بصائر... قبسات من رؤى ومحاضرات سَمَاحَة المَرجِعِ الدّيني آيةِ اللهِ العُظمى السّيد مُحَمّد تَقِي المُدَرّسِي
فقدان (الوسطية) و(القيمية) يهدد الشعب العراقي بأزمة هوية
|
*إعداد / بشير عباس
لكل أمة هوية تحيط بها إحاطة السوار بالمعصم، تحافظ على وحدتها ومنهجها الفكري الموحد، وأيضاً على مسيرتها المتصاعدة، وللأمة الاسلامية والشعب العراقي تحديداً هوية أيضاً، لكن عادةً ما تنتاب هذه الهوية تصدّعات وأزمات، وهذا يشهد له تاريخ الأمم والشعوب، وقد رأينا وقرأنا أن بعضها خرج من أتون الحروب والصراعات والأزمات محتفظاً بهويته الدينية أو الوطنية، فيما البعض الآخر خسر وتقمّص هوية أخرى.
هوية لا أهواء؟!
فهل حقاً نعيش في العراق أزمة هوية؟! وما هي دلالات هذه الأزمة إن وجدت بالفعل؟ وما هي الوسائل الكفيلة بعلاج هذه الأزمة؟
لانبتعد كثيراً، فأمامنا تاريخ الاسلام، والتجارب الغنية والساطعة للرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) في صدر الإسلام، والقرآن الكريم يبشّر المسلمين والمؤمنين بأن لهم هوية واضحة تشكل أحد معالم حضارتهم، جاء ذلك في سورة البقرة / الآية 143، في قضية انتقال القبلة من بيت المقدس الى الكعبة المشرفة، يقول سبحانه وتعالى: "وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا..." فما هي الوسطية؟ وماذا تعني كلمة جعلناكم أمة وسطا؟
إنها تعني: أن الانسان قد يتبع القيم والمعايير والمقاييس التي تتحدد له، لكنه قد يتبع الأهواء أيضاً، فإذا اتبع الهوى يكون أمره فرقا، والسبب يعود الى أمرين:
الأول: تقلّب الظروف.. فهي كالرياح التي تجري شمالاً وجنوباً وشرقاً وغرباً، فقد تأخذ بالانسان الى مذاهب شتّى.
الثاني: الأهواء.. فإذا كانت الأمة متبعة للهوى، فلا هوية لها آنئذ، أما إذا كانت تتبع المعايير، فإن المعايير ثابتة لا تختلف لا مع تغيّر الظروف العامة ولا مع تغير أنماط الفرد والجماعات المتعددة التي تعيش داخل اطار الأمة الواحدة، والأمة الاسلامية - من حيث المبدأ- تتبع القيم الواضحة وأساسها قيم الوحي التي تستثير قيم العقل وتتكامل مع الوجدان و تتحول الى منظومة متكاملة من المقاييس التي يستطيع الانسان ان يضبط سلوكه وفقها، كما يمكن للأمة أن تجعلها مرجعية لخلافاتها و وسيلة لوحدتها واطاراً لتجمعها. والقرآن الكريم قام بهذين الدورين؛ بيان قيم الوحي. و تذكرة العقل وتنمية الوجدان وتنقية الفطرة لكي تتكامل هذه القيم مع ذلك العقل البشري وهذه هي الفرصة التي وضعت أمام الأمة الاسلامية التي لا بد أن تصاغ وبصورة كاملة ضمن هذه القيم، ونحن نملك وبفضل الله تعالى وبفضل القرآن الكريم، كل ما يحتاجه الانسان في حياته من معايير ومقاييس وموازين لأن الله سبحانه وتعالى حينما أنزل الكتاب أنزل معه الميزان، يعني انزل معه طريقة التصرّف والتعامل في الحياة، لذا فان أمام الانسان المنهج الكامل لحياته الشخصية في ما يرتبط بتنمية مواهبه ومنهجية فكيره، وفيما يرتبط بعلاقاته بأسرته ومع محيطه الاجتماعي بل ومع الدولة التي تحكمه أيضاً ومع المجتمعات الأخرى المحيطة به، ومن ثم مع كل ما يرتبط به كإنسان من أصغر الى أكبر قضية. والذي يشدّ الانسان الى هذه المنظومة القيمية هو (الوسطية) والاعتدال، وليس التطرّف، لذا نجد المتطرفين والمتشددين عادةً هم الذين يفتقدون المقاييس الواضحة في التعامل مع الآخرين.
الاعتدال والوسطية
إن ظروف الحرب والقتال من أشد ما يعيشه الانسان في حياته، وفي ظل هذه الظروف ربما تصدر من الانسان مواقف وأعمال تخرجه من إطار القيم والمبادئ التي رسمها له الاسلام، وهنا يأتي القرآن الكريم ليحدد لنا قواعد وضوابط القتال والحرب مع المعتدين، وهنالك آيات عديدة تدعونا للتقوى في الحرب، بل وينهانا القرآن الكريم عن الاعتداء على الآخرين كما وينهانا عن القتال بدون دليل، وعن سوء المعاملة مع الأسرى، وهنالك نواهي عديدة، هي بالحقيقة ضوابط وقيم تحيط بالحرب في الاسلام، رغم إن طبيعة الحرب هي الشدّة والغلظة وعادةً تكون بعيدة عن القيم والمبادئ، ولكننا نواجه النهي السماوي عن تجاوز الحدود، وهذا في ظروف الحرب، فما بالنا ونحن في ظروف السلم والاستقرار؟ أما المتشدد فانه حتى في حالة السلم لا يملك مقياساً إزاء الآخرين ولا حتى لتقييم نفسه، فهو يتصرف بلا روية، ولذلك حينما يصف الله تعالى المؤمنين في كتابه المجيد بأنهم (عباد الرحمن) حيث يقول: "وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَاماً"، و الهون بمعنى الاعتدال، وفي القرآن الكريم عشرات الآيات حول الاعتدال؛ في الانفاق والتعامل مع الزوجة والتعامل مع الآخرين.
من هنا فان الأمة الوسط هي الأمة التي تلتزم القيم في علاقاتها مع الاطراف والمحيطة بها، وأيضاً مع شرائحها الداخلية من تنظيمات وشخصيات وطوائف متعددة، فالأمة الوسط تتعامل مع الآخرين أيضاً بنفس القيم التي تحملها، وحينما يأمرنا ربنا سبحانه وتعالى بالعدل لا يخصص العدل فيما يرتبط بجانب أو آخر، بل يقول بصورة عامة: "اعدلوا هو اقرب للتقوى" وحينما يأمرنا بالقسط أيضاً فإنه لا يبين جانباً دون آخر إنما يقول: "وأقسطوا أن الله يحب المقسطين"، بينما نجد اليهودية وبعد أن انحرفت عن الرسالة الالهية التي انزلها ربنا سبحانه وتعالى على النبي موسى (ع) قالت : "ليس علينا في الأميين من سبيل" أي إنهم غير معنيين بمن هو غير يهودي، ولا مسؤولية عليهم إزائه، وهو تصرف أهوج واستكباري، فلا حقوق ولا واجبات، لذا نجد القرآن يعيب عليهم هذه الصفة، أما الأمة الاسلامية فهي تفتخر بان لها قيم ومبادئ حددتها الآية الكريمة من سورة البقرة: "وكذلك جعلناكم امة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس"، بمعنى على المسلمين أن يلتزموا بالقيم فيما يتصل بعلاقاتهم مع بعضهم البعض، وأيضاً ان يلتزموا بالقيم فيما يتصل بعلاقاتهم مع الآخرين، وأن يكونوا مرجعية لتطبيق القيم في العالم كله وليس فقط على الأمة الاسلامية، بمعنى ؛ إذا اختلفت امتان - غير الأمة الاسلامية- فيما بينها وتحاكمتا اليكم فلا بد أن تلتزموا القيم في بيان الحق وليس المصالح، في حين نشهد اليوم صدور الكثير من القرارات الدولية من منظمات ومؤسسات دولية، إما من محكمة لاهاي أو من الأمم المتحدة أو غيرها، وقد كالت بمكيالين و جانبت التوازن والعدالة في الأحكام، لاسيما إذا كانت الدولة صاحبة المشكلة غنية ومقتدرة وعظمى في مجلس الأمن أو من الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن، فإن التعامل معها يكون بطريقة أخرى، وهذا ما يرفضه الاسلام، جاء في الآية الكريمة: "لتكونوا شهداء على الناس" وهذه هي الوسطية التي تمهّد لتطبيق القيم، فالهوية الأساسية للأمة الاسلامية هي الوسطية والرجوع الى القيم والتحاكم إليها وتحديد المواقف عبر تلك القيم، فلا يمكن لشخصٍ ان يتخذ موقفا من شخص آخر أو من مجموعة أو من بلد أو من وضع سياسي معين إلا بعد أن يعود الى قيمه وينظر ماذا أمره الله سبحانه وتعالى وماذا حكم؟ وليست هنالك واقعة في الأرض صغيرة أو كبيرة إلا وللإسلام فيها حكم، لأن كل شيء في الكتاب إما بصورة شخصية كنصّ وإما بصورة عامة.
أمام خطر ضياع الفرصة
وعودةٌ على السؤال الآنف الذكر؛ هل نحن في العراق أمام أزمة هوية؟
إن الحوادث الأخيرة التي جرت في العراق بعد الانتخابات النيابية الأخيرة تنذر بوجود أزمة ولا بد أن ننتبه إليها وإلا سيكون الندم كبيراً على ضياع هذه الفرصة التاريخية التي وفرها الله سبحانه وتعالى لنا، بسقوط الطاغية، لذا يمكن القول؛ إن ثمة خشية من دخول العراق شعباً وتيارات سياسية وطوائف مختلفة في نفق في أزمة الهوية، فالعراقيون يعرفون أنهم ينتمون الى وطن واحد، لكن يُخشى ان يكون هناك اكثر من عراق! -مثلاً- عراق الجنوب وعراق الشمال وعراق الوسط و عراق هذه المحافظة وعراق تلك المحافظة وعراق هذه الطائفة وعراق تلك الطائفة وعراق هذا العرق وذلك العرق! وهذا بمعنى ازمة هوية.
إن الشعب العراقي يُعد من المبادرين في العالم لوضع القانون لحكومته منذ آلاف السنين، وكان ولا يزال يتحدث بالقانون ويملك خزيناً كبيراً من القيم والثقافة، لكنه اليوم يقف حائراً متسائلاً أمام مشكلة ما بعد الانتخابات التي خاضها ولوّن اصبعه من أجل شحن صناديق الاقتراع وإرسال نواب يمثلونه تحت قبة البرلمان، علماً إن عمر الحكومة المنتخبة هي أربع سنوات فقط، وبعدها سيكون هنالك مرشحون جدد ومقترعون، بل هو يتساءل؛ هل من الممكن أن يأتي شخص ويستفرد بحكم العراق أو أن يعيد بالعراق الى ما قبل سقوط الطاغية في بغداد؟!
إذا كان الجواب بالإيجاب، فهو دليل وجود مشكلة في منهجية تفكير ذلك المستبد والمتفرّد في الحكم، فهو ولا يعرف ألف باء السياسة، و(الأمثال تُضرب ولا تقاس)، حينما تأخرت الحكومة البريطانية بعد الانتخابات الاخيرة لمدة أيام عن تشكيل الحكومة قدموا اعتذاراً للشعب البريطاني عن تأخيرهم ثم شكلوا الحكومة مع ظروفهم الصعبة سواء الاقتصادية أو السياسية.
نحن مدعوون الى التفكير ملياً في واقعنا، فهل نحن جديرون بأن نحكم أنفسنا بأنفسنا من دون تدخل خارجي؟! وهل نحن جديرون بأن لا يعتمد كل منّا على دول الجوار او دولة عالمية ويستقوي بها ضد صاحبه وابناء شعبه؟! وهل نحن جديرون بأن نحضى بالديمقراطية والحرية وحكم القانون وحكم الدين أم لا؟ كل يريد أن يستحوذ على المزيد بحق أو غير الحق، والسؤال الأخر؛ اذا كنّا لا نريد ان نتحاكم الى الدين او القيم او القانون او الدستور، فلماذا وضعنا الدستور اساساً؟!
الحل في (لا غالب ولا مغلوب)
لابد من التأكيد على إن الحكومة في العراق لن تكون حكومة جهة واحدة أو من جهات معينة فلا بد أن تكون هناك شراكة وطنية، ولكن من أجل تحقيق ذلك لا بد من حالة وسط، بمعنى أن يتنازل كل طرف عن بعض طموحاته وتطلعاته الخاصة بطائفته او مجموعته وائتلافه او قائمته، للصالح العام، إما أن يقف كل طرف أو شخص على صخرة ويدعو الآخرين للانضمام اليه، فهذه هي أزمة الهوية بعينها، فإذا عجز السياسيون وهم قادة الشعب ونخبته والذين ترنو اليهم انظار الشعب العراقي، عن معالجة مشاكلهم وصراعاتهم واختلاف رؤاهم سواء تحت قبة البرلمان أم في المحكمة الدستورية أو في الجلسات الخاصة، فلا يجب أن يلوموا الشعب العراقي إذا تعرّض للتمزق بسبب الاوضاع الحالية. ومن أجل تفادي مآل كهذا لابد للقادة والنخب السياسية أن تكون مثالاً في التضحية والعطاء والتنازل حتى عن بعض الحق من أجل المستقبل، وليس من العيب أن يكون الأخ ذليلاً عند اخيه، وهذا ما يوصينا به القرآن الكريم: ""أذلة على المؤمنين"، وهي من صفات أولئك الذين يحبهم الله تعالى، كما عليهم البحث عن حل وسط حيث (لا غالب ولا مغلوب)، ومعروف عن النخبة السياسية وعيها بالتراث الديني والكم الهائل من الآيات القرآنية والسيرة النبوية التي يمكن استخراج أكثر من حلٍ من خلالها وإنهاء أزمة تشكيل الحكومة كاملةً.
وفي غير ذلك؛ فان المآل هو وصول حالة التموضع الى داخل الأطر السياسية تدريجياً ثم تهبط الى الأرض حيث الشارع العام، والنتيجة إنها تنخر في نفس الائتلافات السياسية، ومن ثم تنخر في أوساط المجتمع، ثم تسبب في نشر فكرة الانتماءات المصلحية، بمعنى اذا كان الأمر لا يعني الكبار، فإنه لا يعنينا، وهنا نكون أمام أزمة هوية، وهو نشهده في العديد من دول العالم، والمثال الواضح هو الصومال ونستجير بالله تعالى من شر (الصوملة) في العراق، أو من قبل شر (البلقنة) حيث عاشت شعوب البلقان نفس المشاكل والصراعات الدموية، والعديد من شعوب حتى انتهى بهم الأمر الى التمزّق والتناحر وغياب الأمن والاستقرار.
من هنا على علماء الدين وأهل البصائر والمثقفين والناس الذين تنبض قلوبهم بحب الشعب العراقي أن يفكروا ملياً بالأمر، وكذلك على دول الجوار وعلى الذين لديهم مصالح في هذا البلد، عليهم أن يفكروا بأن مصالحهم في العراق إنما تؤمن مع وحدة العراق واستقراره، فاذا دفعوه نحو التمزق والاختلاف أو إذا اهتزت الوحدة في العراق فإن دول الجوار لا تبقى بمنأى عن المشاكل ونحن شعب نؤمن بالله والنبي وبأهل البيت (ع) وبالتاريخ المجيد الذي نملكه ونؤمن بالمرجعيات الدينية والمرجعيات العشائرية والمرجعيات السياسية، فبامكاننا أن نستفيد من كل ذلك في تجاوز هذه المرحلة؟
|
|