الثامن من شوال المعظم .. ذكرى الهدم التكفيري
بقيع الغرقد.. خسارة حضارية
|
*حسين محمد علي
في ذكرى هدم قبور ومزارات الأولياء الصالحين في مكة والمدينة المنورة، لنا أن نسأل ماذا ربح حكام آل سعود بقرارهم الجاهلي ذاك؟ وماذا خسر المسلمون في العالم بفقدان تلكم المزارات الشريفة والمعالم الأثرية؟
إن حادثة هدم قبور أئمة البقيع وسائر أولياء الله الصالحين وأيضاً المعالم والمشاهد الاسلامية العريقة في المدينة المنورة، ليست حادثة عادية صادرة من فئة أو طائفة أنكرت وجود هكذا أمور، أو وضعتها في عداد معالم الشرك، وإلا فان حكام السعودية الذين كفّروا – بزعمهم- تشييد القبور، يشهدون في جميع انحاء البلاد الاسلامية القباب الضخمة والمآذن الشاهقة والمباني الفخمة والعظيمة التي تضم قبور أئمة وأولياء صالحين، وهي موجودة وقائمة رغم الإرادة الوهابية، حيث يؤمها الملايين من المسلمين، ليتقربوا من خلالها الى الله تعالى.
إذن، لماذا يجب زوال وهدم القبور المشيّدة والمعالم الأثرية الاسلامية في السعودية على وجه التحديد، ولا بأس بأن تكون في سائر انحاء العالم؟ وهناك سؤال، ربما يدور في خلد البعض، عن سبب عدم دعوة حكام السعودية يوماً بهدم مزار أو مرقد أو معلم تاريخي اسلامي منذ تنفيذهم للمخطط الاجرامي عام 1923 وحتى اليوم؟
التوقيت
شهدت مقبرة البقيع عمليات هدم أول مرة عام 1220هـ الموافق لعام 1881م، وذلك على يد الدولة السعودية الاولى، إلا ان المسلمين سارعوا لاعادة بناء المزارات والقبور من خلال التبرعات والمساهمات التي جاءت من كل مكان، فبنيت القباب والمساجد بشكل فني رائع حيث عادت هذه القبور المقدسة محط رحال المؤمنين بعد أن تراجعت سطوة الوهابيين لحين من الوقت.
أما الهدم الثاني والاخير فقد وقع عام 1344هـ الموافق لعام 1923م وذلك بعد قيام الدولة السعودية الثالثة التي تبنت المذهب الوهابي، فقاموا بتهديم المشاهد المقدسة للائمة الأطهار (عليهم السلام) وأهل بيت رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فاصبح البقيع الذي يُسمى بالغرقد في عهد النبي الأكرم لكثرة أشجاره، بقعة واسعة من التراب والأحجار المترامية.
لكن لماذا جاء القرار في هذا الوقت بالذات؟
لو راجعنا التقويم التاريخي لوجدنا إن عام 1923م قريباً عن انعطافة خطيرة وقعت في تاريخ الاستعمار البريطاني في المنطقة، اضافة الى انها الفترة التي اعقبت انهيار الدولة العثمانية العتيدة، وتفكك البلاد الاسلامية التي كانت تابعة لها ومنها العراق، ففي عام 1920م تعرض البريطانيون لهزيمة سياسية وعسكرية منكرة على يد ابناء الشعب العراقي بقيادة المرجعية الدينية الرشيدة في كربلاء المقدسة متمثلة بالمرجع الكبير آنذاك الميرزا الشيخ محمد تقي الشيرازي (طاب ثراه)، فيما عُرف فيما بعد بـ (ثورة العشرين) والتي أجبرت الامبراطورية البريطانية على الانسحاب من العراق بعد ان كانت تتصور انها قد تكون مثل الهند – مثلاً- يرزح تحت الاحتلال لعقود و قرون من الزمن ويكون تابعاً للتاج البريطاني.
ولم يخف على البريطانيين العارفين بأمور التاريخ والشعوب والأديان، ان سر انتصار العراقيين عليهم مع قلتهم وبدائية اسلحتهم، هو العامل المعنوي الذي ينبع من مراقد الأئمة المعصومين، حيث مصدر الإلهام الكبير. لذا لم يجدوا من صالحهم بقاء مراقد اربعة أئمة الى جانب عدد كبير من المشاهد والمزارات المهمة جداً عند المسلمين والمجاورة لمرقد الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله)، لاسيما وان المدينة المنورة وأيضاً مكة المكرمة لم تكن لتؤمن وتخضع بشكل كامل للفكر الوهابي، إذ ان حملة هذا الفكر على الأغلب من منطقة نجد وسط السعودية، حيث مصدر البداوة والخشونة واللاتحضّر.
إن عملية قطع وبتر شعب ما عن تاريخه وتراثه، مسألة واضحة المقاصد والاهداف، إذ من المعروف ان الشعوب والأمم التي تروم التقدم والتطور تبحث عن جذور تاريخية لامجادها وحضارتها ورموزها، وهذا بالتأكيد لا يتوفر الا بوجود معالم وآثار ملموسة عن تلكم الامجاد والرموز العظيمة. ومثال الشعب الذي حاول الغرب والقوى الاستعمارية سلبه تاريخه وعمقه الحضاري، الشعب الايراني قبل ان ينتفض ويثور بوجه الحاكم الطاغية صديق الغرب، ويؤسس دولة جديدة استلهاماً من التعاليم الاسلامية تعكس تلك الصورة المشرقة لايران تاريخياً وحضارياً امام العالم.
إن الحكام السعوديين ضحوا بالمعالم التاريخية والحضارية الاسلامية لضمان مستقبلهم السياسي وبقائهم في السلطة يتوارثونها أباً عن جد، بالمقابل راحوا يزعقون وينعقون بتكفير كل من يمارس طقوسه العبادية الى جانب تلكم المراقد الشريفة، أو حتى زيارتها والسلام على أهلها، وهي سنّة معروفة منذ زمن النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله)، لنلاحظ سمات كل إمام من أئمة الهدى الراقدين في البقيع الغرقد، نجد أن كل واحد منهم يمثل رافداً حضارياً معطاءً، فالتوجه الحكيم لدى الامام الحسن المجتبي والتوجه الانساني والروحاني لدى الامام السجّاد والتوجه العلمي لدى الإمامين الباقر والصادق (عليهم السلام). كل ذلك لم يشفع لعقول الوهابيين بان تتفتح لكل هذا النور الساطع والعطاء الزاخر.
إذن؛ فالرسالة واضحة... إما أن تهدموا المعالم الاسلامية والتاريخية لديكم، وإما ان ترحلوا عن الحكم، لأن هنالك من يتخذ من هذه المعالم والمشاهد مصدر إلهام وقوة للتغيير والانبعاث الاسلامي الجديد ويقلب عليكم الأمور رأساً على عقب، فيعود عرب الجزيرة العربية الى عهد الرسول الأكرم (ص)، حيث ضياع المصالح وتلقي الدروس الاخلاقية والتربوية باستمرار، ومراقبة السلوك اليومي وغير ذلك من مهام الرسالة المحمدية.
النبي الأكرم و زيارة القبور
منذ صدر الاسلام أصبح البقيع في المدينة المنورة مدفناً لعدد كبير من الصحابة والأجلاء من المهاجرين والانصار، وكان النبي الأكرم يقصد البقيع و يؤمه كلما مات أحد من الصحابة ليصلي عليه ويحضر دفنه..
روى مسلم في صحيحه عن عائشة أنها قالت: (كان رسول الله كلما كانت ليلتي منه يخرج من آخر الليل الى البقيع فيقول سلامٌ عليكم دار قومٍ مؤمنين، اتاكم ماتوعدون، وانّا أن شاء الله بكم لاحقون، اللهم أغفر لاهل بقيع الغرقد ...).
وحدّث محمد بن عيسى بن خالد عن عوسجة قال: (كنت أدعو ليلة الى زاوية دار عقيل بن أبي طالب التي تلي الباب فمر بي جعفر بن محمد – يعني الإمام الصادق عليه الصلاة والسلام – فقال لي أ عن أثرٍ وقفت هاهنا ؟ قلت لا، فقال هذا موقف نبي الله (ص) بالليل إذا جاء يستغفر لاهل البقيع).
المعالم والمزارات .. الخسارة
بذلك القرار الجائر والجاهلي من الوهابيين خسر المسلمون في الجزيرة العربية وفي العالم بأسره معالم حضارية ودينية عريقة، وفيما يلي نذكر بعض تلكم المعالم والشواهد التي لم يبق منها اليوم سوى التراب والاحجار التي يخشى الوهابيون اليوم من ان يقترب أحد منها:
1- قبة أزواج النبي وأولاده وبناته ومرضعته (صلى الله عليه وآله) حليمة السعدية.
2- قبة أم البنين (عليها السلام) زوجة الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام).
3- قبة عمات النبي (صلى الله عليه وآله).
4- قبة جابر بن عبد الله الأنصاري.
5- قبة فاطمة بنت أسد أم أمير المؤمنين (عليه السلام).
وأكبر القباب كانت قبة أئمة البقيع (عليهم السلام)، فقد كانت قبة واحدة مرتفعة أكبر من سائر القباب، وتضم أربع مراقد لأئمة الهدى وهم الامام الحسن والامام السجّاد والامام الباقر والامام الصادق (عليهم السلام). وكانت خارج القبة بفاصلة قليلة قبةٌ مبنية على بيت الأحزان، حيث كانت الزهراء (عليها السلام) تخرج إلى ذلك المكان وتبكي على أبيها.
طبعاً هنالك مشاهد ومزارات عديدة في المدينة المنورة ومكة المكرمة، أزالتها أيدي التكفير، مثل مقابر شهداء أحد ومقبرة الحجون التي تضم مرقد السيدة خديجة (سلام الله عليها). ومشاهد عديدة في مكة المكرمة وداخل المسجد الحرام، تمت إزالتها بحجة التوسعة وإضفاء طابع الحداثة على المباني المحيطة بالمسجد الحرام.
|
|