العولمة في الرؤية القرآنية (3 ـ3)
إصالة المنهج القرآني و وقوة التنفيذ
|
*الشيخ ماجد الماجد
آليات تنفيذ المنهجية القرآنية :
إن القرآن الكريم بعد أن بين المنهجية التي ارتضاها الله للبشرية جمعاء للعيش في سعادة بطاعة أوامر الله والانتهاء عن معاصيه يبين آلية تنفيذها، وهي كما يلي:
أولاً: الرسالة حوار وإقناع وإلزام.
أوضح القرآن خاصية هامة في بقاء الإسلام ودوامه وذلك من خلال الحوار والتفاهم والتذكير، لا بممارسة القوة وقهر الناس وإكراههم في الدين. وفي القرآن نماذج عديدة للحوار منها ما يكون بين الله تعالى وملائكته ومنها ما يكون بين الرسل والدعاة من جهة والمعاندين والمستكبرين من جهة أخرى، ما يؤكد أن التذكير لا القهر هو منهج الأنبياء ودورهم "فذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ" (الغاشية /21-22)، كما يؤكد القرآن على ضرورة تقديم الحجة والبرهان بين يدي كل زعم: "قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ" (البقرة /111).
ثانياً: وحدة الدين.
يؤكد القرآن الكريم أن الدين عند الله واحد، فقد تختلف تفاصيله من عصر إلى عصر، لكن أصوله تبقى واحدة، وتجري عليه الأمم جيلا بعد جيل "إن الدين عند الله الإسلام" فإن رسالات الله ليس بها تناقض أو تباين، إنما الاختلاف نابع من طبيعة المصلحة عند الإنسان، أما رسالات الله فهي دعوة واحدة إلى العدالة.
ثالثاً: إبراهيم رمز الوحدة بين الأديان.
تكرر الحديث عن النبي إبراهيم في القرآن الكريم وبذلك يفند القرآن رؤية كفار قريش بزعمهم أنهم ينتمون إلى إبراهيم الخليل، وأيضا فكرة اليهود والنصارى الذين يعتبرون أنفسهم الورثة الحقيقيين لإبراهيم الخليل، ليركز على العامل المشترك بين الأديان السماوية الرئيسية. وأبناء إبراهيم كانوا موحدين ولم يكونوا يهودا أو نصارى، فإذا عدنا إلى توحيد إبراهيم تنتهي بذلك خلافاتنا كمسلمين مع اليهود والنصارى، إذ أننا نؤمن بكل الرسالات وكل المرسلين من قبل الله تعالى، هذا هو خط التوحيد العام."وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ" (البقرة /135).
رابعاً: الكعبة تمثل رمز وحدة الرسالات.
بيت الله يعتبر رمزا للرسالات كلها، إذ أنه قبل كل بيوت العبادة، "إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ" (آل عمران/ 96). ففي البيت الحرام أكثر من بينة تدل على أنه البيت الأول، ومن أبرزها تلك الصخرة التي وقف عليها الخليل لبناء البيت. وإبراهيم الخليل هو الأب الروحي لرسالات التوحيد الثلاث، والجد الأعلى لبنى إسرائيل ولكثير من العرب، فهو موضع احترام الجميع.
خامساً: أهل الكتاب في الرؤية القرآنية.
القرآن يجوّز التعامل مع أهل الكتاب في التبادل التجاري وجميع التعاملات التي لا تضعف الدين، من أجل الحصول على منافع مشتركة، إضافة إلى إحياء المتعة الجنسية غير المحرمة، والتزام كل طرف بواجباته.
والأحكام في هذا المجال نوعان: الأول: هناك أحكام تحافظ على أمن الناس، وتصون حريتهم، وتؤمن لهم الحصانة بما يستطيعون به تبادل الأفكار، وتبادل التجارة، والتعاون من أجل الخير.وهذه الأحكام تحفظ الناس من شرور بعضهم، وتفسح المجال أمام كل الطاقات أن تساهم في بناء المجتمعات. النوع الثاني : الأحكام التي تنظم علاقة الإنسان بالطبيعة، والهدف منها صيانة البشر من الإضرار بالطبيعة، وذلك مثل حرمة الميتة والدم ولحم الخنـزير وما أشبه. والقرآن الكريم يضع الاعتبار للمسلم والكتابي في إطار التعايش السليم، فيقول: "الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمْ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ" (المائدة /5)، وبذلك يوجد الترابط والتماسك الاجتماعي. وفي إطار التعامل مع أهل الكتاب يبين القرآن ببصيرة حالتهم الذاتية التي ينبثق منها الحب والعدالة، فيصف اليهود بالعداوة بينما يصف النصارى بالمودة، وذلك لطبيعة النفسية التي يحملها هؤلاء وهؤلاء.
سادساً: عامل الزمن مأخوذ في تقدم البشرية:
أولى القرآن الزمن عناية قصوى، فجعل العبادات مرهونة بالزمن؛ بل إن الصحة والفساد مرهونة بمدخلية الوقت فيها بالنسبة للعبادات، "هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ" (يونس /5). وبذلك نجد القرآن يهدينا إلى التحولات اليومية في حياة الإنسان، وإن تقدم البشرية وفق المنهج السماوي لابد أن يرتبط بعامل الزمن، فالتأخر مرفوض، والتخلف قاتل، والمسلمون في عمليتهم الحضارية لا بد أن يأخذوا قيمة الزمن في حسبانهم.
سابعاً: الكفاءة مقدمة التمكين في الأرض.
القرآن الكريم يضرب لنا مثلا من حالة التمازج في الإمكانات والكفاءات، وأن هذا التمازج له مردود في التواصل بين الشعوب والديانات بما يخدم البشرية، ولا يمانع من الاستفادة من جميع الخبرات، وذلك أن الكفاءة هي التي بمقدورها إدارة البلاد والعباد، فيضرب القرآن مثلا من خلال الواقع الاقتصادي الذي هو أصعب جهاز إداري في أي مجتمع، لأنه يمس حاجات الناس الأساسية واليومية، من خلال الحديث عن قصة نبي الله يوسف، وكيف أنه وضع خطة اقتصادية ناجحة وطريقة للاستثمار الصحيح، وكيف أن ذلك يكون في خدمة الناس ومصلحتهم، وليس في مضرتهم.
رؤى في المنهجية الثقافية:
يطرح القرآن المرتكزات الثقافية للأمم كوحدة مرتبطة بالأديان، باعتبار أن أية أمة تستمد قوتها وشخصيتها المتميزة من ثقافتها، ولا ينبغي أن تتناقض هذه الثقافة مع ما تدين به لله تعالى. والنهي القرآني الذي ورد بخصوص عدم التأثر بالأفكار الغريبة والدخيلة، إنما هو نهي عن التورط في مشكلات تلك الأفكار، ولأن تلك الأفكار غير الصحيحة كانت السبب في هلاك معتنقيها من أصحاب الديانات السابقة من مثل مشكلة تجسيم الله كما فعل اليهود "فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً" أما الأفكار التي هي بنيات التجارب والجهود الذاتية للشعوب، والتي لها مدخلية بالتقدم المادي و التي لا تضر بقيم الدين، فإن القرآن لا يرفضها.
من هنا نجد القرآن ينهانا عن استيراد الأفكار و الثقافات التي تحلل المجتمع المسلم، وتساهم في تأخره، وذلك من خلال النهي القرآني "لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا"، فلفظة "راعنا" توحي حين استخدامها بتلك العلاقة الخاطئة في التعامل مع القوانين، ومحاولة عدم العمل بها، وهي تخفيف الأحكام من أجل ألا يعمل بها، في وقت يطرح القرآن لفظة بديلة هي (انظرنا) أي أمهلنا من أجل البحث عما نستطيع به أداء الواجبات والمسؤوليات. و باعتبار أن الثقافة القوية تبعث في الأمة القوة والطموح، والتطلع لتحقيق المزيد من الإنجازات، بينما المجتمعات الضعيفة تحاول تحقيق واجباتها قدر الإمكان.
وحين نقبل بثقافات الآخرين ليس لأن الثقافة الإسلامية أقل من ثقافة الآخرين؛ وإنما لأننا نؤمن أن ثقافة التقدم والسعي والجدية في الحياة هي من وحي رسالات السماء، فالأخذ بها أخذ بتعاليم السماء التي هي من صلب الرسالة الإسلامية.
نقاط لا بد من التأكيد عليها:
وهذه النقاط ينبغي لنا ممارستها كرجال دين ورجال علم، ومؤسسات وهيئات ثقافية، وأفراد رجالا ونساء، وهي مسؤوليتنا جميعا، وهي :
أولا: التأكيد على التوحيد وأن مصدر الوجود هو الله جل وعلا، فبالتوحيد نقاوم الشرك، ونوحد الراية وننبذ الصراعات الطائفية والعقائدية وجعل التوحيد الراية التي تتآلف بها القلوب وتجمع متفرقات الأمة.
ثانيا: التأكيد على الخصائص الفكرية والثقافية للأمة المسلمة، لأنها ستلعب الدور الرئيسي في العلاقات و المصالح، و تخفف الصراعات بين الأمم المختلفة على الكرة الأرضية، ولا يتم ذلك إلا بتأصيل الفكر والثقافة، والتأكيد على الانتماء الثقافي والحضاري الإسلامي.
ثالثا: تأكيد الهوية المسلمة والإيمانية لدى المسلم، وذلك من خلال الممارسة العقائدية والالتزام بالمبادئ.
رابعا: التأكيد على رواد هذا الدين من أئمة وعلماء وقادة ورجالات فكر من أجل تأكيد دور أمتنا الحضاري.
خامسا: التأكيد على تضحيات الشعوب التي أدت إلى الاستقلال في كثير من بلدان العالم، وإبراز التحديات والانتصارات التي أبدتها أمتنا الإسلامية.
سادسا: التأكيد على الأخلاقيات والمناقبيات الدينية، وممارستها عمليا، وإن قاعدة الإسلام قائمة على التسامح وقبول الآخر إذا كان غير ممارس للعدوان علينا.
سابعا: إن السلم المنشود حق للجميع، وتتم الاستفادة منه كل بحسب استعداده وقوته، فلا بد من التأكيد على بناء الإنسان القوي في قدراته وطاقاته، وتطوير العلاقة بين الأمة ورموزها وقادتها وأجيالها الصاعدة لما فيه خير الأمة.
|
|