قسم: الاول | قبل | بعد | الاخير | عناوين اقسام | عناوين جميع اقسام

رحلة الحج. . طريق المعارف الالهية وسلّم التكامل *يونس الموسوي جاء في حديث شريف ان ابراهيم (أذنّ في الناس بالحج، فقال: أيها الناس إني ابراهيم خليل الله... إن الله يأمركم أن تحجوا هذا البيت فحجوه، فأجابه من يحج إلى يوم القيامة، وكان أول من أجابه من أهل اليمن)، وبذلك صدح بالأمر الالهي وأبلغ فهو خير مبلغ وداع. وبالرغم مما نراه من شوق ولهفة وسباق للحظو بمقعد في طائرة او سيارة او باخرة تحمله الى الديار المقدسة وأداء هذه الفريضة العبادية الجميلة والمثيرة، لكن ما لا نراه، الفهم الصحيح والكامل لاسباب تلكم الدعوة الالهية وفلسفة الاعمال العبادية التي يقوم بها الحاج في مراسيم الحج، وعدم وجود هذا الفهم يجعل من السهل تسلل شبهات واسئلة حائرة الى أذهان البعض حول السبب وراء الطواف حول الكعبة او عدّها (بيت الله)، او رمي الجمرات وغير ذلك من الاسئلة التي لانجد لها جواباً إلا في مدرسة أهل البيت صلوات الله عليهم. جاء إبن أبي العوجاء - وكان مشركاً- إلى الإمام الصادق عليه السلام فجلس إليه في جماعة من نظرائه ثم قال له: يا أبا عبدالله إن المجالس أمانات، ولابد لكل من كان لديه سؤال أن يسأل فتأذن لي في الكلام، قال الصادق عليه السلام: تكلم بما شئت. فقال: إلى كم تدوسون هذا البيدر، وتلوذون بهذا الحج، وتعبدون هذا البيت المرفوع بالطوب والمدر، وتهرولون حوله هرولة البعير إذا نفر، من فكرّ في هذا أو قدّر، علم أن هذا فعل أسسه غير حكيم ولا ذي نظر، فقل فإنك رأس هذا الأمر وسنامه وأبوك أسه ونظامه؟! أجابه الامام الصادق عليه السلام: إن من أضله الله وأعمى قلبه استوحم الحق فلم يستعذبه وصار الشيطان وليه، يورده مناهل الهلكة ثم لايصدره. ثم اردف عليه السلام بالقول: (هذا بيت استعبد الله به خلقه ليختبر طاعتهم في إتيانه، فحثهم على تعظيمه وزيارته، وقد جعله محل الأنبياء وقبلة للمصلّين له فهو شعبة من رضوانه وطريق تؤدي إلى غفرانه، منصوب على استواء الكمال، ومجتمع العظمة والجلال). إن من لايفهم ولايدرك المغازي من أفعال الحج والأمور المتعلقة بذلك ربما يكون مهدداً بمصير إبن أبي العوجاء، الذي نظر إلى الطوب وإلى الحجر ولم ينظر إلى ما يشتمل عليه هذا البناء من مفاهيم وقيم. هذه الأسئلة إذا قادت الإنسان إلى الإيمان فإنها قد تكون من أعلى المعارف لأنها ستقوده إلى حقيقة الدين الشريف فهو سيدرك أن القدسية ليست في هذا البيت المكوّن من الطوب وإنما في الطاعة لخالق هذا البيت الذي أمر الناس بالطواف حوله، فقدسية المكان متأتية من قدسية الأمر الإلهي الذي إتخذه بيتاً له.. ولما نصل إلى هذا المعنى ندرك أيضاً بأن الله سبحانه وتعالى يمكن أن يعطي القدسية لأشياء أخرى أو لبشر كما فعل بالنسبة إلى نبيه وأهل بيته صلوات الله عليهم، ليس هذا فقط بل يمنح القدسية لأي واحد من المؤمنين ولا نتعجب من ذلك، لأنه إذا كانت الكعبة هي بيت الله فإن قلب المؤمن هو أيضا بيت الله، وفي هذا الإطار فقط يمكن أن نفهم لماذا أصبح المؤمن أقدس من الكعبة. وقد أوضح الإمام الصادق عليه السلام في حديث مطول فلسفة كل عمل من الأعمال التي يقوم بها الحاج، ومن يقرأ هذا الحديث يدرك حقاً وصدقاً فلسفة الحج، ففي بداية حديثه يتكلم الإمام عن الإستعداد النفسي والروحي للإنسان المؤمن للذهاب إلى بيت الله، حيث أنه عندما تتوفر الفرصة للمرء حتى يذهب للحج فإن الأفكار والهواجس ستهجم عليه، إذ إنه كيف سيترك أهله وعياله؟ وكيف ستسير أمورهم؟ وماذا سيحل بهم؟ وكيف سيكون حال عمله؟ وغيرها من الوساوس التي تثبط عزيمة الإنسان لذلك يقول الإمام (إذا أردت الحج فجرّد قلبك لله من قبل عزمك من كل شاغل وحجاب كل صاحب وفوض أمورك كلها إلى خالقك، وتوكل عليه في جميع ما يظهر من حركاتك وسكناتك، وسلّم لقضائه وحكمه وقدره، ودّع الدنيا والراحة والخلق). ويتحدث الإمام الصادق عليه السلام ايضاً عن ضرورة أن يخرج المسلم حقوق الناس من ماله حتى يذهب إلى الحج وليس في ماله شبهة وليس لأحد عليه حق، وإلا بطل حجه وذهبت أعماله هباءً. ويدعو الإمام الحجيج بأن يتخذوا من هذا الأمر فرصة لاكتساب الأخلاق الفاضلة وقد جاء في الحديث: (وراع أوقات فرائض الله وسنن نبيه صلى الله عليه وآله وما يجب عليك من الأدب والاحتمال والصبر والشكر والشفقة والسخاء وإيثار الزاد على دوام الأوقات..). ثم يطلب الإمام من الحاج ان يغسل روحه وبدنه بماء التوبة الخالصة بحيث لايفكر بالرجوع إلى الذنوب التي كان يرتكبها. وفي جانب آخر من حديثه يبين الإمام عليه السلام حقيقة ومعاني الأفعال التي يقوم بها الحجيج فقال الإمام: (.. واحرم عن كل شيء يمنعك من ذكر الله ويحجبك عن طاعته، ولبِّ متمسكاً بالعروة الوثقى، وطف بقلبك مع الملائكة. ولاتهرول كأي يوم وكأي زمان، بل هرول هرباً من هواك وتبرياً من جميع حولك وقوتك لأنه لاقوة إلا بالله، وإذا خرجت إلى منى فأخرج قبل ذلك من غفلتك وزلاتك، واعترف فوق القمة في عرفات بالخطايا والذنوب حتى لاتعود إليها، وتقرّب إلى الله واتقه في مزدلفة.. وإذا صعدت الجبل فلا تصعد دون أن تشعر بأن روحك تصعد إلى الملأ الأعلى وإذا ذبحت الشاة فأذبح معها طمعك في الدنيا وأهواءك المضلة، وإذا رميت الشيطان بالجمرات فارم شهواتك والأفعال الذميمة بالحجرات نفسها، واحلق العيوب الظاهرة والباطنة بحلق شعرك، وادخل في أمان الله إذا دخلت الحرم، وزر البيت وقلبك واعٍ بأنك زائر الله في بيته وأنه يراك وأنت قادم عليه.... وزر البيت متحققاً لتعظيم صاحبه ومعرفة جلاله وسلطانه واستلم الحجر رضاء بقسمته وخضوعاً لعزته، وودّع ما سواه بطواف الوداع، واصف روحك وسرك للقاء الله يوم تلقاه بوقوفك على الصفا وكن ذا مروّة من الله نقياً أوصافك عند المروة، واستقم على شرط حجتك ووفاء عهدك الذي عاهدت به مع ربك وأوجبت له إلى يوم القيامة..). لانجد وصفاً أرقى وأعظم من هذا الكلام في وصف الحج إلا في مدرسة أهل بيت النبوة صلوات الله عليهم، وبسبب طول الحديث إقتبسنا منه بعض العبارات ولم نأت به كاملة. نسأل الله تعالى ان يوفق الجميع لحج بيته الحرام في هذا العام وفي كل عام واكتساب المعارف والإلهية والفيوض الرحمانية في تلكم الاجواء المفعمة بالايمان والتقوى والتقرب الى البارئ عزوجلّ، كما نرجو قبول الطاعات والاعمال من جميع حجاج بيت الله الحرام.