في ذكراها...
إستراتيجية (الصلح) عند الإمام الحسن عليه السلام
|
*إعداد / عبد الحسين ماشاء الله
ما أكرم أبا محمّد الحسن المجتبى عليه السلام، وأسخى تضحيته حين أقدم على (الصلح) الذي عدّه بعض حواريِيه ذُلاًّ وزعَمَهُ أعداؤه جبناً واستسلاماً، ولم يكن إلاّ أروع صور النصر على الذات، ومقاومة نزوة الهوى، والمحافظة على دماء المسلمين، وتحقيقاً لكلمة الرسول الصادق المصدّق (صلى الله عليه وآله وسلم) حين قال: (إنّ ابني هذا سيّد، ولعلّ الله عزَّ وجلَّ يصلح به بين فئتين من المسلمين).
فلولا أنّ الحسن عليه السلام كان قدوة الصلاح و أسوة التضحيات ومجمع المكرمات، وكان بالنتيجة الإمام المؤيَّد بالغيب، لتمزَّقت نفسه الشريفة بصعود معاوية أريكة الحكم، وهو الذي قال فيه الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا رأيتم معاوية هذا على منبري فاقتلوه). ولولا اتصال قلبه الكبير بالسماء، إذاً لمات كمداً، حيث كان يرى تقهقر المسلمين وصعود نجم الجاهلية الجديدة. ولولا حلمه العظيم النابع من قوة إيمانه بالله وتسليمه لقضائه، إذاً ما صبر على معاوية، وهو يرقى منبر جده، ويمزق منشور الرسالة، ويسبُّ أعظم الناس بعد الرسول.
بلى... ولكنّ الحسن عليه السلام آثر الآخرة على الدنيا، وقبل الهدنة (الصلح) للاسباب التالية :
الحكم وسيلة وليس هدفاً
1- إن نظرة أهل البيت عليهم السلام إلى الحكم كانت تنبع من أنَّه وسيلة لتحقيق قِيَم الرسالة. فإذا مال الناس عن الدين الحق، وغلبت المجتمع الطبقات الفاسدة، وأرادت تحويل الدين إلى مطيّة لمصالحهم اللامشروعة؛ فليذهب الحكم إلى الجحيم، ولتبقِ شعلة الرسالة وقّادة، ولتصب كلّ الجهود في سبيل إصلاح المجتمع أولاً، وبشتّى الوسائل المتاحة. قال الإمام علي عليه السلام عن أسلوب الحكم : (والله ما معاوية بأدهى منّي، ولكنه يغدر ويفجر، ولولا كراهية الغدر لكنت من أدهى الناس. ولكن كلّ غُدَرَة فُجَرَة وكلّ فُجَرَة كُفَرَة، ولكلّ غادرٍ لواءٌ يُعرف به يوم القيامة. والله ما أُستغفَلُ بالمكيدة ولا أُستغمَزُ بالشديدة).
كوفة الجند وطمع العسكر
2- عاش الإمام الحسن عليه السلام مرحلة هبوط الروح الإيمانية عند الناس، وبالذات في القبائل العربية التي خرجت من جوِّ الحجاز، وانتشرت في أراضي الخير والبركات، فنسيت رسالتها أو كادت. فهذه كوفة الجند التي تأسست في عهد الخليفة الثاني لتكون حامية الجيش، ومنطلقاً لفتوحات المسلمين الشرقية، أصبحت اليوم مركزاً لصراع القبائل، وتسييس العسكر، وأخذ يتبع من يعطي أكثر. فبالرغم من وجود قبائل عربية حافظت على ولائها للإسلام والحق ولخط أهل البيت الرسالي، إلاّ أنَّ معظم القبائل التي استوطنت أرض السواد حيث الخصب والرفاه بدأت تبحث عن العطاء، حتى أنَّهم تفرقوا عن القيادة الشرعية، وبدأوا يراسلون المتمرِّدين في الشام حينما عرفوا أنّ معاوية يبذل أموال المسلمين بلا حساب، بل إنَّك تجد ابن عمِّ الإمام الحسن وقائد قوات الطليعة في جيشه، عبيد الله بن العباس، يلتحق بمعاوية طمعاً في دراهمه السخية التي بلغت مليون درهم.
لقد تعبت الكوفة من الحروب، وبدأت تفكِّر في العيش الرغيد، وغاب عنهم أهل البصائر الذين كانوا يحومون حول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، ويذكِّرون الناس باليوم الآخر، ويبيّنون للناس فضائل إمامهم الحق. لقد غاب عنهم اليوم عمار بن ياسر الذي كان ينادي بين الصفيْن في معركة صِفِّين: الرواحَ إلى الجنة !. ومالك الأشتر الذي كان لعليٍ عليه السلام مثلما كان عليٌّ لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بطلاً مقداماً، وقائداً ميدانيّاً محنّكاً. وغاب ابن التيهان الذي يعدّه الإمام علي عليه السلام أخاً له، ويتأوّه لغيابه، بلى لقد غاب أهل البصائر من أصحاب الرسول وأنصارعلي عليه السلام الذين كان أمير المؤمنين عليه السلام يعتمد عليهم في إدارته للحروب.
وبالرغم من أن أمير المؤمنين عليه السلام كان قد جهّز جيشاً لمقارعة معاوية قبيل استشهاده، وهو ذلك الجيش الذي قاده من بعده الإمام الحسن عليه السلام إلاّ أنّ خور عزائم الجيش، واختلاف مذاهبه وخيانة قواده، كان كفيلاً بهزيمته حتى ولو كان الإمام علي عليه السلام هو الذي يقوده بنفسه. إلاّ أنَّ التقدير كان في استشهاد البطل، وأن يتمَّ الصلح على يد نجله العظيم الذي أخبر الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) (أن الله سوف يُصلح به بين طائفتين من أمته). ويشهد على ذلك ما جاء في حديث مأثور عن الحارث الهمداني قال: لمّا مات عليّ عليه السلام جاء الناس الى الحسن وقالوا: أنت خليفة أبيك ووصيّه، ونحن السامعون المطيعون لك، فمرنا بأمرك فقال: (كذبتم...! والله ما وفيتم لمن كان خيراً منِّي، فكيف تفون لي؟! وكيف أطمئنُّ إليكم ولا أثقُ بكم؟! إن كنتم صادقين فموعد ما بيني وبينكم معسكر المدائن فوافُوا إلي هناك).
(الصلح).. كشف زيف معاوية
3- شروط الصلح التي أملاها الإمام على معاوية، وجعلها بذلك مقياساً لسلامة الحكم، تشهد على أنَّه عليه السلام كان يخطِّط لمقاومة الوضع الفاسد، ولكن عبر وسائل أخرى. لقد جاء في بعض بنود الصلح ما يلي :
1- أن يعمل معاوية بكتاب الله وسنّة رسوله وسيرة الخلفاء الصالحين.
2- ليس لمعاوية بن أبي سفيان أن يعهد إلى أحد من بعده عهداً بل يكون الأمر من بعده للحسن، ثم لأخيه الحسين، وفي بعض المصادر: شورى بين المسلمين.
3- على أن الناس آمنون حيث كانوا من أرض الله في شامهم، وعراقهم، وحجازهم، ويمنهم.
4- على أنّ أصحاب عليّ وشيعته آمنون على أنفسهم وأموالهم ونسائهم وأولادهم.
5- على أن لا يبغي للحسن بن عليّ ولا لأخيه الحسين ولا لأحد من أهل بيت رسول الله غائلة سراً ولا جهراً، ولا يخيف أحداً منهم في أفق من الآفاق.
إنَّ نظرة خاطفة لهذه الشروط تدلنا إلى أنَّها اشتملت على أهمّ قواعد النظام الإسلامي من دستورية الحكم (على هدى الكتاب والسنّة) وشورويّة الحكم. وإنَّه مسؤول عن توفير الأمن للجميع وبالذات لقيادة المعارضة، وهم أهل بيت الرسول. وقد قَبِل معاوية بهذه الشروط، مما جعلها أساساً للنظام عند الناس. وقد وجد الإمام بذلك أفضل طريقة لتبصير الناس بحقيقته، وتأليب أصحاب الضمائر والدين عليه.
لقد تحمّل الإمام الحسن عناءً كبيراً في إقناع المسلمين بالصلح مع معاوية، حيث إنّ النفوس التي كانت تلتهب حماساً، وكانت معبأة نفسيّاً ضد معاوية، فكانت تأبى البيعة معه. على أنّ القشريين من طائفة الخوارج كانت ترى كفر من أسلم الأمر إلى معاوية، وقد قالوا للإمام الحسن عليه السلام : (كفر والله الرجل)!
وقد خطب الإمام بعد صلحه مع معاوية في الناس وقال: (أيها الناس إنكم لو طلبتم ما بين جابلقا وجابرسا رجلاً جدّه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما وجدتم غيري وغير أخي. وإنَّ معاوية نازعني حقّاً هو لي فتركته لصلاح الأمة، وحِقن دمائها. وقد بايعتموني على أن تسالموا من سالمت، وقد رأيت أن أُسالمه وأن يكون ما صنعت حجةً على من كان يتمنّى هذا الأمر، وإنْ أَدري لعلّه فتنة لكم ومتاع إلى حين).
ومع ذلك فقد عارضه بعض أفضل أصحابه في ذلك. فقال حجر بن عدي رضوان الله عليه له: (أما والله لَوَددتُ أنك متّ في ذلك اليوم، ومتنا معك ولم نَرَ هذا اليوم، فإنا رجعنا راغمين بما كرهنا، ورجعوا مسرورين بما أحبّوا). ويبدو أن الإمام كره أن يجيبه في الملأ إلاّ أنَّه حينما خلا به قال: (يا حجر قد سمعتُ كلامك في مجلس معاوية. وليس كلُّ إنسان يُحب ما تُحب، ولا رأيه كرأيك، وإنّي لم أفعل ما فعلت إلاّ إبقاءً عليكم، واللـه تعالى كلَّ يوم هوفي شأن).
وكان سفيان من شيعة أمير المؤمنين والحسن عليه السلام، ولكنَّه دخل على الإمام وعنده رهط من الناس فقال له: السلام عليك يا مُذِلَّ المؤمنين. فقال له: وعليك السلام يا سفيان.
يقول سفيان: فنزلت فعقلت راحلتي ثم أتيته فجلست إليه فقال: كيف قلت يا سفيان؟! قال: قلت: السلام عليك يا مُذِلَّ المؤمنين. والله بأبي أنت وأمّي أذللت رقابنا حين أعطيت هذا الطاغية البيعة، وسلّمت الأمر إلى اللعين ابن آكلة الأكباد، ومعك مئة ألف كلّهم يموت دونك، وقد جمع الله عليك أمر النّاس. فقال: (يا سفيان إنّا أهل بيت إذا علمنا الحقَّ تمسّكنا به، وإنّي سمعت عليّاً عليه السلام يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: لا تذهب الأيّام واللّيالي حتّى يجتمع أمر هذه الأمة على رجل واسع السرم، ضخم البلعوم، يأكل ولا يشبع، لا ينظر الله إليه، ولا يموت حتى لايكون له في السماء عاذر، ولا في الأرض ناصر، وإنّه لمعاوية. وإنّي عرفتُ أنّ الله بالغ أمره).
ثم أذّن المؤذِّن فقمنا إلى حالب يحلب ناقته فتناول الإناء فشرب قائماً ثمّ سقاني وخرجنا نمشي إلى المسجد فقال لي : ما جاء بك يا سفيان...؟ قلت: حُبُّكم والذي بعث محمدّاً بالهدى ودين الحق. قال: فأبشر يا سفيان فإنّي سمعت عليّاً عليه السلام يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: يرد عليّ الحوض أهل بيتي ومَن أحبّهم من أُمّتي كهاتين - يعني السبابة والوسطى- إحداهما تفضل على الأخرى، أبشر يا سفيان، فإنّ الدنيا تسع البرّ والفاجر، حتّى يبعث الله إمام الحقّ من آل محمّد صلى الله عليه وآله وسلم.
|
|