الإمام الحسن العسكري في ذكرى ولادته الميمونة..
الإعداد للقيادة الرسالية والحفاظ على كيان الدولة الاسلامية
|
إعداد / علي جواد
قبل البدء بكتابة الشيء المتواضع للانضمام الى ما كتب عن الأئمة الهداة المعصومين عليهم السلام، ونحن نعيش ذكرى ولادة إمامنا الحادي عشر الحسن بن علي العسكري عليه السلام، لابد لنا من وقفة تأمل في التدوين التاريخي لسيرة أئمتنا المعصومين، فالقارئ ربما يشعر بانه ليس على مسافة واحدة من جميع الأئمة المعصومين ومعهم طبعاً الرسول الأكرم وبضعته الطاهرة الزهراء صلوات الله عليهم، والسبب هو انه يجد نفسه تارةً أمام كمٍ هائل من الدراسات والبحوث حول الامام علي أو الامام الصادق عليهما السلام، بينما لا يجد ما يماثل ذلك مع الامام العسكري أو والده الامام الهادي عليهما السلام، وهنالك سبب ربما من جملة أسباب أدت بالمؤرخين لأن يكتبوا عن هذا الامام دون ذلك الامام، ألا وهو جانب الإثارة والحماس الذي يصدر من أحداث الصدام والاحتكاك مع التيارات الفكرية أو السلطات الحاكمة، ولعل هذا السبب يكون مفهوماً الى حدٍ ما، لأن معظم المؤرخين، بل معظم المؤلفات التاريخية التي بين أيدينا هي بالحقيقة تاريخ للأمراء والملوك وأحوال الغزوات والملاحم والفتن وغيرها، وليس هناك اهتمام للعلم والعلماء والثقافة والمجتمع وهو ما كان يوليه الأئمة الأطهار أهمية بالغة.
وفي كتابه (التاريخ الاسلامي)، يوصي سماحة المرجع الديني آية الله العظمى السيد محمد تقي المدرسي (حفظه الله)، الكتاب والمؤرخين المعاصرين بالتخلّي عن التقيّد بالروايات التاريخية ونقلها كما هي، والتقدم خطوة جديدة نحو دراسة الرواية التاريخية والبحث في الاشخاص والرموز المهمة التي تتضمنهم الرواية عن الأئمة المعصومين، وكذلك دراسة الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وحتى النفسية، وهذا من شأنه أن يكشف لنا الكثير من الحقائق حول الظروف التي عاشها الأئمة المعصومون، وبالنتيجة يكون بامكاننا استنباط الدروس والعبر من حياتهم الكريمة، لاسيما من الأئمة الذين لا تدخر كتب التاريخ لهم الشيء الكثير.
*ولادة في خضم الأحداث
ولد الإمام أبو محمد الحسن بن علي الملقّب بالعسكري في الثامن من شهر ربيع الثاني سنة 231 للهجرة في المدينة المنورة، كما هو حال جميع أئمتنا ما عدا الإمام علي عليه السلام الذي ولد في الكعبة، والإمام الحجة المنتظر (عجل الله فرجه) الذي ولد في سامراء، ومن المفارقات في حياة إمامنا العسكري انه عاش مع والده الامام الهادي عليه السلام مدة ثلاث وعشرين سنة، وكانت مدة إمامته ست سنوات فقط، بينما كانت مدة إمامة والده ثلاثا وثلاثين سنة، وكانت تُعد من الفترات الطويلة في حياة الأئمة المعصومين. وفي هذه الفترة الذهبية تمكن الإمام الهادي عليه السلام من تأسيس قاعدة رسالية عريضة ومتماسكة تمتد جذورها في قم والكوفة والمدينة ومصر وبقية المناطق الاسلامية، حيث كانت تصله الرسائل والوفود والحقوق الشرعية، وكان يجيب عن أسئلتهم وحوائجهم. وقد كان عليه السلام دائم التنقل بين مدينة سامراء ومدينة جده رسول الله (صلى الله عليه وآله).
إن السبب في تراجع النهج القمعي لدى السلطات العباسية في ذلك العهد يعود بالدرجة الأولى الى انشغال السلطة بالمشاحنات الداخلية والتنافس المحموم على النفوذ بين الأسرة العباسية التي كان يتزعمها المتوكل، وبين القادة الأتراك في الجيش العباسي الذين ورثوا السطوة والحظوة من المتعصم العباسي الذي كان أول من قربهم وأرسى دعائم الجيش على أكتافهم وقدراتهم القتالية وقسوتهم والأهم من ذلك طاعتهم العمياء، لكن التاريخ يحدثنا بان نفوذ هؤلاء القادة كان في تعاظم وانتشار، بحيث كانوا يغطون على وجود الحاكم العباسي وهيمنته السياسية، وليس أدل على ذلك ما يذكره المرجع المدرسي في (التاريخ الاسلامي)، من ان نفوذ وتأثير الامام الهادي عليه السلام امتد حتى الى كبار رجال البلاط العباسي الأمر الذي مكّن الامام من الاطلاع على الكثير من خطط السلطات العباسية ضد الحركة الرسالية.
ومن المفارقات المهمة في عهد الامام الهادي عليه السلام، ومما يدلنا على عظم تأثيره ونفوذه على النفوس، إن المتوكل أصيب بمرض من دماميل وقروح كبيرة في جسمه، ولم تنفع معه وصفات الحكماء والأطباء حتى شارف على الهلاك، وقيل انه لم يجسر أحد أن يمسه بحديدة! فنذرت أم المتوكل إن عوفي بواسطة الامام الهادي أن تحمل اليه مالاً جليلاً، وهذا ما حصل، حيث أرسل الإمام الى البلاط العباسي بوصفة قال فيها: (خذوا دهن الغنم وديّفوه بماء ورد وضعوه على الخراج، فانه نافع باذن الله)، وما أن نفذوا ما جاء الوصفة حتى انفتح الخرّاج وخرج ما فيه، والتأم الجرح وبرأ المتوكل. لكن بقي أن نذكّر إن المتوكل هذا هو نفسه الذي أمر بهدم قبر الامام الحسين عليه السلام سنة 226 للهجرة وما حوله من الدور، بل انه أمر أيضاً بحرث الأرض ثم إغراقها بالمياه، في محاولة بائسة منه للحد من تحوّل هذا المرقد الشريف الى منطلق للثائرين والرساليين، لكن الإمام الهادي بحنكته وكياسته كان قد استولى على القلوب، فلم يجرؤ أحد على المساس به.
*الامام العسكري والعسكر
من هنا نفهم سبب تشديد السلطات العباسية وطأة القمع والتنكيل بإمامنا العسكري بعد استشهاد والده الامام الهادي (عليهما السلام)، فالتاريخ يشير الى ان الامام الهادي لم يكن تحت الاقامة الجبرية فقد كان يتنقل بين المدينة وسامراء ويمارس دوره القيادي والرسالي بشيء من الحرية، لكن ما أن وصلت الإمامة الى ولده الحسن العسكري والذي كان يقيم معه في سامراء، حتى فُرضت عليه السلطات الحاكمة آنذاك الاقامة الجبرية في نفس منطقة (العسكر) التي اتخذها العباسيون مجبرين عاصمة لهم بدلاً من بغداد، بسبب تعاظم الدور العسكري وانتشار نفوذ القادة الأتراك في كيان الدولة الاسلامية، وأهم سبب دفع العباسيين لفرض الاقامة الجبرية على الامام العسكري هو عجزهم عن السيطرة على الثورات والتحركات المتواصلة لشيعة أهل البيت في مناطق متعددة من البلاد الاسلامية، وهي كلها مدينة الى ما قام به الامام الهادي عليه السلام، وقد واصل الإمام العسكري مع قصر فترة إمامته ما بدأه والده عليه السلام من تربية وتنشئة الطليعة الرسالية والرموز القيادية التي حملت فيما بعد مشعل الرسالة والسفارة من بعد الغيبة، ونظراً لسياسة القمع والاضطهاد التي شددها العباسيون على أهل البيت عليهم السلام، اضطر إمامنا العسكري لاتباع نهج (التقيّة) للحفاظ على حياة وسلامة الطليعة الرسالية، وكان يأمر أصحابه بالتزامها كشرط من شروط الولاء للامام، وجاء في التاريخ أنه عليه السلام، كتب الى اصحابه (ألا لا يسلمنّ عليّ أحد، ولا يشير إليّ بيده ولا يومئ، فانكم لا تأمنون على أنفسكم...)، وهذا دليل على حرص الامام على حياة أصحابه من بطش وقسوة العباسيين الذين كانوا يشعرون بالخطر المميت من جانب شيعة أهل البيت، لذا لم يكونوا ليتورعوا عن ارتكاب كل الجرائم والتجاوزات للوقوف أمام هذا الخطر والحفاظ على مكانتهم في السلطة.
*إضاءات للحياة
رغم ما مرّ من الحديث عن التضييق على إمامنا العسكري عليه السلام، إلا ان هذا لم يمنع أتباعه من المخلصين من الاتصال به وكتابة وصاياه وأحاديثه، ولنا وقفة مع باقة من الأحاديث التي من شأنها أن تنير لنا درب الحياة وسط الظلمة التي نعيشها اليوم: فقد جاء عنه عليه السلام في فنون التعامل والسلوك الاجتماعي: (لا تمار فيذهب بهاؤك، ولا تمازح فيُجترأ عليك)، وأيضاً: (من التواضع، السلام على كل من تمر به، والجلوس دون شرف المجلس)، وجاء عنه أيضاً: (أورع الناس من وقف عند الشبهة). وقال عليه السلام في أمر الاعتدال وضرورته: (إن للسخاء مقدار، فإن زاد عليه فهو سرف وللحزم مقدار، فإن زاد عليه فهو جبن. وللاقتصاد مقدار، فإن زاد عليه فهو بخل. وللشجاعة مقدار، فإن زاد عليه فهو تهور. كفاك أدباً تجنبك ما تكره من غيرك). وقال عليه السلام: (خير إخوانك من نسي ذنبك وذكر إحسانك إليه). وعن صفة الكذب قال عليه السلام: (جعلت الخبائث في بيت وجعل مفتاحه الكذب). وعن التحصّن بالذكر الجميل قال: (من كان الورع سجيته والإفضال حليته انتصر من أعدائه بحسن الثناء عليه، وتحصن بالذكر الجميل من وصول نقص إليه). وعن معنى العبادة قال عليه السلام: (ليست العبادة كثرة الصيام والصلاة، وإنما العبادة كثرة التفكر في أمر الله). وقال أيضاً : (الغضب مفتاح كل شر). وقال أيضاً: (أقل الناس راحة الحقود). وعن ضرورة الموعظة في السر قال عليه السلام: (من وعظ أخاه سراً فقد زانه، ومن وعظه علانية فقد شانه). ومن جميل ما قال عن الحياة والموت: (خير من الحياة ما إذا فقدته أبغضت الحياة، وشر من الموت ما إذا نزل بك أحببت الموت).
*مصلحة الأمة قبل كل شيء
هذه القصة ننقلها من كتب التاريخ بكثير من الفخر والاعتزاز لأنها تؤكد أحقية أئمة أهل البيت عليهم السلام في أمر الخلافة والحكم فهم الأكثر حرصاً على الدين والعقيدة والانسان من غيرهم من الطغاة والمتجبرين الذين عاثوا في الأرض فساداً وحرقوا الحرث والنسل، فقد روي أن المسلمين أصيبوا بالجفاف وقلّة الامطار وكاد الناس أن يصابوا بازمة اقتصادية ومعيشية خانقة، فأمر الحاكم العباسي الذي يكون المعتمد العباسي الذي خلف المتوكل، بأن يخرج الناس إلى الاستسقاء، فخرجوا ثلاثة أيام متوالية إلى المُصَلَّى يدعون لكن دون جدوى.
وبينا هم كذلك واذا بـ(الجاثليق) وهو رأس النصارى يخرج في اليومِ الرابع إلى الصحراء، ومعه النصارى والرهبان، وكان فيهم راهب كلما مدَّ يده نحو السماء حتى هطلت بالمطر، فأثار ذلك استغراب الناس بل وسبب في شكوك البعض، وكادوا يتوجهون نحو النصرانية، وبلغ الأمر البلاط العباسي الذي يوجد في الأمر خطراً ماحقاً على المسلمين وإنما على الخلافة وكيان الدولة الاسلامية، فأنفذ (الخليفة) إلى الإمام العسكري عليه السلام وكان حينها رهن الاقامة الجبرية، وقال له : إدرك أمَّة جدك فقد هلكت! فقال عليه السلام: (إني خارج في الغدِ، ومزيلُ الشك إن شاء الله تعالى). فخرج الجاثليق في يوم غد ومعه الرهبان، وخرج الإمام العسكري عليه السلام في نفرٍ من أصحابه، فلما بصر بالراهب وقد مدَّ يده أمر بعض أصحابه أن يقبض على يده اليمنى ويأخذ ما بين إصبعيه، فَفَعلَ وإذا وهو عظم صغير فأخذه الإمام عليه السلام منه، ثم قال له: (إستسقِِ الآن)، فاستقى وكانت السماء مُتَغَيِّمَةً فتقشَّعَت وطلعت الشمس بيضاء. فقال (الخليفة العباسي): ماهذا العظم يا أبا محمد ؟ فقال عليه السلام: (هذا رجل مرَّ بقبر نبيٍّ من الأنبياء، فوقع بيده هذا العظم، وما كُشِفَ من عظم نبيٍّ إلا وهَطَلَتِ السماء بالمطر). وهنا صلّى الإمام العسكري عليه السلام بالناس باعداد غفيرة لاتعد ومعهم (الخليفة) وما أن رفع يديه المباركتين الى السماء حتى تلبدت الغيوم وهطلت الأمطار بغزارة فسارع الناس للذهاب الى بيوتهم وقد حفظوا دينهم من الشطط والتشكيك، كما سلمت الدولة الاسلامية من الاختراق الاجنبي.
|
|