الثقافة الاصيلة و معالجة أزمة التطور
|
*كريم الموسوي
عندما يعرف الباحثون واللغويون(الثقافة) على انها منظومة من السلوكيات والمتبنيات والمواقف التي تعبر ضمير وواقع المجتمع، فانها لابد وان تواكب مسيرة التطور في هذا المجتمع، فالمسألة مصيرية ومن غير الممكن ان يعيش مجتمع دون ثقافة، وان كنّا نقول سخطاً: هذا مجتمع غير مثقف او بعيد عن الثقافة، فنحن بالحقيقة اعترفنا بفقدانه لثقافته السابقة ثم اعترفنا بوجود ثقافة بديلة تسوده بغض النظر عن هوية و مواصفات هذه الثقافة ومصدرها.
هذا الانفصام أدى بالدرجة الاولى الى تخلف المجتمع الاسلامي عن قافلة التطور العالمي، وتبعاً له شهدنا وما نزال الحرمان والتبعية والانقياد الى الحروب الخارجية والاهلية دون طائل. ولذا نجد مجتمعاتنا تبحث باستمرار عن الثقافة التي تنقذه من ازمة التطور والنمو، لكن اين تكمن المشكلة؟ ولماذا هذه الازمة ؟
أولاً: ضياع المقاييس الصحيحة
للتخلص من ازمة التخلف والتقدم خطوة في مسيرة التطور، يطالب البعض بالتغيير الشامل والبناء الكامل من جديد، وبالنتيجة نبذ القديم برمته والارتماء في احضان الحداثة والمعاصرة. بينما البعض الاخر نراه متشبثاً بالقديم بضغط المصالح والظروف السياسية والاجتماعية والنفسية. وبشكل عام نرانا نختبط في دوامة من الافراط والتفريط، وبين الجموح والجمود. هذه الحالة تجعلنا بعيدين عن الرؤية العميقة والشاملة للامور، تجعلنا وكأننا نعيش اللحظة الراهنة لسرعة الزمن المذهلة ومعها سرعة التطورات في عالم التكنولوجيا والصناعة والانتاج.
لكن حقيقة واحدة يبدو انها تغيب عن الاذهان في عملية البحث عن الحلقة المفقودة في ازمة التطور والخلاص من قيود التخلف، وهي استمرارية حركة التطور في الحياة بغير ارادتنا ومشيئتنا. فهل يستطيع احد ان يبقي المساء مع ظلامه طوال ساعات اليوم؟ او يبقي أشعة الشمس ساطعة طوال اربع وعشرين ساعة؟! أو بامكاننا ان نقول للاطفال أن لا يكبروا ويبقوا على أعمارهم الصغيرة لسنوات؟! إذن؛ التطور والتحول سنّة الحياة، مشهودة في الانسان وكذلك في الحيوان والنبات(ولن تجد لسنة اللـه تبديلاً).
والحقيقة الأهم والتي هي الاخرى تغيب عن ذهننا ان الدين الاسلامي الرائد في حثّ الانسان على التطور ومواكبة سنة الله في الارض، ويبارك في التغيير الصالح في كل شيء، ولكننا مع ذلك ترانا نعادي التطور. لماذا ؟
الحقيقــة ليس ذلك لاننا لا نحب ان نرى بلادنا مزدهرة ينعـم فــي ظل نعيمها ابناؤنا القادمون، ولا لاننا لم نعرف ان الشمس تجري ولن توقفها ارادة بشر امثالنا وان التطور سنة لا تبدل. لا لهذا ولا لذلك يمنع التطور انما لواحد من عاملين:
اولهما : الهيبة؛ فنحن لا نعلم ماذا وراء الاكمة، فنحذر منها ونتقي من تسلقها، عندما تعودنا ركوب الحمار، كنا نخشى لو استبدل الحمار بالقطار ان يحدث امر مكروه! فنفضل القديم بالرغم من روعة الجديد.
وثانيهما : ان قوى كثيرة في بلادنا تعيش اليوم على نمط الحياة القديمة، وتخشى لو تطور هذا النمط ان تتأثر مصالحها به ؛ وصحيح ما تخشاه، اذ ان التطور سوف يقضي على مصالح فريق من الناس، ولكن بشرط واحد هو جمود هذا الفريق على القديم، اما اذا تطور هو أيضا مع موكب الحياة لما تأثر شيئا. فعمال النسيج في أوروبا تأثرت مصالحهم حين اكتشف المحرك البخاري، ولكن بمجرد ان تطوروا زادت اجورهم اضعافا.
من هنا نعرف ان النظرة السطحية فقط هي التي تجعلنا نزعم ان التطور يضر بنا، كلا انما ينفعنا بشرط ان نعرف طريقة استثماره.
ثانياً: قيود التقليد
ان عملية التطور تكون ممكنة بعد الايمان بأن تصحيحاً ما لابد ان يجري في الانسان نفسه باعتباره العامل المسؤول عن التغيير، ولكن هل يتسنى للنفس ان تصبح مغيّرة واقعا دون ان تفقه ضرورة التغيير الذي يستوجب الابداع ايضاً؟ إذ ما من فاسد يزول الا وهو بحاجة الى صالح يخلفه، ومشكلة النفس انها لا ترتفع الى مستوى الابداع حتى يتحقق التغيير، وفي غير هذه الحالة فلا مفر من التقليد والتبعية في كل شيء. يقول المفكر الجزائري مالك بن نبي:(لقد تقوست ظهور أمهاتنا قبل ان يأتي الغربيون ويضيفون العصا الخشبية الى(المكناسة) لتقوم أمهاتنا بكنس الارض وقوفاً بدلاً من الانحناء الى الارض!
كذلك في كافة شؤوننا الحيوية الملحة، لم نرتفع الى مستوى الابداع نفسياً بالرغم من اننا كنا ذوي كفاءة عقلية كاملة. والانسان الذي يركن الى ظل التقليد من الصعب عليه ان يقلع عنه، وحتى ولو استهدف تطورا في حياته فانه يبحث عمن يقلده في هذا التطور.
و ابسط مثل لهذه الظاهرة الاصيلـة فـي الانسان المقلد وهي ظاهرة التقليد في التطور، نجد أبسط الامثلة لها في حياتنا الراهنة، حيث صممنا على التطور ولكن التطور على قياس المقلدين لا على قياس المغيرين، فتورطنا في متناقضات عديدة:
أولاً: التناقض في الفكرة..
ان الغرب ابدع عدة مناهج ثم استقر اخيرا على التمسك ببعضها، كالمنهج الديمقراطي والمنهج الاشتراكي، وكانت ظروف كثيرة قد اوجبت هذا الاختيار فجاء فريق من المسلمين وانبهروا بهذه المناهـج المختارة دون ان تكون لديهم ذات الظروف التي كانت في الغـرب.
فمـثلا في الغرب : كانت الاحزاب قوية، والوعي الوطني شاملاً، ونسبة الامية منخفضة، ووسائل الاعلام متوافرة بحيث سمحت للنظام الديمقراطي بالسيادة دون احداث فوضى في البلاد، غير ان ذات الامكانات في بلادنا لم تكن متوفرة، لهذا رأينا كيف اصطدمت التجربة الديمقراطية في بلادنا بعقبات كبيرة كادت ان تودي بالبلاد الى الفوضى وحتى الحرب الاهلية كما شهده العراق منذ التاسع من نيسان عام 2003. ورغم الجهود المبذولة لانجاح التجربة، لكن المشكلة تبقى افتقاد هذه الديمقراطية للاساس والقاعدة التي تستند عليها وتحميها من السقوط.
البعض يعلل صعوبة التجربة بانها(حالة صحية)! مستشهدين بالبلاد الغربية، نعم؛ حدثت ازمات متضاربة لأسباب تأريخية، منها الازمة بين العامل و رب العمل في البلاد الرأسمالية التي خرجت منتصرة من الثورة الصناعية، وتمخضت الازمة عن ظهور بديل متطرف وهو(الاشتراكية)، هذه الازمة كانت نتيجة طبيعية لمجموعة عوامل أبرزها التضخم الرأسمالي في الغرب مما سبب مظالم كثيرة للعمال انفجرت في مطالبات عنيفة وشديدة بالعدل والانصاف، وهو فسح المجال لمفكرين امثال(كارل ماركس) لأن يقولب أو يؤطر هذه المطالبات في نظرية(رأس المال) ثم ظهور(الماركسية) وبالنتيجة تشكيل أحزاب اشتراكية تدعو الى(الشيوعية) وتحديد الملكية الفردية.
ولكن هل في الشرق الاسلامي رأسمال؟ أم هل فيها عدد ضخم من العمال؟ ثم هل هناك من مظالم تلحقهم؟ هذه الاسئلة لم يفكر فيها اولئك الذين قلدوا الغرب في هذه المناهج، لان(ظاهرة التقليد في التطور) لم تدع لهم مجالا للتفكير.
ثانياً: التناقض في العمل
توهم الكثير من المثقفين العرب منذ بداية القرن الماضي بان الاسلام لا ينسجم مع العلم والعمل والانتاج، انما يدعو الانسان لاسيما رجل الدين أو(المتديّن) بالتمسك بكل ما هو قديم وأصيل والابتعاد عن التطور والتكنولوجيا، وهذه مغالطة تفضحها التأكيدات الواضحة لسيرة الرسول الأكرم واهل البيت عليهم السلام على طلب العلم والمعرفة وزيادة الوعي وتكريس الثقافة. لكن الاندفاعة نحو التقليد لم يدع أي مفكر او مثقف عربي لأن يميّز بين الظروف في الغرب المسيحي ومثلها في الشرق الاسلامي، فقد نبذ الغرب الكنيسة لتخلفها ومحاربتها للعلم فاتجه نحو الفكر المادي، بينما الاسلام لم ولن يكون يوماً على شاكلة النهج الكنسي البعيد عن تعاليم السماء، فأي عالم دين له مشكلة او اعتراض على ابتكار علمي او تطور تكنولوجي من حيث المبدأ والفكرة، بصرف النظر عن الاستخدام واشكالها. وهذا ما جعلنا نقلد كل ما صنعه الغرب لحاجته ولظروفه الخاصة، مثال ذلك الساعة اليدوية، فهي بالاساس صنعت لضبط وقت العمل في المعامل والمصانع، بينما نحن اليوم نشدّها على ايدينا من اجل الزينة في اغلب الحالات، بينما ننسى اننا بدايةً يجب ان نطبق الحديث النبوي الشريف:(المؤمن إذا وعد وفى). كذلك الحال مع وسائل الاتصال المتطورة والنقل وغيرها، استخدمناها لكن في غير مواردها الصحيحة، إنما تمادينا في الاسراف والتبذير وفي خطوة الى الوراء نحو التخلف والتبعية.
|
|