الشيخ جعفر الخطي..، شارع البحرين والخليج
|
*حيدر ناصر
البحرين لؤلؤة الخليج ودرة في متحف الشعر والادب اتحفت سماء العرب بكواكب مضيئة على مر العصور وخلف ابناؤها المبدعون تراثاً فكرياً خالداً. وقد شهدت البحرين ولادة شعراء كبار تزعموا الحركة الشعرية في الخليج العربي في وقت ما، كما كان في عصر شاعر الخليج الشيخ جعفر الخطي الذي ولد في الخليج وعاش متغرباً حتى أدركته المنية في بلاد بعيدة، فكان اجمل شعره وأخلده هو ما كان صدى لعواطفه ومظهراً لحنينه لأرضه والتشوّق لمسقط رأسه، فكان لنا منه ذخيرة من الرقة واللوعة تدفقت شعراً رقيقاً وقصائد شجيّة مليئة بأنين الفراق وزفرات الشوق والحنين، وهذه النبرة من الشعر البحريني لم تكن غريبة على شعراء عاشوا قبل الخطي وبعده حتى اصبحت سمة من سمات الشعر البحريني، فقد لهج به الشعراء نغماً عذباً وشدواً رقيقاً خالداً ذكره خلود الادب ولعل ابرزهم شيخنا جعفر الخطي الذي شاءت ارادة الله ان يذوق الغربة والنزوح عن الاوطان حتى يموت غريباً عن وطنه الذي طالما تغنى به وتشوق له فقال في بعض ذلك:
يا هل ترون لنازح قذفت به
لاتحسب (البحرين) أني بعدها
ما اصبحت (شيراز) وهي حبيبة
ــــــــــــــــ عجزـــــــــــ
أيدي البعاد (لجدّحفص) إيابا
متبوئ داراً ولا اصحابا
عندي بأبهج من أوال جنابا
هو الشيخ جعفر بن محمد بن علي بن ناصب بن عبد الامام الشهير بالخطي البحراني العبدي احمد بني عبد القيس بن شن بن قصي بن دعمي بن جدلية بن اسد بن ربيعة بن نزار بن سعد ابن عدنان كما نص على نسبه هذا الشيخ البهائي (قدس سره) وقد عرف شيخنا بكنية (ابي البحر) ولعل هذه الكنية جاءت اليه من نسبة بلده. وجاء في ترجمته في (سلافة العصر) للصدر ما لفظه: (ناهج طرق البلاغة والفصاحة الزاخر الباحة. الرحيب المساحة. البديع الاثر والعيان الحكيم الشعر الساحر البيان. ثقّف بالبراعة قداحه، وادار على السامع كؤوسه واقداحه من الشهرة المدى وسار به من يسير مشمرا وغنّى به من لا يغني مقرراً، وقد وقفت على فرائده التي لمعت فرأيت ما لاعين رأت ولا أذن سمعت وكان قد دخل الديار العجمية فقطن فيها بفارس ولم يزل بها وهو لرياض الاداب جان وغارس حتى اختطفته ايدي المنون فعرس بفناء الفناء وخلد عرائس الفنون).
وربما يخطر ببال القارئ في هذه الترجمة انها من اساليب الصنعة التي اشتهرت في ذلك الوقت وهو التفنن في الاسلوب البديعي الذي يقود الكاتب الى الإطراء المبالغ فيجره السجع الى تلوين كلماته وجمله فيشط عن جانب الحقيقة ولكن من يطلع على ديوان الشيخ جعفر الخطي يجد ان هذه الترجمة كانت تليق بشاعرنا وهو قمين بها وخليق، ومما يشهد على ذلك انه لما سافر الى اصفهان اجتمع بالشيخ بهاء الدين محمد العاملي الذي جمع الى الحكمة والعلم والشعر والاداب، فكان لقاء هذين العلمين في اصفهان مجالاً لتساجلهما بالشعر، فاقترح الشيخ البهائي على شاعرنا معارضة قصيدته الرائية:
سرى البرقُ من نجدٍ فهيج تذكاري
عهوداً بحزوى والعذيب وذي قار
فقال له البهائي: قد أمهلتك شهراً فقال له الشيخ جعفر : بل يوماً في مجلسي، فاعتزل ناحية وانشد هذه القصيدة التي مطلعها:
هي الدار تستسقيك مدمعك الجاري
فسقياً فأجدى الدمع ما كان للدارِ
وفيها يقول:
فانت امرؤ بالامس قد كنت جارها
عثرت الى اللذات فيها على السنى
فاصبح قد انفقت اطيب ما مضى
نواصع بيض لو افضن على الدجى
ـــــــــــــ عجزـــــــــــــــ
وللجار حق قد علمت على الجار
سناء شموس مايغبن واقمار
من العمر فيها بين عون وابكار
سناهن لاستغنى عن الانجم الساري
وفيها يذكر ايضاً حنينه الى وطنه البحرين فيقول:
أ موسم لذاتي وسوق مآربي
ومحبني لباناتي ومنهب أوطاري
سقتك برغم المحل اخلاف مزنة
تلفّ اذا جاشت سهولاً باوعار
وقال في مدح الشيخ البهائي:
الى ماجد يعزى اذا انتسب الورى
الى معشر بيض أماجد أخيار
ومضطلع بالفضل زرّ قميصه
على كنز آثار وعيبة أسرار
سميّ النبي المصطفى وأمينه
على الدين في ايراد حكم واصدار
ولما وصل شاعرنا الى قوله:
جهلت على معروف فضلي فلم يكن
سواه من الاقوام يعرف مقداري
قال له الشيخ البهائي واشار اليه جماعة من سادات البحرين واشرافهم كانا جالسين عنده:
"هؤلاء يعرفون مقدارك ان شاء الله تعالى على انه لم يبق فما اظنه من الارض شبر لم تطبه". ولما أتم شيخنا الخطي قصيدته الطويلة كتب اليه الشيخ البهائي مقرضاً: "ايها الاخ الاعز الفاضل الالمعي بدر سماء ادباء الاعصار وغرة سيماء بلغاء الامصار. أيم الله اني كلما سرحت بريد نظري في رياض قصيدتك الغراء و رويت رائد فكري من حياض فريدتك العذراء بها و لوعي وهيامي واشتد اليها ولهي و اوامي فأنما عناها من قال:
قصيدتك الغراء يافرد دهره
تنوب عن الماء الزلال لمن يظما
فتروي متى ترى بدائع لفظها
ونظماً اذا لم ترو يوماً لها نظما
ولعمري لا أراك إلا آخذاً فيها بأزمة أو ابد اللسن تقودها حيث أردت وتوردها انى شئت وارتدت حتى كانت الالفاظ تتحاسد على التسابق الى لسانك والمعالي تتغاير في الانثيال على جناحك والسلام".
وللقارئ ان يتبين مدى شعرية الخطي من خلال هذا التقريض الذي جاء من علم من اعلام الفكر والادب في التاريخ الاسلامي. وهناك تقاريض ايضاً من أعلام عصره لم يخف عليهم انبهارهم بقصيدته وهي وان تكن تقاريض جاءت من مفكرين وشعراء وكبار فانها لا تقوم بالتعريف بشاعرنا وهي ان استطاعت ان تدل عليه وتشير، ولعل قصيدته الرائية التي ذكرناها هي من اجود شعره فقد بقيت تتناقلها الالسن وتشدو بها الافواه في المجالس وفيها يخاطب الامام المهدي عجل الله فرجه قائلاً:
وألزمتني مدح امرئٍ لو مدحته
بشعر بني حوا ودع عنك أشعاري
لقصرت عن مقدار مايستحقه
علاه فأقلالي سواء واكثاري
امام هدىً طهرٌ نقيّ اذا انتمى
الى سادة غر الشمائل أطهار
وبرٌ لبرٍ مانسبت فصاعداً
الى آدم لم ينمه غير ابوار
ومنتظرٌ ما أخّر الله وقته
لشيءٍ سوى ابراز حق واظهارا
له عزمة تثني القضاء وهمة
تؤلف بين الشاة والاسد الضاري
ابا القاسم انهض واشف نملّ عصابة
قضى وطراً من ظلمها كل كفّار
الى م وحتى م المُنى وانتظارنا
سحائب قد اظللن من دون امطار
ذوت نظرة الصبر الجميل وآذنت
بيبس لإهمال تمادى وانظار
ومن شعره في الحنين الى وطنه ما رسم منه صورة جميلة عن المجتمع البحريني في ذلك الوقت فيذكر الاماكن ويتشوق الى المنازل فيقول:
هلاّ سألت الربع من سيهات
عن تلكم الفتيان والفتيات
ومجرّ أرسان الجياد كأنها
فوق الصعيد مسارب الحيات
ومجدّ فات السفن أدنى برها
من بحرها ومبارك الهجمات
حيث المسامع لا تكاد تفيق من
ترجيع نوتي وصوت حداة
ويحل شاعرنا بمدينة شيراز سنة 1012هـ فيهيج وجده ويطول جواه فيقول:
يا ساكني الخُط في قلبي لكم خطط
معمورة بمعانيكم مغانيها
يا هل ترون لمحنيّ الضلوع على
ذكر الديار وقوفاً في محانيها
ماذا على الطير إذ ابلى الضحى جسدي
فخفّ لو حملتني في خوافيها
ان يقعد الطير عن حملي لكم وسرت
ريح الصبا فاطلبوني في مساريها
ويقول تارة أخرى:
هل لي الى تلك المنازل عودة
يخبو بها وجدي وفرط زفيري
هيهات ما شيراز وافية بما
في تلك لي من نعمة وحبور
وقد قُدر لشاعرنا ان يموت بعيداً عن وطنه، فمات بشيراز سنة 1028هـ ــــ 1618م بعد ان ترك فكراً لاينسى وارثاً لايفنى.
|
|