إصرار الجميع على الحكم تهدد ديمقراطية العراق بتجربة (كنوز قارون)
|
*إعداد / بشير عباس
تسائلت طويلاً؛ لماذا بيّن ربنا سبحانه وتعالى قصة قارون وبصورة مفصلة في ختام (سورة القصص)؟
إن (سورة القصص) تبين لنا معالم الحركة الرسالية، وكيف ان الله تعالى ينقذ امة مستضعفة كبني اسرائيل عبر قيادة يختارها الله لهم، ويصطنعها لنفسه. في بداية السورة نقرأ قصة فرعون، ثم نقرأ سنة الله في البشر حيث يقول: "نريد ان نمن على الذين استضعفوا في الارض ونجعلهم ائمة ونجعلهم الوارثين ونمكن لهم في الارض" ثم يبين كيفية ظهور هذه القيادة في قوله تعالى: "واوحينا الى ام موسى ان ارضعيه" ثم نقرأ سياق القصة وكيف ان الله حافظ على موسى عليه السلام؟ وبعد ان بلغ مرحلة الشباب كيف كوّن حركة رسالية سرية ومن ثم بسبب حادثة النزاع بين من هو من شيعته ومن هو عدوه، فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه فوكزه موسى فقضى عليه. ومن ثم خرج من مصر الى مدين وبالتالي عاد ومعه الرسالة والى اخر القصة...؟ وكيف انتصر ربنا لموسى ولبني اسرائيل وكيف وصلوا الى الحكم وتحققت ارادة الله وقال: "ونريد ان نمن على الذين استضعفوا في الارض ونجعلهم ائمة ونجعلهم الوارثين"، من خلال هذه القصة يتبين لنا ان قصة بني اسرائيل مع موسى عليه السلام كانت بيد الله تعالى من بداية انعقاد نطفة موسى عليه السلام، وحتى تحقيق النصر الالهي على فرعون.
إذن؛ فماهي مناسبة قصة قارون في هذا السياق؟
قارون .. وعبرة الاختبار بالمال
ان قصة قارون تبدأ من حيث تنتهي أزمة بني اسرائيل ومشكلتهم مع الحاكم الظالم والطاغية الدموي المعروف (فرعون)، فبعد تحقيق الانتصار بدأت الاموال والامكانات والسلطة والوجاهات والوزارات تنهال عليهم، بمعنى انهم دخلوا الامتحان الصعب، ففي الوقت الذي كانوا مستضعفين في الارض، وكان احدهم لا ينام مع زوجته باطمئنان في بيته لوجود جواسيس فرعون الذين يبحثون عن الاولاد الذكور ليذبحوهم، كان الجميع مؤمنين متوسلين بالله، لكن بعد الانتصار واستحصال عوامل القوة والقدرة من مال وجاه، نسوا ربهم وتاريخهم وخرج منهم شخص مثّل الشر كله ومعه اتباع اسمه (قارون).
في هذه السورة المباركة يتحدث ربنا تعالى عن هارون ويقول: هذا الرجل كان من قوم موسى فبغى عليهم، لكن لماذا اتخذ هذا الموقف وتحول الى خنجر في ظهرهم؟
من الواضح ان القرآن الكريم لم يأت ليكون كتاب تاريخ، انما هو كما الشمس، اذا تغيب يوماً فانها تشرق بعدها من جديد وعلى يوم جديد، كذلك القرآن الكريم، علينا ان نقرأه كل يوم ونستفيد من آياته ونطبقه على واقعنا الذي نعيشه اليوم وغداً والى يوم القيامة، حتى لا نقع فيما وقع فيه الاخرون. وهنا قارون كان احد افراد بني اسرائيل "إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى"، فكان معهم يصلي ويصوم ويتعبد ويشارك في التخطيط والعمل السري و... غير ذلك، لكن الذي حدث هو البغي... "فَبَغَى عَلَيْهِمْ"، أي انقلب عليهم و تمرد على الطريق الصحيح، ثم "وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ"، فقد اصبحت لديه اموال هائلة. طبعاً في تلك الايام لم تكن المصارف والبنوك التي يودعون فيها الاموال، انما كانت توضع في خزائن او مخازن كبيرة لها مفاتيح، وكانت هذه المفاتيح كبيرة جداً مما كان يقتضي استدعاء حمالين لحملها، لكن نصحه قومه وقالوا: "إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ".
ان مشكلة البعض من البشر انهم يستبعدون من حيث لا يشعرون ان المال وكل اسباب القوة والقدرة تدوم لهم وانها يوماً ما ستنفصل عنهم الى الابد، وحالهم في ذلك حال الطفل الصغير الذي يتركز ذهنه ومطلبه على لعبة صغيرة يرغب بامتلاكها، فينسى جوعه وعطشه وكل شيء، وعندما يحصل عليها تراه يطير في الفرح السرور كما لو انه ملك الدنيا بأسرها. ان المال لم ينقذ يوماً انساناً من قدرٍ محتوم باصطدام سيارته او سقوط طائرته في الجو، وان رحل عن هذه الدنيا الفانية لن يتمكن قطعاً من اصطحاب فلس واحد الى بيته الصغير والجديد (القبر) سوى قطعتين من قماش الكفن. صحيح إن المال من عوامل السعادة، لكن هناك عوامل اخرى. إذن؛ هنالك بعض الاشخاص ما ان يحصل على شيء من المال او الجاه والمنصب، فانه يتصور انه حصل على كل شيء، فينسى اهله ومجتمعه، وعندما يكون خلف طاولة الادارة او الرئاسة يتكلم وكأنه طاغوت، بل يبدأ يتفرعن حتى على عائلته واولاده. لكن بعد ان يطرد من الوظيفة او يخسر منصبه لسبب او لآخر، فانه سيكون في نظر الناس والمجتمع انساناً ممسوخاً، حتى عائلته لن ترد السلام عليه، ولسان حالهم؛ انك عندما كنت مسؤولاً وصاحب منصب لم تكن ترد السلام، والان نحن اليوم لا نسلم عليك! ادرسوا حياة الطغاة الذين يزاحون عن مواقعهم، تجدون جميع الناس يتبرؤن منهم. لننظر الى الجيش المصري الذي يتولى ادارة البلاد حالياً، ألم يكن يوماً ما تحت إمرة حسني مبارك؟ لكن من الذي يعتقل هذا الرئيس المخلوع ؟ أليس الجيش نفسه؟ إذن؛ لا مجال للفخر والتعالي لمجرد امتلاك شيء من النقود او المنصب.
وفي سياق الآيات الكريمة يقول تعالى: "وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا" ان بامكان الانسان ان يشتري الاخرة بما عنده من المال، ثم له ان يعيش عيشة راضية في هذه الحياة الدنيا ويوفر القدر المعقول من الراحة والاستقرار. طبعاً هنالك بعض التفاسير تذهب الى ان الاية "ولا تنسى نصيبك من الدنيا"، بمعنى (لا تنسى كفنك)، لأنه الوحيد الذي يأتي معك الى القبر.
إحدى النسوة سافرت الى الحج ، وبعد عودتها أعطت زوجها هدية من الحج عبارة عن (كفن)! تقول: لما قدمت الهدية الى زوجي ذهب الى الغرفة المجاورة وتأخر قليلاً، فتقول: ذهبت الى الغرفة لارى سبب تأخره ، فرأيته مرتدياً الكفن وهو يحرك يده و رجله، قلت له: يا رجل ماذا بك...؟! قال: حوطت بدني بهذا الكفن لأرى هل هو ما قياسي أم لا؟! فاذا رأنا ملك الموت او جاءني منكر ونكير فكيف اخرج معهم؟! قالت له: لكن لماذا ترفع يدك وتدخلها في داخل الكفن، قال: ابحث عن الجيوب...! قالت: وما تفعل بها؟ قال: إذن؛ واين اضع الشيكات...؟!! طبعاً كان الرجل من المؤمنين، لكنه فعل ذلك ليوضح لي ولامثالي ان الكفن يكون دون جيوب حتى توضع فيها الاموال، فهذا الكفن هو الوحيد الذي يأتي مع الانسان الى القبر.
الطغيان يولد الفساد
في سياق الآية الكريمة يقول تعالى: "وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ".
البعض يقول: ان الاموال التي بحوزتي انما انا الذي كسبتها بجهدي وبالرشاوى التي دفعتها لهذا وذاك، وليس كما تقولون انها من الله تعالى...!!
بالحقيقة؛ اذا لم نكن قادرين على تطبيق القرآن الكريم فلماذا نقرأه إذن؟ ان النقود الحرام تولد الحرام في المجتمع. ان الاموال التي تأتي من مصدر الحرام تتسبب بتلويث وتهديم المجتمع، كما ان المرأة التي تخرج الى الشارع بزينتها وتبرجها فتسبب تلوّث البيئة الاجتماعية والاخلاقية، وذلك عندما ينظر اليها هذا الشاب وذاك الرجل، او ذلك الشاب الذي يرفع صوت الاغاني من مسجل سيارته فانه يلوث البيئة الاخلاقية في المجتمع ايضاً. هذه الحالات مشابهة تماماً لمن يأتي وسط الشارع النظيف وتحت سماء زرقاء وهواء عليل ويحرق عجلة سيارة كبيرة ويحدث دخاناً أسوداً فهل يسكت عليه الناس وينظرون اليه...؟!
كذلك فعل (قارون)، فقد خرب البيئة الاخلاقية لدى بني اسرائيل، وفي هذه الاثناء تحسّر البعض وقال: يا ليتني اكون مثل (قارون)، املك الاموال واسير امام الناس بكل فخر وتكبر، وهم يخضعون لي ويطيعون أمري. لكن وسط كل هذا الغرور والتعالي، واذا بالارض تهتزّ بهذا الطاغية ثم تتشقق وتتمدد لتبتلع كنوزه وخزائنه وكل مايملك مرة واحدة. وقد حصل ان قرى كاملة ابتلعتها الارض الى عمق عدة كيلومترات، فمات سكان تلكم القرى وذهبت معهم ممتلكاتهم وسياراتهم وبيوتهم وكل شيء.
ان الله تعالى ومن خلال قصة (قارون) يعطينا حكمة وفلسفة وعبرة حيث قال: "تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ". هذه القصة يوردها الله تعالى في كتابه المجيد ليحذرنا بانكم؛ أيها المؤمنون الرساليون....! يا من عملتم في المهاجر وجربتم المنافي والسجون والتعذيب وخضتم الحياة القاسية، فاليوم وقد حصلتم على فرصة في هذه الحياة، لا يجب ان تنسوا ماضيكم وايمانكم ورساليتكم. فاذا حصل ذلك فان غضب الله تعالى ينزل على الناكر للجميل والنعمة الالهية، فالعذاب والغضب الالهي لم يأت على فرعون لان اسمه (فرعون)، فالمهم عنده تعالى هو المحتوى والقلب والعمل، فمن يفعل ما فعله فرعون وقارون فان غضب الله سيحلّ به وان كان يحمل اسماً جميلاً وحسناً، فان الله سيبدل الاسماء، فالبعض ربما يكون اسمه في الدنيا حسناً، لكن في الآخرة يكون قبيحاً وسيئاً! هذا ما فعله الامام الحسين يوم عاشوراء في كربلاء، فقد جاء اليه أناس يدعون بانهم شيعة علي بن ابي طالب عليه السلام، لكنهم جاؤوا يحاربون الامام الحسين! لذا بدّل الامام عليه السلام اسمهم وقال لهم: (يا شيعة آل ابي سفيان...)! بمعنى انتم لستم من شيعتنا انما من شيعة آل ابي سفيان لانكم في صف الاعداء.
الديمقراطية على الطريقة العراقية
خلال السنوات الماضية طبقنا نظام حكم بطريقة تسمي (الديمقراطية الغربية)، وتحدثت فيما مضى حول هذه الديمقراطية، بانها قامت في الغرب على أسس وقواعد لا توجد عندنا.
وهناك امر آخر في هذه الديقراطية، وهي انها تتضمن في نظامها السياسي ، جانب المعارضة الى جانب الحكم، لكن لم نر يوماً ديمقراطية يكون الجميع فيها حاكمون، بمعنى ان جميع الذين تم انتخابهم ويجلسون تحت قبة البرلمان يريدون ان يحكموا، فمن يقوّم هذا الحكم؟ واين المعارضة السياسية؟
اتصل بيّ جماعة وقالوا: نريد ان نشكل معارضة خارج العراق. فقلت : ولماذا خارج العراق؟! ألا توجد حرية في العراق؟ تعالوا واستفيدوا من القوانين والقواعد الدستورية لممارسة المعارضة السياسية ايجابياً، ولماذا يكون الانسان متشبث دائماً بالاسلوب العنيف وغير السلمي. بينما نحن بحاجة ماسّة الى هذه المعارضة لسببين:
الفائدة الاول: انه المعارضة سواء في داخل البرلمان او ضمن مجالس المحافظات او من خلال وسائل الاعلام وسائر وسائل المعارضة السلمية والشرعية الحكيمة، تقوم بدور تبيين اخطاء الحكم، والحديث الشريف يقول: (المؤمن مرآة أخيه المؤمن)، فربما يقوم المسؤول بعمل خاطئ فينبهونه عليه، حينئذ تكون الرؤية امامه واضحة، ولا يقول البعض: نعترض ونصحح، ولا أحد يطبق... فاذا جاء الكلام الصحيح والمنطقي فهنالك أناس طيبون في الحكم سيقبلون ويسمعون الكلام. فمن اساليب العمل الرسالي والديمقراطي والديني هو أن لا نتهم الاخرين من دون أدلة.
الفائدة الثانية: ان المعارضة تجمع الناس الطيبين الذين هم خارج اطار الحكم وتصنع منهم (حكومة ظل)، فمن يذهب الى فرنسا او بريطانيا او امريكا يرى هنالك حكومة منتخبة تمارس صلاحياتها وتحكم البلاد، والى جانبها هنالك (حكومة ظل) تشكلها المعارضة، وهؤلاء ايضاً لديهم حكومة بوزراء للخارجية والداخلية لكنهم لا يحكمون انما هم في الظل، فاذا حصل ان عجزت الحكومة الفعلية عن اداء عملها بشكل صحيح، وأجريت انتخابات جديدة، فان (حكومة الظل) ستكون جاهزة لتسلّم مهامها فوراً. بمعنى ان المعارضة بالحقيقة تقوم بدور تربية رجال الحكم المستقبلي.
هذه التجربة نفتقدها في ديمقراطيتنا بالعراق، فنحن نريد من الناس ان يتكلموا بكل صراحة ووضوح ودقة. لقد تعلمنا فترة من الزمان العمل تحت الارض وفي الاقبية بسبب الظروف الامنية، لكن اليوم اختلفت الحالة أنما المطلوب العمل في وضح النهار، فاذا يقول البعض: انا اخشى على موقعي السياسي وذاك يخشى من كلام الاخرين، ففي هذه الحالة لا نلوم الا انفسنا. فهذا النوع من الخوف والخشية هو الذي أتى بشخص مثل (صدام) ليحكم العراق ويفعل كل تلك الجرائم والويلات. اما اذا أصرّ الجميع على ان يكونوا وزراء ومدراء ورؤساء ويهيمنوا على الامكانات والقدرات، فانهم سيقعون في نفس الخطأ الذي وقع فيه جماعة قارون، فهو لم يكن وحده ، انما كان مع مجموعة هو على رأسهم حسب ما تشير الايات الكريمة.
فاذا حصلنا على الفائدتين، فنحن بالحقيقة سنجمع بين الامرين: بين ان نسدد الحكم وبين ان نؤيده وكذلك نربي طاقات لمستقبل البلد. وهذا في الواقع هو الذي نستفيده من الايات القرانية، وحسب فهمي للتاريخ، فان هنالك ايضاً كانت حكومات ظل بطريقة او باخرى، في العهود السابقة. وفي احاديث اهل البيت عليهم السلام ثمة كلمة غريبة يقول مضمون الحديث: (اذا لم يكن عند الانسان حكيم يرشده يكون ذليلاً)، لان الحكيم يرشد الانسان حتى لا يقع في الاخطاء الكبيرة والذي يقع في هذه الاخطاء الكبييرة سيكون ذليلاً.
|
|