن تعويضها في الامد القصير. هنا لا نستبعد ان هذه الهجرة الكبيرة كانت عفوية، لكن ربما كانت وراءها ايادي خفيه لكي يفرغوا العراق من قدراته العلمية، وتحويل البلد الى دوامة فوضى وصراعات طائفية تبعده على مسيرة التقدم والتطور، فيبقى دائماً في حالة عوز وحاجة الى الآخرين.
هل تعوضنا الخبرات الاجنبية؟
من الناحية النظرية يمكن القول ان الخبرات الاجنبية تستطيع الخوض في مشاريع الاعمار والبناء و تعوض النقص في الخبرات الوطنية، ولكن يبقى الفرق كبيراً جداً بين الانطباع الذي تحمله هاتين الخبرتين، فالخبره الوطنية والنابعة من صميم ذلك المجتمع، يكون العامل المحرك للعمل في معظم الاوقات هو خدمة البلد وتنمية مؤسساته وباخلاص والسعي الحقيقي لدفع عجلة التقدم الى الامام، أما الايادي الاجنبية فهي لاتمتلك اي قاسم مشترك مع ذلك الشعب، لذا فانها تفكر قبل كل شيء بالربح والمردود المادي والمصالح الاقتصادية، لذا نلاحظ الشركات الاجنبية ترفض وجود عيون من ابناء البلد على عملها ومشاريعها حتى لا يكتسبوا الخبرة ويتحولوا الى منافسين لها في المستقبل، والهدف هو ان تبقى الدولة المستوردة للخبرات تحت (رحمة) الخبرات والكفاءات الاجنبية حتى بعد تنفيذ لتلك المشاريع، فالمنشآة او المصنع أو اي مشروع آخر عندما يصاب بعطل سيتعين الاتصال بالشركة المصنعة لرفع العطل وتشغيل الجهاز او المشروع وهكذا... وهذا بحد ذاته يكلف البلد المزيد من التكاليف والجهود ويزيد في الوقت نفسه من عدد العاطلين من ذوي الشهادات الجامعية واليد العاملة.
هذه الحقائق وغيرها لا تخفى على المعنيين من سياسيين واقتصاديين في العراق، حيث عليهم ان يعرفوا ان البلد بأمس الحاجة الى الكفاءات من أي وقت آخر، لأن الاعتماد على عائدات النفط وتوزيع الاموال والهبات يسرع من افلاس البلد وتخلفه ودماره، ولنا عبرة في دول دمرتها الحرب لكنها اليوم تقف على قدميها وتتطلع نحو اللحاق بالدول المتقدمة، وفي مقدمتها كوريا الجنوبية والصين والهند، ولم نذكر دول مثل المانيا واليابان لأن لهما ظروف خاصة، لكن نذكر دول من سنخنا، أي من العالم الثالث، بل نجد حتى دولة مثل فيتنام تسعى لأن تتقدم في اقتصادها من خلال تصدير المحاصيل الزراعية.
ان الاقرار بظاهرة هجرة العقول العراقية والقبول بالامر الواقع يُعد بحق جريمة نكراء ضد العراق – البلد والحضارة والشعب، وهو يمتلك كل هذه الثروات والخيرات والامكانات الجيوسياسية والديمغرافية التي تتمناها شعوب العالم، حيث يؤكد الخبراء قديماً ان العراق من الدول التي تحظى بميزة التوافق بين عدد السكان والمساحة الجغرافية القابلة للسكن والعمل، علماً ان اراض شاسعة في العراق تعد صالحة للزراعة رغم التصحّر والتخلف في هذا المجال. إذن، لابد من نهضة واحدة من داخل المجتمع ومن السياسيين لوضع حدٍ لظاهرة الهجرة وتهيئة الاجواء الصالحة لبقاء الخبرات على أرض الوطن.
|
|