قسم: الاول | قبل بعد | الاخير | عناوين اقسام | عناوين جميع اقسام

الأسلام و ضمانات استقلال العلم والعلماء
لمشاهدة الصورة لحجم اكبر إضغط علي الصورة *أنور عزّالدين
بما إن الاسلام يولي أهمية كبيرة للعلم والعلماء في جميع مجالات الحياة، لاسيما في مسألة القيادة، فانه لم يترك العالم في شتى الحقول والاختصاصات، يذهب بعلمه ذات اليمين وذات الشمال، حيث إن الانسان خطّاء، كما تتجاذبه الاهواء والغرائز التي ربما لا يصمد أمامها، فيكون أداة للسلطة والهيمنة، وبالنتيجة يكون سبباً في إزهاق أرواح الالاف من البشر، أو ربما يكون سبباً في انحراف المجتمع سلوكياً أو عقائدياً. لذا نجد الاسلام يؤكد دائماً على استقلالية العلماء عن السلطة للتفرغ لأداء رسالة العلم المقدسة، وهي نشر المعارف والثقافة والوعي بهدف إنارة الطريق أمام الانسانية للتقدم الى الأمام.
لكن كيف يتم ذلك؟ وما هي الضمانات التي يوفرها الإسلام لإبقاء العلم والعلماء مستقلين وبعيدين عن ضغوط الحكام ؟ بل كيف يوجِّه الاسلام العلماء لتحصين أنفسهم أمام الضغوظ الهائلة التي يتعرضون لها من قبل مراكز المال والقوة في العالم؟
قبل الإجابة على هذه الأسئلة لابد أن نشير إلى حقيقة أنّ ما في العالم من تقدم ورقي إنما هو رهين العلم والعلماء، وليس رهين الحكام والجبابرة، ولكن مشكلة البشرية أن الطغاة كانوا دائماً يسرقون مكاسب العلماء ويجيّرونها لصالحهم.
فعلى طول التاريخ كان العلم أداة فعّالة بأيدي الطغاة والجبابرة لتطويع الشعوب وترويضها، لقد كان لكل فرعون هامان يؤيده ويؤازره، وبلعم بن باعوارء يؤمّن له التغطية الدينية المزيفة، وكان لكل معاوية رجال أمثال كعب بن الأحبار، ولكل يزيد رجال أمثال شريح القاضي، ولكل طاغوت سواء كان يتستَّر بستار ديني، أم بستار مادي، مجموعة من العلماء يخدمونه.
وتأكيدنا على إستقلالية العلم، لا يعني عدم التأكيد على أهمية العلم ذاته، والمكاسب العلمية الهائلة التي بلغتها البشرية بالعلم. فتخلف بلداننا ليس لوجود الأنظمة الفاسدة فيها وتسلط الديكتاتوريات الإرهابية والفاشية عليها فحسب، وانما هو أيضاً لعدم إهتمام شعوبنا بالعلم والتعلم. فالتخلف واقع فاسد له مظاهر عديدة منها الأنظمة الفاسدة، ومنها البؤس والحرمان، ومنها تفشّي الجهل والأمية، ومنها فقدان العناية الصحية، ومنها ضعف القوة العسكرية.
إذن؛ يحدد لنا الاسلام ضمانات لإستقلال العلم عن كل الغضوطات وأسباب التجيير والتوظيف غير السليم، وذلك من خلال ما يلي:
أولاً: محورية العلم..
إعطاء العلم قيمة ذاتية وإجتماعية، ليكون العلم والعلماء وليس المال والسلطة، محوراً يستقطب حوله قدرات الجماهير وطاقاتهم وإمكانياتهم. فالعلم، وليس العمل وحده، هو الذي يرفع درجات الإنسان عند الله سبحانه وتعالى، وتأكيد الإسلام على العلم كمحور لحركة الإنسان في الحياة إنما هو لأن الحضارة البشرية قائمة على قاعدة العلم، ولأن الإسلام يريد أن يمنح العلم قيمة إجتماعية رفيعة ليكون العلم والعلماء هم محور إستقطاب المجتمع، بعيداً عن تأثيرات وضغوطات الثروة والقوة.
وفيما يلي نقرأ معاً الأحاديث الشريفة التي نستلهم منها دور العلم والعلماء، في توجيه المجتمع وحل مشاكل البشرية:
جاء في الحديث عن الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) أنَّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: (أشدّ من يُتم اليتيم الذي إنقطع عن أبيه، يُتم يتيم إنقطع عن إمامه، ولا يقدر الوصول اليه، ولا يدري كيف حكمه فيما يبتلي به من شرائع دينه).
فمع أن اليتيم الذي يفقد أباه في صغره يخسر الكثير في حياته، الا أن من ينقطع عن إمامه العالم هو أشد خسارة منه، ذلك أنه بانقطاعه عن إمامه يخسر الطريق الذي يصل عبره إلى سعادته في الدنيا والآخرة.
ثانياً: سلامة الدوافع لطلب العلم
يعمل الإسلام على تزكية دوافع طلاب العلوم والعلماء، لكي يبعدهم أكثر فأكثر عن التأثر بالمال والقوة. فمثلاً: حين يوقع الطالب الجامعي على وثيقة يتعهد بموجبها أن يخدم الجهة التي تموِّل المعهد الذي يدرس فيه، كأن تكون حكومة أو شركة، أو مؤسسة تجارية أو صناعية، وذلك لمدة خمس سنوات او عشر سنوات، فإنما يوقّع على وثيقة إرتباطه بتلك الجهة التي لم توفر الامكانات لهذا الطالب إلاّ لكي تستخدمه بعد تخرجه في المجال الذي يخدم مصالحها، وهكذا يصبح العلم وبصورة آلية تابعاً للمال، فترى أن الطالب يطلب العلم لا لكي يخدم الجماهير، وإنما لكي ينال مكانة ظاهرية عند الناس، كأن يصير موظفاً يخدم في إحدى وزارات السلطة.
إن النصوص الإسلامية تؤكد وبشدة على ضرورة نظافة نوايا ودوافع طالب العلم، بأن يكون طلب العلم للّه. وحينما يكون للّه، بمعنى سيكون للجماهير أي للمصلحة العامة.
نقرأ في الحديث المروي عن الإمام علي (عليه السلام): (طلبة هذا العلم على ثلاثة أصناف، ألا فاعرفوهم بصفاتهم وأعيانهم: صنف منهم يتعلمون للمراء والجهل، وصنف منهم يتعلمون للإستطالة والختل، وصنف منهم يتعلمون للفقه والعقل. فأمّا صاحب المرآء والجهل، تراه مؤذياً، ممارياً (مجادلاً) للرجال في أندية المقال، قد تسربل بالخشوع، وتخلى من الورع، فدقَّ الله من هذا حيزومه (أي قصم ظهره) وقطع منه خيشومه - أي أرغم أنفه-. وأما صاحب الإستطالة والختل، فإنه يستطيل على أشباهه من أشكاله، ويتواضع للأغنياء من دونهم، فهو لحلوائهم هاضم، ولدينه حاطم. فأعمى الله من هذا بصره وقطع من آثار العلماء أثره. وأما صاحب الفقه والعقل، تراه ذا كآبة وحزن، قد قام الليل في حندسه (أي ظلامه) وقد انحنى في برنسه (لباس الزهد) يعمل ويخشى، خائفاً وجلاً من كل أحد الا من كل ثقة من إخوانه، فشدّ الله من هذا أركانه، وأعطاه يوم القيامة أمانه.
ثالثاً: مكافحة علماء السوء.
يشن الإسلام حملة عنيفة ضد علماء السوء الذين يستغلون مكانتهم في المجتمع ضد مصالح المجتمع نفسه، ويجعلون من علومهم وسيلة تحقيق المآرب الذاتية والأهداف الخاصة.
ولفضح علماء السوء وتعريتهم أمام الناس يعطي الإسلام للمجتمع قيماً ثابتة وواضحة يستطيعون عبرها التعرف على علماء السوء ومن ثم لعنهم وطردهم من ساحة المجتمع.
والقرآن الحكيم يضرب لنا أمثالاً تاريخية لعلماء السوء، ويسمي بعضهم بالكلب والبعض الآخر بالحمار. يقول تعالى وهو يحدثنا عن قصة بلعم بن باعوراء العالم المنحرف في بني إسرائيل الذي استخدم علمه لضرب نبي الله موسى (عليه السلام) ورسالته: "وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي ءَاتَيْنَاهُ ءَايَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَاَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ"(الاعراف،175)
والغواية هي الضلالة بوعي. فقد يضل إنسان طريقه وهو غافل، وقد يضل طريقه عامداً، فهذا الإنسان كان واعياً ولكنه لم يتبع وعيه، فأضلّه الله وكان من الغاوين.
وفي سورة الجمعة يقول تعالى: "مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِاَيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ" (الجُمُعَة،5)
العلماء ورثة الأنبياء
هذا عن علماء السوء الذين باعوا علمهم من أجل شهواتهم، أما العلماء الصادقون الذين تعلموا وعملوا لله، وطبقوا علمهم على أنفسهم قبل أن يصدعوا به، وقاوموا في سبيل ذلك كل الضغوط، وصمدوا كالجبل الأشم في وجه كل الإنحرافات، فهم الذين يجب أن نعرفهم حق المعرفة كي نتمسك بهم ونتخذهم قدوات صالحة لنا في الحياة. هؤلاء هم العلماء الذين تجد في الأحاديث الشريفة صفاتهم:
1- إنهم ورثة الأنبياء، قال رسول الله صلى الله عليه وآله: (العلماء مصابيح الأرض، وخلفاء الأنبياء، وورثتي، وورثة الأنبياء). وقال الإمام علي (عليه السلام): (تفقَّه في الدين، فإن الفقهاء ورثة الأنبياء).
2- إنهم خلفاء الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) حيث قال: (اللهم ارحم خلفائي) فقيل له: يارسول الله ومن خلفاؤك؟ قال: (الذين يأتون من بعدي ويروون عني أحاديثي وسنّتي، فيعلّمونها الناس من بعدي).
3- إنهم كأنبياء بني إسرائيل، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل).
4- إن لهم منازل عظيمة يوم القيامة، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (ألا أحدّثكم عن أقوام ليسوا بأنبياء ولا شهداء، يغبطهم يوم القيامة الأنبياء والشهداء بمنازلهم من الله على منابر من نور؟ فقيل: من هم يا رسول الله؟ قال: هم الذين يحببون عباد الله إلى الله، ويحببون عباد الله إليّ. يأمرونهم بما يحب الله وينهونهم عما يكره الله، فإذا أطاعوهم أحبهم الله).
إن كل هذا التعظيم وهذه المنزلة الرفيعة التي يعطيها الإسلام لعلماء الدين الربانيين، هو ثمن صمودهم في خنادق الرسالة، يتحدون كل الضغوط، يعلّمون الناس معالم دينهم، وسبل سعادتهم في الدنيا والآخرة، وينهضون بهم في وجه كل ظلم وانحراف، وفي وجه كل طاغوت متسلط لا همّ له غير إطفاء نور الله واستعباد الناس وسحقهم.