الامام الصادق (ع) وانطلاقة حوزات كربلاء العلمية..
|
مسيرة العلم والاجتهاد و مجابهة الظلم والعدوان
اعداد /تيسير سعيد الاسدي
التضحيات والدماء الزاكيات ومفاهيم الحرية والعدل والكرامة شكلت هوية كربلاء، فلا يمكن لأحد ان يذكر كربلاء إلا ويقترن ذكره بزيارة الامام الحسين عليه السلام، فهو منار التضحية والتحدي و محاربة الظلم والباطل، لكن مع ذلك، فان هذا ليس كل الحكاية عن كربلاء... فهنالك حديث شريف يقول: (مداد العلماء أفضل من دماء الشهداء)، والأئمة الاطهار وقبلهم رسول الله صلى الله عليه وآله، يؤكدون على اهمية العلم وطلبه ونشره، كونه البصيرة الهادية والبوصلة التي تضمن ان لا تنحرف المسيرة الى غير طريق الهدى، ومن اجل ذلك أعلنها الامام الحسين عليه السلام لدى انطلاقه ان هدفه هو السير على سيرة جده المصطفى وابيه المرتضى صلوات الله عليهم.
من هنا بزغت من هذه المدينة المقدسة وببركة دماء الامام الحسين وأخيه ابي الفضل وبنيه واصحابه، انوار العلم والمعرفة بتشييد مدارس علمية عديدة منذ ان وطأت قدم الامام الصادق وابنه الكاظم عليهما السلام أرض كربلاء.
مدرسة الامام الصادق عليه السلام
انتقل الإمام جعفر الصادق عليه السلام إلى مدينة كربلاء المقدسة في مطلع القرن الثاني الهجري أيام الحاكم العباسي أبي العباس السفاح (132هـ - 136هـ) ثم عاد إلى المدينة المنورة أيام المنصور (136 هـ - 158هـ).
أكدت المصادر نزوح الإمام الصادق عليه السلام إلى العراق، ولكن أيام إقامته في العراق لم تؤرخ من قبل الباحثين بصورة واضحة، وقد نقل الشيخ محمد حسين الأعلمي الحائري نقلاً عن البحار عام نزوح الإمام الصادق عليه السلام إلى كربلاء المقدسة سنة 144 هجرية، وقال: (وفي سنة 144 هجرية قدم الصادق جعفر بن محمد عليه السلام لزيارة جده أمير المؤمنين عليه السلام فلما أدى مراسم الزيارة خرج وسكن شمال كربلاء) وتسمى تلك الأراضي التي حل بها الإمام الصادق عليه السلام بالجعفريات.
وقد حلّ مع الإمام الصادق عليه السلام في كربلاء المقدسة جماعة من أصحابه وأهل الحجاز، فازدلفت إليه الشيعة ورواد العلم من كل حدب وصوب وارتشفوا من نمير علمه العذب، و تروى عنه الأحاديث في مختلف العلوم، فقد ازدهرت جامعة كربلاء المقدسة في عهده عليه السلام، بطابع خاص انفردت به عن بقية المدارس والمؤسسات العلمية الإسلامية في العراق حيث مدرسته العملاقة كانت امتداداً لمدرسة أبيه وجده صلوات الله عليهما، وأصبحت كربلاء المقدسة من أكبر العواصم الإسلامية بتاثير من الحركة العلمية القوية التي أوجدها الإمام الصادق عليه السلام في هذا الوسط الفكري واستمرت هذه المدرسة التي أنشأها عليه السلام مركز الصدارة بين الحوزات والمدارس الشيعية الإمامية في العراق، وظلت البعثات العلمية ورواد العلم تقصد كربلاء المقدسة بالذات، ويتعاقب فيها مدرسة أهل البيت عليهم السلام في التدريس والفتيا وقيادة المرجعية العامة.
حين نزل الإمام أبو عبد الله جعفر الصادق (عليه السلام) كربلاء المقدسة، سكن جنوب نهر العلقمي، وكان يلقي دروسه ومحاضراته العلمية على أصحابه وتلامذته في داره على ضفاف نهر العلقمي، وكذلك في أروقة الروضة الحسينية، ثم اتخذ شيعته دار المذكور مقراً للدراسة والتدريس ومقامه مقدساً من بعده يقصده الزائرون وذوو الحاجات لكشف الملمات وقضاء الحوائج والتوسل والتضرع إلى الله بوليه الصادق (عليه السلام) وحسب القول المشهور عند أهالي كربلاء المقدسة أن الإمام الصادق (عليه السلام) قد جمع أراضي ضفتي نهر العلقمي في كتب وقفية لشيعته والزائرين والوافدين لزيارة قبر جده الإمام الحسين (عليه السلام)، والأراضي التي يقع فيها هذا المقام تعرف بشريعة الإمام الصادق (عليه السلام) أو بالجعفريات، وهي ضمن الأراضي التي تعود له في الحائر الحسيني حتى العصر الحاضر وكانت قديماً إحدى المعاهد العلمية في ضواحي كربلاء، ثم تحولت الى مركز لتجمع الزائرين والوافدين لزيارة قبر الحسين (عليه السلام) في عصر الضغوطات العباسية.
وفي مطلع القرن الرابع عشر الهجري اهتم الإخوان الفقيهان مدرس الطف الشيخ ميرزا علي نقي الحائري (1253 – 1320هـ) والشيخ ميرزا علامة الحائري (1249 – 1310هـ) أبناء الشيخ حسن آل الصالحي بإحياء الأراضي الجعفريات ضمن مشروعهم لإسكان الشيعة الإمامية في ضواحي كربلاء المقدسة، وكتب وقفيته لتصرف وارداتها على إنارة الروضة الحسينية.
مدرسة الامام الكاظم عليه السلام
بعد استشهاد الإمام الصادق (عليه السلام) انتهت الإمامة إلى الإمام موسى بن جعفر الكاظم وهو ابن عشرين عاماً، حيث تصدى للتدريس في مسجد جده محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو لا يزال شاباً، و بدأ العلماء يروون عنه ويأخذون من علمه.
انتقل الإمام الكاظم عليه السلام إلى كربلاء المقدسة في عهد المهدي العباسي في حدود سنة 162هـ إلى سنة 165هـ، لزيارة قبر جده الحسين عليه السلام، واستمر بقاء الإمام الكاظم عليه السلام في كربلاء المقدسة أكثر من سنتين، ولم يكن في دار أبيه على نهر العلقمي، وإنما بنى داره ومدرسته فيما بين حرم الإمام الحسين عليه السلام، وأخيه العباس عليه السلام في الشمال الشرقي من الروضة الحسينية وغرب روضة سيدنا العباس عليه السلام، وتصدى الإمام عليه السلام للتدريس ونشر الفقه الإسلامي والحديث، إذ كانت مدرسة الإمام الكاظم عليه السلام امتداداً لمدرسة أبيه وجده فازدلفت إليه الشيعة من كل فج زرافات ووحداناً، والتفت حوله جموع العلماء والمحدثين والرواة تستقي منه العلم وتنهل من معينه العذب، وتروي عنه الأحاديث.
وبعد تعاقب الزمن اتخذت الشيعة الإمامية من دار ومدرسة الإمام الكاظم عليه السلام مقراً للتدريس ومقاماً مقدساً يقصده الناس للزيارة والتبرك وقضاء الحاجات بفضل الله، ويقع هذا المقام اليوم في محلة باب بغداد زقاق السادة المعروف بـ(عكد السادة) وأكثر أهل هذا الزقاق هم سادة موسويون من أحفاد الإمام موسى الكاظم عليه السلام.
مسيرة التطور
سكن الشيخ أبو عبد الله الحسين ابن علي البزوفري (م 352هـ)، والشيخ أبو علي أحمد البزوفري (م 365هـ)، وعدد آخر كربلاء وقد ورد ذكرهم في أعيان الشيعة والذريعة ومعجم رجال الحديث. ثم استمرت حوزة كربلاء في تطورها الفكري والعلمي، لتتحفنا بميراث ثقافي مهم وغني ليبقى مرتبطاً بعلمائنا، متجهاً إلى عصرنا الحاضر.
وفي القرن السابع الهجري، وسعت الحوزة العلمية في كربلاء فعالياتها، من خلال زعامةِ آل معدّ الحائرين ومن جملة أولئك العلماء الذين بلغوا مقام المرجعية العظمى هو السيد فخار معدّ الحائري (م 630هـ)، صاحب كتاب الحجة على الذاهب إلى تكفير أبي طالب، وقد قام هذا المرجع بتربية الكثير من الطلبة، منهم السيد عبد الكريم بن طاوس (م 693هـ) وابنه السيد جلال الدين عبد الحميد بن فخار الموسوي الحائر (توفي 482هـ) وغيرهم.
وبهذا الترتيب وجدت الحوزة في كربلاء نفسها بعد قرون تتألق بعلماء آخرين مثل: ابن فهد الحلي (م 841هـ) والسيد محمد بن فلاح الموسوي المشعشعي، والسيد محمد نور بخش من أقطاب الصوفية، والشيخ هلال الجزائي، و المحقق الكركي والشيخ تقي الدين إبراهيم الكفعمي (م905هـ) والسيد ولي الرضوي الحائري (م 981هـ) صاحب (كنز المطالب)، ومدرّس (الطف) السيد نصر الله الموسوي الحائري (م 1160هـ) وهو المرجع العظيم لعالم التشيّع في حوزة كربلاء، وفي زمان (نادر شاه أفشار) انتخب لرئاسة وإمامة صلاة الجماعة، في مؤتمر النجف، واجتماع علماء الكعبة المشرفة.
النهضة الفكرّية وامتداداتها
كانت النهضة الفكرّية للعالم القدير محمد باقر المعروف بالوحيد البهبهاني (م 1205هـ)، تمثل الفترة الذهبية لهذه الحوزة، وقد تزامنت هذه الفترة مع وفاة الشيخ يوسف البحراني (1186هـ)، الذي كان احد رموز المدرسة الاخبارية، وقد توصل الى طريق الصواب على يد الوحيد البهبهاني فاختفت الإخبارية وإلى الأبد من حوزة كربلاء وسائر الحوزات العلمية الأخرى، وحلت محلها المدرسة الأصولية التي تمثل مدرسة أهل البيت عليهم السلام، وقد اهتم البهبهاني بتربية الآلاف من طلاب العلوم الدينية فأوصلهم إلى درجة الأساتذة والمجتهدين، فاتجهوا صوب الحوزات الأخرى في العراق وإيران. ومنهم: السيد محمد مهدي بحر العلوم والشيخ جعفر كاشف الغطاء إلى النجف. والشيخ محمد إبراهيم الكرباسي والسيد محمد باقر الأصفهاني، إلى حوزة أصفهان و كاشان، والميرزا مهدي الخراساني إلى مشهد، والشيخ أسد الله الكاظمي، صاحب المقابس، إلى الكاظميين.
كان لتلك النهضة الحوزوية في كربلاء امتداداتها واشعاعاتها فتعاقب عليها علماء أفذاذ ومحققين وكبار ومراجع دين من امثال السيد مهدي الشهرستاني والسيد علي الطباطبائي، صاحب الرياض، وبعد هؤلاء تابع المسيرة. السيد محمد المجاهد (م 1242هـ)، ابن الطباطبائي، صاحب الرياض، ثم شريف العلماء الحائري، وتبعه السيد إبراهيم الموسوي القزويني (م 1262هـ) صاحب الضوابط، والشيخ محمد صالح البرغاني الحائري (م 1271هـ) وقد هاجر من قزوين إلى كربلاء، ليمسك بزعامة الحوزة، ويبدأ بتربية الآلاف من طلبة العلوم الدينية، وبعد فترة وجيزة، وأثناء زعامة الشيخ محمد تقي الشيرازي (م 1338هـ) المعروف بالميرزا الثاني الشيرازي، شهدت كربلاء المقدسة ظروفاً سياسية استثنائية حيث كان عليها التصدي للاستعمار البريطاني الذي كان ينوي حكم العراق مباشرة بعد انهيار الدولة العثمانية وهو ما لم يسكت عنه المرجع الشيرازي، فكانت فتواه الشهيرة بالانتفاض والثورة ضد القوات البريطانية، مما اضطر البريطانيون الى غضّ النظر عن احتلال العراق والاكتفاء بحالة الانتداب وتعيين (ملك عربي) حاكماً على العراق.
ثم استمرت كربلاء في مسيرتها العلمية بمدارسها وحوزاتها التي شيّد البعض منها بجوار مرقد الامام الحسين عليه السلام، والتي هدمت فيما بعد بحجة التوسعة والبناء حول مرقد الامام عليه السلام، واليوم بجانب ضريح العلامة الشيخ ابن فهد الحلي تقام حوزة علمية مباركة يرعاها المرجع الديني آية الله العظمى السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله) تضم العديد من طلبة العلوم الدينية حيث استأنفت العمل والدراسة بعد سقوط النظام الصدامي وهي اليوم حوزة متكاملة آخذةٌ في التوسع والتطور أكثر فأكثر. والى جانبها حوزة اخرى أنشأت بعد عام 2003 وحملت اسم حوزة القائم عجل الله فرجه،
تأسست حوزة الإمام القائم (عجل الله فرجه) وهي أول حوزة علمية تقام في كربلاء، وهي امتداد لحوزة كربلاء بل وتمثلها في الوقت الحالي يرعاها سماحة المرجع الديني آية الله العظمى السيد محمد تقي المدرسي (دام ظله).
ــــــــــــ
هوامش:
1- راجع: تاريخ نجد، فيلبي، ص148.
2- راجع: تاريخ كربلاء، د.عبدالجواد الكليدار، ص329.
3- مصادر اخرى
|
|